سورية ما بعد مجلس الأمن
سورية ما بعد مجلس الأمن
د. ضرغام الدباغ
الملف السوري في مجلس الأمن ... ماذا بعد ....!
مسيرة طويلة قطعها الملف السوري ليصل إلى مجلس الأمن، من مؤتمرات لمعارضة غير متمرسة بالعمل السياسي الجمعي، فالنظام بسياسة القبضة الحديدية لم يدع متنفساً لبيئة سياسية سورية، لذلك فالمجتمع السوري لم يكن يعرف وسطاً سياسياً، وبعيد عن ثقافة العمل الجمعي من تحالفات وائتلافات، فالعديد من المؤتمرات انعقدت في مدن أوربية وأوسطية في مارثون ليصل بها إلى واقعها الراهن، ملف تواصل تداوله على إيقاع زخات الرصاص الذي يمزق أجساد المواطنين ومعها احتمالات الحلول الكريمة وغير الكريمة.
الجامعة العربية كانت تبحث عن حلول لصالح النظام، وهي تضع النظام ورأس النظام في كفة، مقابل كل الشعب في كفة أخرى، حلول بين أشقاء، تجامل الجميع ولا تريد الإساءة لأحد، وهذه على إشكاليتها، رفضها النظام، المبادرتين الأولى والثانية كانتا تبحثان عن حل يضمن مخرج كريم لمسيرة دموية، بيد أن النظام يدفع البلاد في اتجاه آخر صوب المجهول، ويقامر بالبلد بأسره وبمصيره، ولذلك أسقط النظام المبادرات الواحدة تلو الأخرى، تحت شعار: إما نسحقكم أو نسحقكم.
الواقع الموضوعي يشير بجلاء تام حتى لجهلاء السياسة أن الموقف في تصعيد وليس في انحسار، وتقديرات السلطة خاطئة، معتمدة كلياً على أراء خبراء الأمن والقمع، نعم هو ينجح بكسب بعض الناس، ويبتز آخرين، ويخيف ويرهب غيرهم، ولكن إرهاب وخداع وابتزاز كل الناس وكسر شوكة الشعب بأسره أمر مستحيل، وإخضاع المنطق للقوة إلى الأبد هي سياسة نتائجها خاسرة بالتأكيد، بل إنها تعقد وتوسع قائمة التكاليف.
في سوريا يتجدد تقرير المصير كل يوم، الشعب بدأ بالتظاهر كل جمعة، والآن يصوت على قراره في كل يوم، ومدن وجماهير وشخصيات تلتحق بالثورة، في تفاقم واضح للموقف السياسي، الشعب يسير ببطولة نادرة نحو تحرير نفسه، يثأر لنفسه من الصمت ومن الأغلال، ومن عسف رجال الأمن والشبيحة وسائر القتلة على صنوفهم، هو صراع بين الموت والحياة، وبين كل هذه المعاني، نظام لا يرى سوى ما يراه منذ سنة كاملة، وليس لدي النظام ما يفعله ولا موقفاً سياسياً يطرحه فعلاً لا قولاً، اثنا عشر شهراً وهو لا يغير أطروحته ولا يبدل وجهة سيره، لا يفهم ولا يحاول أن يفهم، إما نحن بقضنا وقضيضنا أو الطوفان.
الملف اليوم أمام مجلس الأمن، ماذا سيكون مصير سوريا ....
النظام يراهن ويتأمل أن تقضي المصالح الدولية له، وأن تصمت القوى العظمى على قتل الشعب، الروس يقفون الآن مع النظام ضد الشعب، ولكن في السياسة الدولية كما في سوق البورصة، للأسهم والسندات سعر، والمواقف لها سعر، ولكن الكارثة تكمن لمن يضع نفسه في موضع التسعير، كسلعة أو كشأن له قيمته، لأن الأسعار قد ترتفع ولكن قد تهبط أيضاً، فالحكمة هنا هي أن لا تضع نفسك في سلة التسعير أصلاً.
فات النظام نظرية بسيطة للغاية: أن الشعب الذي أوصل الملف لمجلس الأمن قادر أن يمنح الملف دفعة جديدة، والملف سيكتسب قوة جديدة وهذه ستحدث في الميدان، في ميدان المنازلة بين الشعب والنظام، النظام يدفع الثورة للتسليح، النظام يصعد الموقف ويطرح معطيات جديدة في الساحة، والتطرف سيكون سيد الموقف، وهذه صراعات تربحها الشعوب عادة وتخسرها الأنظمة. وتصعيد القمع خطة (ولا نقول سياسة) ستكون نتائجها لصالح الثورة. وكلما يتصاعد العنف تتعقد ظروف الساحة، عندما تحجب سحب حمراء دموية أفق السياسة، ولكن النظام سوف لن يربح الرهان على عامل الوقت، وتجربته في الشهور الإحدى عشر المنصرمة هي أفضل دليل على ما نقول.
هامش المناورة يضيق، والفرص الكريمة تتضاءل، والنظام لا يريد أن يستفيد من التجارب التاريخية، بل هو لا يريد حتى أن يستفيد من التجربة التونسية والمصرية، والليبية، كل واحدة على ما تنطوي من مغازي. ناهيك عن التجارب الكثيرة في التاريخ القريب والبعيد.
نقل الملف السوري لمجلس الأمن يعني أن الموقف في سورية بلغ نقطة حرجة، وتدهور الموقف بلغ درجات صعبة، والغريب في الأمر أن النظام هو من أقفل الأفق السياسي، مع أن موقفه يضعف يوم بعد يوم، فلربما يعتقد أن في فتح نافذة للعمل السياسي سيضر بموقفه التفاوضي.
بديهي أن هذا التقدير (إن صح)، فهو ينطوي على خطأ شديد، فأي طرف سياسي، لا يمتلك أفقاً سياسياً، وليست لديه بدائل وخيارات، إنما يخسر السجال تدريجياً. هذه بديهيات العمل السياسي، ومن مقدمات علم السياسة.
من أولى ظواهر هذه الخسارة، أن المعارضة بكافة أطيافها صارت متفقة على إسقاط النظام من الرئيس وحتى أصغر الحلقات، هذه نتيجة لا أعتقد انها خاضعة للتغير، بل للتصاعد، حتى أن هناك فصائل مهمة كانت تعارض بشكل حاد ومبدأية قبول فكرة التدخل الأجنبي، ولكن هذه المواقف بدأت تلين لصالح قبول فكرة حماية دولية، لإنهاء مجزرة لم تعد مقبولة وتنهي حالة صمت وتردد لم يعد محتملاً.
ثم لنقل شيئاً آخر، الشأن السوري يدخل اليوم خوانق صعبة، والأصعب ما فيه هو أن السلطة تتصرف للأسف كطرف مقابل أعداء، وليس كحكومة لكل الشعب، نظام يريد أن يبيد من لا يقبل به، وتصريح وزير الداخلية اليوم أو بالأمس حين يتعهد أن يجتث من يسميهم مخربين، يدل على أن قراراً قد أتخذ باستخدام القوة، وليس باستخدام العقل عندما تصف السلطات إرادة شعبها بالحرية تارة بالمتآمرين، وتارة تحصرهم بالسلفيين، وتارة بالقاعدة، على أمل استمالة جهات دولية. السلطة تتهم قوى أجنبية بالتدخل، فيما ينزلق الشأن كله نحو التدويل بلا حكمة، وكأنها سفينة بلا ربان.
الاستخدام المفرط للقوة بهدف القضاء بسرعة على الاستياء أو الاحتجاج، ولملمة الموضوع واحتواءه، على طريقة الثمانينات، كانت قراءة خاطئة وأدت بسرعة إلى تجذير الاحتجاج وتحويله إلى انتفاضة، الأمر الذي أغضب القيادة السورية فقررت الضرب بيد من حديد (على حد قولها) واليد الحديدية قادت إلى قناعة جديدة، هي: كيف يمكن الركون لنوايا سلطة كهذه ..؟ وهكذا وصلنا للثورة ...!
استخدام القوة المسلحة وزج عناصر الشبيحة لم يكن ينطوي على ذكاء من جانب السلطة، الدولة لديها أجهزة رسمية ترتدي الملابس الرسمية (اليونيفورم) أما شبيحة وسواهم من خارج البلاد، فلا تمنح سلطة الدولة أي مصداقية أو شرعية، ولا الموقف القانوني والاخلاقي السليم، وإذا كانت الدولة هي من يبدأ بخرق القانون والناموس، فماذا تطالب من جماهير مجروحة وتشعر بالإهانة ..؟
أمس واليوم، تنقل لنا مشاهد عنف فضيعة، أقل بكثير مما حدث في ليبيا ومصر وتونس على سبيل المثال، الأوربيين ينظرون بدهشة لهذه المناظر وتعليقات الصحف الألمانية تنطوي على كلمات وأحكام قاسية، ولنطلع على بعض من ترجمة ما تقوله هذه الصحف(نصوص مترجمة حرفياً):
تكتب دير ستاندر النمساوية مثلاً: " القيادة ستستمر حتى تدمير سوريا بالكامل. فالبلاد آخذة في الانزلاق نحو حرب أهلية. فالإمكانية الوحيدة المتاحة لوقف الجنون هي رحيل النظام بناء على حل تفاوضي. ولكن هل ذلك حل منصف....؟ كلا، لكن إنقاذ سوريا يجب أن يكون في المقدمة ".
كتبت صحيفة زود دويتشه تسايتونغ قائلة: الخطيب السياسي البارع يمتلك ناصية أمرين: حشد أتباعه حوله، ومد يد المصالحة لأعدائه في آن واحد. لكن الرئيس الأسد لم يكن متحدثا بارعا. خلال ظهوره الأخير أمام الرأي العام، لم يعرض شيئا جديدا على أنصاره المجتهدين في التصفيق، وادعى أن مجرمين وإرهابيين ومؤامرات دولية هي المسئولة عن الانتفاضة الدموية في سوريا. وأوضح الأسد في خطابه الفظ في النبرة نفسها لمعارضيه بأنه لا يمكن أن يتوقعوا منه تقديم تنازلات، بل استخدام اليد الحديدية. فمن يعارض الرئيس فقد تلقى جزءاه وسيعاقب.
تاغس تسايتونغ: وكرئيس الأسد القائد الأعلى للقوات المسلحة. بخطابه لم يدع أدنى شك في أن إراقة الدماء ستستمر.
صحيفة فيست دويتشه ألغماينه سلطت الضوء على إصلاحات الأسد الموعودة، وكتبت تقول: " الإصلاحات التي يعلن عنها في كل مرة ليست إلا أقراصا مهدئة لم يعد الشعب منذ مدة يبتلعها. وكلما طال أمد هذه الكارثة، كلما انكشف الصمت المخزي الذي يقابل به العالم القتل ".
ديغول قائد تاريخي ومحرر فرنسا، عندما تعرض عام 1968 لأزمة في الشارع الفرنسي وجد صداه في الوسط السياسي الفرنسي، قرر ديغول أن يعرض الأمر على الشعب، ولما لم يجد رد الفعل والتأييد الذي كان ينتظره، استقال، ومضى إلى بيته الريفي مشيعاً باحترام الشعب، قال كلمته الشهيرة:
المصارع الشجاع هو من يترك الحلبة قبل أن يصرعه الثور.
ــــــــــــــــــــــ
* المقالة جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى القنوات الفضائية بتاريخ 29 / كانون 2 / 2012