الجامعة العربية.. ضرورة التغيير
الجامعة العربية.. ضرورة التغيير
د. لطفي زغلول /نابلس
إن الحديث عن جامعة الدول العربية ذو شجون وأشجان. بداية فهذه الجامعة لم تكن في الحقيقة إلا من بنات أفكار الإستعمار البريطاني الذي فرضها على الأنظمة العربية آنذاك كبديل مسخ لمؤسسة وحدة عربية قومية حقيقية. ليس تجنيا عليها ولا خروجا عن جادة الصواب القول بأنها كرست روح الإستقلالية في إطار سيادات قطرية ضيقة مستقلة عن بعضها ضمن حدود مصطنعة باركتها هذه الأنظمة، وعملت على الحفاظ عليها والدفاع عنها، وخاضت على شرفها نزاعات وصراعات مع من يفترض أنهم أشقاء وأبناء جلدة واحدة ويؤمنون بالوحدة العربية الكبرى.
وإذا كان هذا هو فحوى الأسس التي قامت عليها، فإن سجلها الأدائي والإنجازي دليل آخر على عقمها وافتقارها إلى أبسط بسائط العمل القومي على اعتبار أنها البيت العربي الذي تحت سقفه وفي أحضانه تعقد المؤتمرات والإجتماعات واللقاءات والمشاورات العربية، وقبل هذا وذاك فإنه يفترض بها أن تكون "مصنعا" لمشروعات قومية ذات رصيد من الإرادة والنوايا الصادقة لتوظيفها على أرض الواقع العربي.
بداية فإنه ما من عربي ما زال متمسكا بعروبته ومخلصا لها لا يثمن عاليا وغاليا أية جهود خالصة ومخلصة لوجه العروبة تستهدف رأب الصدع العربي على كافة الصعد في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى مثل هذه الجهود، إن وجدت. ذلك أن الواقع العربي منهك ومهلهل على كافة جبهاته الداخلية والخارجية جراء الأحداث الراهنة.
إن موضوع إصلاح الوضع العربي العام في اعتقادنا يبدأ من الأصول، هذه الأصول هنا هي الأنظمة العربية السياسية، وإن أحد هذه الأصول كانت جامعة الدول العربية. خلال سبعة وستين عاما هي عمر هذه المؤسسة منذ تأسيسها في العام 1945، كانت خلالها مرآة تعكس بصدق صورة الوضع العربي المتمثل بأجواء الأنظمة العربية بكل أبعادها وألوانها ومعضلاتها وآفاتها واتجاهات تحركها وتوجهاتها.
لدى استقراء تاريخ هذه الجامعة، فإنه يستشف بكل وضوح وموضوعية أن دورها كان هامشيا، وأداؤها كانت تعتوره في أغلب الحالات الصعوبات على كافة الصعد. أما إنجازاتها فكانت محدودة للغاية، كونها أساسا قامت كمظلة قومية صورية تتفيأ ظلالها أنظمة سياسية قطرية النزعة، فردية الرأي، عشائرية الإنتماء، أبوية السلطة عملت – وهذه طبيعتها – على تعميق روح القطرية على حساب الروح القومية. كل ذلك جرى وما زال يجري تحت ظلال تطاحنها وحساسيتها المفرطة تجاه بعضها، وشدة حرصها على تكريس الحدود السياسية التي رسمها الإستعمار خدمة لأهدافه الإستراتيجية البعيدة المدى، وليس حبا بالعرب والعروبة أيا كانت أنظمتها.
مثالا لا حصرا فإن جامعة الدول العربية لم تقم بإخراج مشروع قومي واحد لافت ومؤثر في الجماهير العربية إلى حيز التنفيذ. ليس هناك صحيفة يومية أو إذاعة أو قناة تلفزيونية أرضية أو فضائية أو وكالة أنباء واحدة تنطق باسم العرب من المحيط إلى الخليج بإشراف جامعة الدول العربية. إذ ليس ثمة جهة أخرى يفترض أنها ملزمة بهذه المشروعات أو أنها أكثر أحقية. وهي آليات أقل ما يقال فيها إنها تلم الشمل وتوحد الكلمة.
في ذات السياق فإن جامعة الدول العربية، لم تحقق إنجازا واحدا فيما يخص أي تحرك على طريق الوحدة العربية، اللهم باستثناء تهيئة الإجتماعات ومؤتمرات القمة الدورية على كافة المستويات السياسية، والتي وصفت معظم قراراتها بأنها حبر على ورق، وبأنها بلا رصيد على أرض الواقع.
إن المشروعات القومية التي حلمت بها الجماهير العربية منذ ما قبل سنوات الإستقلال حتى أيامنا الراهنة، تراجعت إلى درجة التغاضي والنسيان. المقصود هنا الوحدة الإقتصادية المتمثلة بالسوق العربية المشتركة، وكل من الوحدة الثقافية والتربوية، وهي تمثل في مجموعها منسوب الحد الأدنى المفترض تحقيقه قوميا في الوطن العربي الآخذ بالتشرذم والإكتفاء بالإنتماء الشفوي إلى هذا القالب القومي المتآكل والمتمثل بالجامعة العربية.
إضافة إلى التحديات المتفاعلة داخل الأقطار العربية، ثمة التحديات الخارجية المحيطة بالوطن العربي والتي تفرض أن يكون هناك قدر ما من التضامن العربي. إن العالم قد شهد في نهاية القرن العشرين المنصرم قيام الإتحاد الأوروبي على إرث متين من السوق الأوروبية المشتركة. كما أن هذا العالم قد شهد قبل سنوات ميلاد الإتحاد الأفريقي الذي شيع منظمة الوحدة الأفريقية باعتبارها أصبحت فعلا ماضيا. إن أغرب ما في الأمر أن هناك تسع دول عربية إفريقية قد ساهمت في هذا الإتحاد الأفريقي، ولا تحرك ساكنا فيما يخص اتحادا عربيا، يبدو أنه لم يعد له ذكر في أجنداتها السياسية.
إن ثمة الكثير من العبر التي يمكن أن تستخلصها الأنظمة العربية من هذين الإتحادين المذكورين. أول هذه العبر أن شعوب هذين الإتحادين لا يجمعهما ولو جزء يسير من العوامل التي تجمع شعوب الأمة العربية. وبرغم هذه الإعتبارات فقد أقدمت على التكتل والتضامن فيما بينها خشية أن تفترسها منفردة "غيلان العولمة السياسية الإقتصادية".
ثمة عبرة ثانية تتمثل في أن الوقوف عند صيغ تعاونية أيا كان شكلها لفترة طويلة من الزمن يتنافى وحتمية التطور، والأخذ بكل ما تفرضه المتغيرات السياسية والإقتصادية والعسكرية الداخلية والخارجية.
ثالثة هذه العبر تخص توظيف عنصر التكامل. إن الوطن العربي متعدد الموارد والإمكانيات وهي مجتمعة قادرة على تشكيل سوق عربية مشتركة ذات طابع إنتاجي لا تقتصر على تكريس الثقافة الإستهلاكية التي تستنزف خيراته ومدخولاته وطاقاته الأخرى، وتعمل على هدم الروح الإبداعية لدى مواطنيه، والتحريض على هجرة كفاءاته البشرية، وتجعله بالتالي أسير التبعية الإقتصادية والسياسية والأمنية.
رابعة هذه العبر تخص منظومة الكرامة والهيبة والمكانة العربية. إضافة إلى عناصر التغيير والتغير والتجديد والتحديث والبحث المستمر عن آفاق جديدة وعدم الوقوف على أطلال الماضي والمحاولات العبثية في ترقيع الثوب المهترىء أو تجميله. ورحم الله شاعرنا العربي الذي أطلق حكمته القائلة "وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر".
خلاصة القول فإننا حينما نطالب بعدم الوقوف على أطلال الجامعة العربية، فليس هذا – معاذ الله – تجنيا على العروبة أو رفضا لها أو خروجا عليها. إن المطلوب هو التجديد والتحديث في الطرح في ضوء تحديات المرحلة. إن هذا الطرح يتمثل في مؤسسة الإتحاد العربي فهي الوحيدة القادرة أن تقف على قدم وساق ندا لاتحادات سبقتها في قارات أخرى.
إن الأنظمة السياسية العربية مطالبة أن تنفض عنها غبار تراكمات العجز والتخاذل والشرذمة والتبعية حفاظا على هويتها العربية وحاضرها ومستقبل أجيالها. إنها بحاجة إلى مؤسسات قومية لا قطرية ضيقة تنقل الوطن العربي بثقة واقتدار إلى القرن الحادي والعشرين، وهو في بداياته، قويا عزيز الجانب لا أن تبقي عليه كسيحا تحت مظلة الماضي. إن مؤسسات الوطن العربي وفي مقدمتها جامعة الدول العربية بحاجة إلى التغيير الجذري.
أما الحديث عن الصعيد السياسي فليس هناك سوى مؤتمرات القمة التي عقدت على مدار ما ينوف عن عقود سبعة من الزمان، والتي أسفرت عن قرارات هزيلة لم تصل إلى سقف الأزمة العربية المعاصرة، فساهمت بذلك في تفاقمها وتوليد المزيد من مشاعر الإحباط واليأس لدى المواطن العربي.
في ضوء هذا كله فمما لا شك فيه أن المواطن العربي البسيط يسأل نفسه وغيره: ما الفائدة من استمرار مؤسسة كجامعة الدول العربية التي هي في واد وقضايا شعوبها في واد آخر؟، إنه يسأل أيضا هل تأسست هذه الجامعة لكي تكون هدفا بحد ذاته، ولتكون بالتالي أعلى سقف للأماني القومية في الوحدة، أم يفترض أنها وسيلة لمنظومة من الأهداف القومية تتمثل في تحقيق التحرر والحرية وكافة أشكال الوحدة، بالإضافة للدفاع عن القضايا القومية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي سبقت ميلاد الجامعة، وما زالت تتراجع تحت سمعها ونظرها إلى أن وصلت إلى هذه الحال المزرية؟.
إن هذه الأسئلة المطروحة ليست بحاجة إلى كبير عناء لمعرفة الإجابة عنها. إن الدلائل والقرائن تؤكد أن هذه الجامعة هي السقف الأعلى للأماني القومية، وأنها هدف بحد ذاته، وأن القضايا القومية بدءا بالقضية الفلسطينية وقضية القدس ومرورا بقضايا أخرى تجتاح الوطن العربي، إن هذه القضايا جميعها، وما أفرزته وما يمكن أن تفرزه من تحديات خطيرة ومزيد من المآسي والكوارث على العالم العربي، إما أنها لم تعد قضايا تلامس المشاعر القطرية السائدة والمتحكمة فيها، أو أنها عاجزة أن تقوم بردود أفعال أو مبادرات حيالها توظف في خدمتها ما وهب الله العالم العربي من طاقات وموارد وإمكانيات.