حكاية شيخ اسمه "النابلسي"
الثورة السورية: خواطر ومشاعر (50)
لا مجاملةَ بعد اليوم (3)
حكاية شيخ اسمه "النابلسي"
مجاهد مأمون ديرانية
في الرابع من شعبان سنة 358هـ (30 تموز 973) دخل المعز لدين الله، رابع الخلفاء العبيديين (الذين نَسبوا أنفسهم زوراً وادّعاء إلى فاطمة رضي الله عنها فسمّوا أنفسهم الفاطميين)، دخل الإسكندرية قادماً من المغرب، فبدأ بذلك حكم العبيديين لمصر، وقد اعتبره المصريون حكمَ احتلال لأنه كان -في حقيقته- غزواً قامت به دولة أجنبية شيعية إسماعيلية لمصر السنّية التي كان يحكمها الإخشيديون التابعون اسمياً للخلافة العباسية في بغداد.
كان العبيديون مكروهين من عامة أهل مصر وعلمائها بسبب سيرتهم في الحكم، فقد أذلّوا العباد وأفقروا البلاد، ونقضوا عهدهم لأهل مصر بأن لا يفرضوا عليهم التشيّع، فحاربوا دين الجماعة وشيّعوا القضاء واستولوا على جوامع السنة وأذّنوا بحَيّ على خير العمل، ثم أمر الحاكم بأمر الله بنقش سبّ الصحابة على الجدران... فحرّض العلماءُ الناسَ على الثورة عليهم، وكان من أشهرهم شيخٌ اسمُه أبو بكر النابلسي.
قال ابن الجوزي في تاريخه الكبير "المنتظم": كانوا ينقلون عن أبي بكر النابلسي أنه قال في حق العبيديين (الفاطميين): إذا كان مع الرجل عشرة أسهم وجب عليه أن يرمي في الروم سهماً واحداً وفي العبيديين تسعة. فقُبض عليه وأُخذ إلى الخليفة، المعز لدين الله العبيدي، فسأله: بلغنا عنك أنك تقول كذا؟ فقال النابلسي: ما قلت هذا. فظنّ المعز أنه رجع عن قوله وسأله عمّا قال، فقال الشيخ: أقول للرجل إذا كان معه عشرة وجب أن يرميكم بتسعة ويرمي العاشر فيكم أيضاً، فإنكم غيّرتم الملّة وقتلتم الصالحين وادعيتم نور الإلهية! وكان المعز بطّاشاً، فضربه بالسياط، ثم أمر بسلخه (وكانت تلك من أساليب تعذيب العبيديين الباطنيين، سبحان الله كيف ورثها منهم أحفادهم المعاصرون!) فتولى ذلك رجل يهودي، وكان أبو بكر يقرأ القرآن ولا يتأوّه، فداخلت اليهوديَّ رحمةٌ له فطعنه في فؤاده ليموت عاجلاً، عليه رحمة الله.
* * *
رحم الله علماء ذلك الزمان، لقد عرفوا أنهم طليعة الأمة وأنهم القدوة لها، وعرفوا أن للعلم ضريبة لا بد من أدائها كاملةً غيرَ منقوصة، وعرفوا أن الصمت في الموقف الذي يُفترَض فيه الكلام جريمة يحاسبهم عليها الله، فآثروا أن يريحوا ضمائرهم وأن يُرضوا ربهم وجهروا بكلمة الحق جهراً جليّاً واضحاً؛ دفع العالِمُ حياته فأيقظ بموته الأمةَ وأحيى الدين.
ذلك ما فعله نابلسيّ ذلك الزمان، أما في هذا الزمان فقد رأينا علماء تقدموا الصفوف وجهروا من فوق المنابر بالحق غيرَ هيّابين. ورأينا علماء اختاروا التورية وعمدوا إلى التلميح بلا تصريح، فأدّوا الأمانة منقوصة غير كاملة. ورأينا علماء آثروا الصمت وفرّطوا بالأمانة. ورأينا علماء ادّعوا العلم وهو منهم براء، وناصروا الطاغية وربطوا مصيرهم بمصيره، أسأل الله أن يجمعهم جميعاً -هو وهم- في دار القرار.
شاهدنا في دمشق شيخاً جليلاً هزّ بخطبه بنيان الظلم وأرعب نظام الإجرام، ثم مُنع من الخطابة فلم نسمع عنه ولم نسمع منه من بعد. وشاهدنا في دمشق شيخاً جليلاً ما زال يُسمع الفَجَرة الظالمين ما يكرهون حتى آذوه باعتداء أثيم، فلم نسمع عنه ولم نسمع منه من بعد. لماذا يا أيها الشيخان الجليلان؟ إن كانوا منعوكما من الخطبة في الجوامع فإن الذين يسمعون خطبكما فيها آلاف، ولو سجّلتما للناس كلمات حرة من كلماتكما التي ينتظرون سماعها منكما فسوف تطير في العالم الافتراضي إلى مئات الآلاف. هلاّ سجلتما وأذعتما إذ حال الظالمون بينكما وبين منابر الجوامع ولقاء الجماهير؟
ويقولون إن في دمشق علماء كثيرين لهم جمهور ولكلمتهم أتباع، وإنهم يتجنبون الكلام الصريح ويدورون من حول الموضوع فلا يقدّمون للناس رأياً جلياً صريحاً يبيّن لهم ما يفعلون. لماذا يا أيها العلماء الكرام؟ أليس من واجبكم أن تبينوا للناس الحق وأن تكونوا قادتهم في المُلِمّات؟
ويقولون إن في دمشق شيخاً جليلاً مسموع الكلمة، لو أنه استنهض أهل دمشق لنهض إلى الثورة نصف أهل دمشق، ويقولون إن هذا الشيخ الجليل خطب يوماً -ولم تكن الثورة قد بدأت بعد- فألقى في خطبته قصيدة عنوانها "متى تغضب؟"، ويقولون إن هذا الشيخ الجليل لم يُسمَع له من أول الثورة صوت. لماذا يا شيخنا الكبير؟ متى يا شيخنا تغضب؟ إذا قُتلت ذرارينا ولم تغضب، إذا اغتُصبت حرائرنا ولم تغضب، إذا هُدمت جوامعنا ولم تغضب، إذا حُرقت مصاحفنا ولم تغضب، إذا ديست كرامتنا ولم تغضب، إذا كان هذا كله وأكثر منه قد كان ولم تغضب، فيا شيخي: متى تغضب؟
* * *
يا علماء الأمة الكبار: إن سوريا اليوم كمصر أيام العبيديين، فهلاّ موقفاً كموقف الشيخ أبي بكر النابلسي مع العبيديين؟