لمن نكتب؟

د. حبيب بولس

يشفق بعض الأصدقاء على حالي فيبادرونني، من حين إلى آخر، بسؤال أعتقد أنّهم لا ينتظرون الإجابة عليه. لماذا تكتب؟ ولمن تكتب؟ لماذا تضيّع هذا الوقت في كتابة أسبوعيّة تخصّ فيها النّخَب؟ شعبك لا يقرأ!.

لا أجيبهم. فبعضهم يحبّني ويعزّني إلى درجة لا ينفع معها اتزان الشرح وعقلانيّته، وبعضهم أسير يأس من واقع دولة مأزوم خبيث وحالة مجتمع يعاقََب أفراده بما صنعوا. مجتمع يسوده جهلٌ أحلك من العتمة، ويقهقه في سراديبه الجحود ويعنّ في دواوينه الرياء. لمن تكتب، يا عزيزنا؟ "والشنب" تنكّسه حفنة من شواقل والوعود تُنحَر على مدرّجات سباقات المختالين من فرح خلف الغنائم.

أعاني من السؤال ولا أعاني من الكتابة. فالكتابة شفاء وارتواء. وهي كالبخاخات الطبية، توصف لمريض "الربو" يتنشّقها كلّما انسدت رئة وضاق بلعوم ومريء.

لمن تكتب يا عزيزنا؟ يلحّ السؤال، والصمت اعتُمِد سيّدًا للسلامة والنجاة، والقبو أصبح مأمن الفالحين الظافرين بوظيفة/بعقد يضمن لهم اللحم ويهيئ للشحم فرص التناثر؟ لمن تكتب يا عزيزنا؟ وبيوت شيّدت للرب كي يرعى ويهدي فهَجرت طاقاتها مطوّقات وغشتها غربان، وكي يلمَّ الرب حبل أحشائهم التي بقرتها جواميس التلاع الشاردة، فأمست مصانع فتن تستوطنها أفاع وعقارب ويمرح فيها تجّار الذمم والفضّة والتناسل.

الأكثرية لا تسائل عن جدوى الكتابة في عصر الجفاف والعطش. وسادتهم الخالية/سؤالهم كان، ما العمل يا عزيزنا؟ سؤال الوجع والتيه والقلق.

يحاصرني السؤال في المجالس. أصدقاء ومعارف وقرّاء يفاتحونني بهذه اللهفة. بعضهم يصرخ عن ضياع، وقلّة تتأوه عن يأس وضجر. بعض المقالات أحدثت حراكًا فاهتزت أغصان، لكنها لم تسقط ثمرًا. لذا أمضي وقلمي على راحتي يستثير كلّ قارئ قلق من الواقع الذي يعيشه وكل غيور مستفز من عجز لا مبرر لعدم مجابهته.

أكتب لكل أنثى وذكر، يقرّ بأن مركباتنا تتدحرج بسرعة الطيش ورصاص الحقد والغدر على منزلق خطير، أكتب لكل من يعي بما يتعدى "الببغنة" أننا قاب قوس وأدنى من أن نُحكم في إسرائيل من قبل نظام حكم تنطبق عليه معايير التعريف العلمي للنظام الفاشي.

أكتب لكل من خسر ثقته بقيادة انتخبها لسلطة محلية فخذلته حين تكشّف البَرَص على سيقانها، وأكتب لكل من رفع على أكتاف أحلامه زعيمًا أرجواني الملامس، أو قائدًا جبّارًا حلَّق على جناحي الخديعة والجهل وذاب على زند دليلته. زعماء كللنا من رماديّتهم وحدقات عيونهم الزائغة فأفقنا لنجدهم، مَن  يستمطر رحمة سيّد الغاب ويدعو له بالخلود وبجنات وهناء، ومَن يأخذنا إلى حيث الذكرى والطرف الأغر محصّنًا من معاتبة واستفسار. وآخرون يطيرون ليسوسونا بالريموت وما يأمر به صاحب النفط والوعد "العديدي"، قياديون يجاهرون بفرحهم بالربيع وشرطهم/صلاتهم أن يزهر هذا هناك على ضفاف دجلة والنيل وتونس الخضراء، أما هنا فلا بأس أن يكون الخريف سيّدًا وأن يبقى، فهو أجمل الفصول، مفيّض القرائح ومشعل الخيال.

أكتب لكل من تعلّم وتثقٌف وبنى كيانًا لا يجاريه كيان من العزّة والكرامة والإباء، فنام على وسائد من غار وريش  نسور وأفاق على أزيز رصاص يتطاير بين الأرائك وأرجل المستقبل الجريح، وعلى هدير حناجر جهلاء ومنتفعين يختطفون الفرح، يهرولون في خطوات أشباح تتسارع إلى المسالخ، والبشر كالقطيع يدب ويهوي بأفواه كسّارات ناءت بجبال بلعتها فحدّقت منهكة  من تخمة ومن غبار.

أكتب لكل من يعرف الوجع ويشخّص الداء ولا يحرّك ساكنًا. لكل من هو قادر على رفع سبابة ويؤثر سلامة اللحظة في قبوه على رعد الحقول وبرق الجبال.

أكتب لكل من جرّب وقُرص، وبدلًا من أن يغلق الجحر كي لا يقرص ابنه، آثر أن يبتعد ليغنم وبعده فلتكن لدغات ولـ"يطرطش" سم.

أكتب لكل من يعرف أننا نستطيع إيقاف النزيف وتضميد الجراح ونستطيع ضم القبضات وشد السواعد ونتقن، إن أردنا، إغلاق باب الريح المزمهرة في مخادعنا.

أكتب لنبدأ بمسيرة تطهير حقولنا التي سمموها بالحقد وإعداد بيادرنا التي ملأتها الصراصير وتجّار التخدير والهذيان، أكتب عنّا ولنا، نحن المؤمنين بالربيع مهما طال الخريف.

في آخر محادثة مع أصدقاء، اقترحتُ أن يكتب كل معني قائمة بعناوين ما يعدّه أخطر ما يواجهه مجتمعنا من مشاكل عينية عامة، وعلى ورقة ثانية يكتب المعني ما يراه من حلول وآليات عمل لمجابهة المخاطر التي عدّها. تجمع هذه المقترحات لدى جهات محايدة غير حزبية (مثل جريدة "الحقيقة" وجريدة "حديث الناس" وغيرهما، وعناوين ألكترونية معروفة). بعد استلام أوراق المعنيين تفرز النقاط التي حظيت بإجماع واسع وفقًا لتصنيفها ودرجة خطورتها، وكذلك تفرز قائمة الحلول المقترحة. تتلو هذه العملية عملية تحضير لاجتماع يدعى إليه كل من شارك وأبدى رأيه واستعداده، ومن هناك نتفق على الانطلاق للعمل والمواجهة.

بعض الأصدقاء حاولوا طمأنتي فهم على قناعة أنّ الله معنا ونصرنا حتمًا آتٍ. أمامهم تساءلت وأكرر، إذا كان الله معنا فمن مع هؤلاء الراقصين على بيادرنا والقابضين على قصباتنا والجاثمين على حجابنا الحاجز؟!

ببساطة، أنا على يقين أن كثيرين مثلي يذبحهم القلق وفي مواقع كثيرة يجتمعون والحديث اجترار للوجع. في كل المواقع نحيب وتراجع. لجميع هؤلاء أكتب، عسانا، معًا،  نهز أغصان العمر فتكرج الثمار.

ببساطة، لنكفّ ونريح أسئلة الهياكل والمحاور والمتاريس، فلقد تعب السؤال من السؤال. فهيّا إلى عمل.