الرقص مع الذئاب
نوال السباعي
تيسير علوني
منذ رأيت الأستاذ الصحفي البارز "تيسير علوني" عبر قناة الجزيرة يمشي منهكا بالأيام والحدث والمحنة إلى جانب جثمان شهيد الصحافة العربية "طارق أيوب", وقع في نفسي أن الصاروخ الذي أودى بحياة الشهيد لم يكن موجها لطارق وحده بل ربما كان معنيا وبالضبط بإسكات صوت قناة الجزيرة وكل صوت حر يرتفع في هذه الأمة وفي العالم حتى إن ارتفع بمصداقية وتوثيق وموضوعية ليقدم لا ما تسميه الجزيرة "الرأي الآخر" ولكن ليقدم مجرد الحقيقة كما هي دون تمويه ولا تشويه ولا رتوش.
لم يأت مقتل طارق أيوب عبثا كما لم يتم قتل مصور القناة الإسبانية التلفزيونية الخامسة خوسيه كوسو في ذلك الثلاثاء الصحفي الأسود عبثا.
اعتقل تيسير علوني في غرناطة يوم الجمعة الماضي بتهم أقل ما يقال فيها إنها طفولية سخيفة وتافهة كسخف وتفاهة وطفولية المبررات التي كانت وزيرة الخارجية الإسبانية بل ورئيس الحكومة الإسبانية نفسه قد قدماها أمام مجلس الشعب مبررين فيها رأيهما بضرورة وقوف إسبانيا إلى جانب الغزو الأميركي للعراق, وذلك رغم خروج الملايين من أبناء الشعب الإسباني منددين بهذا الموقف غير السليم الذي انقلبت فيه السياسات الإسبانية على نفسها بحركة تاريخية لم يسبق لها مثيل, لتصبح إسبانيا دولة منحازة وتابعة تماما لسياسات الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة العربية، وذلك بقرار من رئيس الحكومة المتفرد بحكم البلاد عبر أغلبية ساحقة لم يرجع فيها لرأي الأغلبية التي ناهضت مشاركة إسبانيا في ذلك الغزو الاستعماري الذي يهدف إلى السيطرة الغربية المطلقة على بترول العراق مقابل تخليص هذا البلد الخليجي من حكامه المستبدين بالبلاد والعباد والثروات.
التهم التي وجهت لتيسير علوني تتلخص وحرفيا وكما نشرت في كل الصحف الإسبانية "التورط في تنظيم إرهابي, العمل على بناء خلية لتنظيم القاعدة في غرناطة, القيام بتمويل هذه الخلية, منحه الدعم والتغطية اللازمين لأفراد هذا التنظيم الإرهابي، لعبه دور البريد بين أفراد هذا التنظيم".
إلا أن صحيفة بانغوارديا الكاتالانية شبه المستقلة جاءت بما لم يأت به أحد حين قالت في عددها الصادر 6/9/2003 "إن تيسير علوني قام بنقل شريط فيديو كان قد تم تصويره من قبل أحد أعضاء القاعدة في إسبانيا وذلك عام 1997 وسلمه إلى القاعدة في أفغانستان, وهذا الشريط يحتوي على صور تخص البرجين التوأمين وتمثال الحرية ومعالم معمارية هامة أخرى في الولايات المتحدة الأميركية, وهو شريط فيديو استخدم كما يظن التحقيق في التحضير لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول".
السؤال الكبير والمضحك الذي يطرح نفسه في مثل هذا الاتهام: هل كان تنظيم القاعدة –إن صح ما نسب إليه من اتهامات– على مثل هذه الدرجة من الغباء حتى يكل إلى مواطن سوري يحمل الجنسية الإسبانية ويقيم في مدريد مهمة تجشم عناء السفر إلى الولايات المتحدة الأميركية للقيام بتصوير هذه الأهداف الإستراتيجية الخطيرة, ومن ثم قيام رجل يعمل في أشهر قناة عربية في العالم ذات صورة وصوت مسموعين في جميع أرجاء المعمورة ليحمل هذا الفيديو إلى أفغانستان ويسلمه إلى بن لادن؟
أولم يكن من الأسهل والأليق والأكثر منطقية أن يقوم أعضاء القاعدة الذين قيل إنهم ضربوا برجي نيويورك بشراء فيديو سياحي مما يباع في كل مكان من مدن الولايات المتحدة متحدثا وشارحا حتى أدق التفاصيل عن بناء البرجين وشكلهما وهيكلهما؟
وإذا علمنا أن المواطن السوري المعني كان قد تم اعتقاله مرتين في مدريد خلال هذا العام وأفرج عنه في المرة الأولى بعد ساعات من الاعتقال وفي الثانية بعد أشهر قليلة وبكفالة مالية دون توجيه أي اتهامات, فضلا عن أن عناصر من خلايا الاستخبارات الأميركية كانوا قد قاموا بفحص هذا الفيديو الذي أخذته قوى الأمن الإسبانية لدى قيامها بتفتيش منزل ذلك المواطن السوري, ولم تجد فيه شيئا يذكر, أضف إلى ذلك أن هذا المواطن كان يحتفظ بالفيديو المذكور في غرفة استقباله للضيوف ليعرضه عليهم كذكرى لزيارة قام بها إلى الولايات المتحدة, خاصة أنه متعهد بناء معروف في مدريد ولديه اهتمامات معمارية خاصة, وأخيرا فإن مذكرة كانت قد صدرت قبل شهر تنص على براءة هذا المواطن بالذات وثلاثة من رفاقه السوريين الحاصلين جميعا على الجنسية الإسبانية, وتم نشر هذه المذكرة في الصحف الإسبانية إلا أن القاضي بالتثار غارسون لم يقم بالتوقيع عليها حتى حينه.
الحديث بالتفصيل عن قضية هذا الفيديو ليس من فضول القول, لكنه إشارة سريعة إلى ما قامت به أجهزة الأمن الإسبانية من تلفيق مكشوف لقضايا اعتمدت فيها على معلومات خاطئة استخدمت مبررا لتطبيق قانون محاربة الإرهاب بأبشع صوره في دولة دستورية ديمقراطية زج من خلالها في السجن بشباب عاشوا أكثر من عشرين عاما في إسبانيا مواطنين شرفاء يعملون بكد لتحصيل لقمة عيش شريفة, وقد تم ذلك بأسلوب رخيص مكشوف استخدم فيه هؤلاء الأبرياء على مذبح العلاقات "الأميركية الإسبانية" أو على وجه الدقة العلاقات "البوشية الأثنارية" المتنامية بعكس التيار الثقافي السياسي الشعبي السائد تاريخيا في إسبانيا منذ 60 عاما.
لقد حاول السيد أثنار في كل أحاديثه عن الغرباء من العرب والمسلمين المقيمين في إسبانيا -كما تمنت أجهزة الإعلام الناطقة باسمه- أن يصوروا الجالية العربية على أنها مجموعة من الأعداء المتخفين في المساجد التي وصفوها بأنها معاقل لتفريخ الإرهاب والإرهابيين المتأهبين لقتل الناس الأبرياء والانقضاض على البلد الذي آواهم واستضافهم, إلا أن جهوده وجهود إعلامه باءت بالفشل لأن الجالية العربية والإسلامية في مدريد ضربت أروع الأمثلة في الالتزام بضبط النفس البالغ والسلوك الحضاري المتميز يوم لم تستجب لتحرشات الحمقى من الذين دفعت بهم وسائل الإعلام إلى الاعتداء على العرب والمسلمين وضربهم وتهديد بعضهم في سلامته أو عرضه أو حياته.
كما أن الشعب الإسباني في معظمه ضرب مثلا كذلك في تأييد الحق والصدق وكشف زيف وسائل الإعلام وكذبها المستمر المفضوح، خاصة في ما يتعلق بالخلايا الإرهابية التي يتم الإعلان عن القبض عليها بين الحين والآخر ثم يتمخض الجبل في كل مرة عن فأر مارق سفيه.
لقد بلغ الأمر أن قام وزير الخارجية الأميركي "باول" شخصيا عشية غزو العراق بشكر السيد أثنار رئيس الحكومة الإسبانية على جهوده في محاربة الإرهاب في إسبانيا, وذلك لدى قيام أجهزة الأمن الإسبانية بالقبض على خلية إرهابية بالغة الخطورة عثر بحوزتها على مسحوق غامض قيل إنه يمكن هذه الخلية من تصنيع قنبلة جرثومية أو ربما ذرية... إلا أن جميع أعضاء هذه الخلية الإجرامية تم إخلاء سبيلهم على الفور لدى اكتشاف المكونات الرئيسية لذلك المسحوق الرهيب الذي لم يكن إلا منظفا خاصا يستقدمه المغاربة من بلادهم لتلميع آنية الفضة.
عملية اعتقال تيسير علوني لا تأتي استثناء في سياسة الحكومة الإسبانية تجاه العرب والمسلمين باعتبارهم جميعا إرهابيين مشاريع حية للقتل والتدمير, فهي سياسات مصرة على المضي قدما وراء السياسات الأميركية حتى النهاية -ولا ندري نهاية من؟-, كما لا تأتي غلا في سياق رفض أثنار رئيس الحكومة الإسبانية المثول أمام مجلس الشعب لمساءلته عن الأكاذيب الهائلة التي تقدم بها أمام المجلس عن أسلحة الدمار الشامل العراقية على غرار زميليه بوش وبلير.
عملية اعتقال تيسير علوني في هذا الوقت بالذات تأتي في الزمن المناسب جدا للسيد أثنار ليقدم ورقته الأخيرة قبل أن يغادر الحياة السياسية كما وعد وهي من أهم مآثره الديمقراطية التي يشكر عليها في واقع الأمر, وليدلل للرأي العام الإسباني على أنه نظيف اليدين واللسان وأنه لم يكذب قط بشأن العراق ولا بشأن الاعتقالات التي تمت في إسبانيا لمواطنين عرب إسبان بتهمة الانتماء إلى القاعدة على هامش غزوه للعراق تارة وعلى هامش مشكلاته مع المغرب تارة أخرى وعلى رأس ذلك الأزمة التي كانت قد فجرتها صخرة ليلى.
عملية اعتقال تيسير علوني -إذن والآن- ليست إلا هربا إلى الأمام من قبل الحكومة الإسبانية التي تريد أن تحظى بدعم وتأييد الإدارة الأميركية وهي تواجه خطر خسارة انتخابية فادحة بعد أن اضطر أثنار إلى تسمية وريث له وإحداث تغيير وزاري في حكومته على أبواب الانتخابات القادمة, كما أنه يفسح للسيد غارسون بدوره فرصة ذهبية للترشح من جديد لنيل جائزة نوبل، بعد أن كان قد فشل في الحصول عليها إثر مطاردته المستميتة لدكتاتور تشيلي السابق بينوشيه.
إلا أن المؤسف حقا أن السيد أثنار كان قد بدأ حياته السياسية بشكل متميز جدا واستطاع أن يحظى بقلوب الجماهير وفيها قطاعات كبيرة من الجاليات العربية والإسلامية، خاصة إثر قيام منظمة إيتا الإرهابية الانفصالية الباسكية قبل خمسة أعوام بتنفيذ حكم الإعدام في أحد شباب حزب الشعب الحاكم, كذلك فإن السيد غارثون كان قد لمع نجمه في عالم الأمن والقضاء بسبب ملاحقته المسعورة لمجندي إيتا ولفلول عصابات الاتجار بالمخدرات في إسبانيا، ولم يكن الرجلان في حاجة إلى كل هذا الحجم من الكذب والادعاء أمام شعب مذهول بما يفعله حكامه من المنتخبين ديمقراطيا ودستوريا في بلد معروف تاريخيا بعدم انحيازه وبدعمه للقضايا العربية وخاصة القضية الفلسطينية, لينقلب فجأة على تاريخه ويتسبب في إحداث شرخ نفسي كبير مع الأمة التي تجاوره جنوبا والتي لا يستطيع الانفكاك عن ضرورة التفاهم والتعايش السلمي معها.
عملية اعتقال تيسير علوني لم تكن إلا خطوة في الاتجاه المضبوط للانتقام من قناة الجزيرة التي استطاعت فرض نفسها على الساحة الإعلامية العالمية بتفوق ومصداقية ومهنية استثنائية نادرة، وهي لا تقوم بمجرد تقديم الرأي الآخر ولكن بطرح رؤية موضوعية للأشياء والأحداث التي فرض على العالم أن يراها منذ استطاع أن يرى شاشات الإعلام بمنظار صهيوني إعلامي خاص.
عملية اعتقال تيسير علوني في الوقت الذي كانت تجري فيه التحضيرات على قدم وساق لإنشاء مكتب دائم لقناة الجزيرة في مدريد , كانت خطوة غير موفقة البتة للقضاء على منبع جديد للمعلومات على هذا الجانب من المضيق الذي يحمل يوميا إلى إسبانيا قوارب الموت والغربة وآمال الحياة التي تدفع لكهولها جزءا لا يستهان به من التأمينات الاجتماعية التي تساعدهم على احتمال شيخوختهم وعجزهم, وتمد الزراعة والصناعة والإعمار باليد العاملة التي يفتقدها بلد تعتبر نسبة الولادات فيه أخفض نسبة في العالم.
اعتقال علوني لم تكن عملية بسيطة ولاشخصية, بل كانت أكبر من ذلك وأخطر, لأنها هدفت إلى توجيه رسالة إلى كل صحفي وكاتب ومفكر عربي أو إسباني يفكر في رفع صوته بكلمة حق, ورمت إلى إيقاف العمل على بناء مركز إعلامي كان من الممكن أن يلعب دورا هائلا في بناء جسور التفاهم والمودة والتنسيق بين الشمال والجنوب.
اعتقال علوني جاء في الوقت المناسب والمكان المناسب, فليس أنسب من مدينة غرناطة العربية الإسلامية الجذور التاريخية الشهيرة لاعتقال مراسل عربي شهير في قناة عربية شهيرة في زمن القطب الواحد الذي يمارس الإرهاب على العالم باسم الحرب على الإرهاب, والذي عزم على استثارة الذئاب بدلا من أن يحاول الرقص معها, فالذئاب لا تنام على ضيم ولا ترضى بطويل هوان ولكنها لا تعض يدا امتدت إليها بالرفق.
إن الحكومة الإسبانية ترتكب خطأ فاحشا في السماح باستمرار اعتقال تيسير علوني لأنها تقدم دليلا فاضحا على عدم نزاهة القضاء الإسباني التابع والخاضع والمنصاع لرغبات رئيس الحكومة الإسبانية والذي يريد جر مدريد رغم أنفها إلى حلف "الخير العميم" الذي يدكّ البلاد ويتدخل في سيادتها ويفرض نفسه عسكريا وسياسيا عليها باسم تحريرها من مستبديها, وذلك طمعا في الحصول على ثروات هائلة كان السيد أثنار والسيدة وزيرة خارجيته قد وعدا بها الشعب الإسباني جهارا نهارا صبيحة غزو العراق واحتلاله.
وعد لم يتمخض حتى الآن إلا عن عواء الذئاب الجريحة الجائعة على موائد الدخلاء الذين لا يعرفون فقه التاريخ ولا فقه الطهارة من الحدث الأكبر.
اعتقال تيسير علوني سيبقى وصمة عار في جبين هذا البلد الذي لم يُشف بعد من جراح مقتل مصور القناة الخامسة الإسبانية على يد قناص أميركي, حيث امتزج دم "طارق أيوب" بدم "خوسيه كوسو" اللذين قتلتهما القوات الأميركية الغازية وهما يؤديان عملهما الخطير في نقل الحدث إلى العالم برؤية مستقلة ونزاهة وشرف, وكان هناك "تيسير علوني" جنبا إلى جنب مع مراسل القناة الخامسة المتميز "جون سيستياغا" وهما يودعان زميلين اغتالتهما يد الغدر التي لا تريد للعالم أن يرى إلا ما ترى ولا أن يسمع إلا ما تريد هي له أن يسمع, يد تريد أن تزين للدنيا تصرفاتها على أنها حرب على الإرهاب وطلب للحرية والعدالة والديمقراطية, بينما تمضي قدما في حقيقة الأمر نحو ترسيخ الحقد والكراهية بين الشعوب, والنفخ في نيران إن هبت لن تهدأ بعد اليوم, ومحاولة للتحرش بذئاب لم يعرف عنها أنها أحسنت الرقص أبدا.