آل أسد في السلطة... والمعارضة

د. بشير زين العابدين

د. بشير زين العابدين

أكاديمي سوري

كثّف نائب الرئيس السوري السابق رفعت أسد نشاطه السياسي والإعلامي في الأسابيع الماضية، فقد ظهر في مؤتمر لبعض المعارضين في باريس أسفر عن تأسيس "المجلس الوطني الديمقراطي" في 13 نوفمبر الماضي، وعلى هامش ذلك المؤتمر أجرت صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية لقاء معه، ثم ظهر مرة أخرى في مقابلة مع قناة "العربية" تحدث فيها عن الأحداث التي وقعت بسوريا أثناء وجوده فيها.

ومن خلال هذه المناسبات، والحملة الدعائية التي تقوم بها القناة الفضائية التابعة له، يمكن تلخيص أبرز ملامح الصورة الجديدة لرفعت أسد فيما يأتي:

"بروليتاري" يمتهن العمل الخيري

في استمرار لظاهرة تهافت رموز الفساد على تبني العمل الخيري، عزا شقيق الرئيس السابق ثروته إلى "هبات خيرية"؛ مؤكداً أنه غادر البلاد عام 1985، وترك فيها ممتلكاته وأمواله وحتى ملابسه (!)، واعتمد على مساعدات حصل عليها من بعض "البرجوازيين القوميين".

إلا أن هذه الأعطيات قد مكنت ابن القرداحة "البروليتاري" المكافح من امتلاك مرافق سياحية في مدينة ماربيا الإسبانية، وإنشاء قناة فضائية، وتأسيس شركات عقارية، وشراء أسهم في مشاريع أوروبية ضخمة سجلها باسماء أبنائه.

وفي رده على تلك الادعاءات؛ أكد نائب الرئيس السوري الأسبق عبد الحليم خدام في بيان نسب له مؤخراً أن "البرجوازي" الذي تبرع لرفعت بتلك الهبة السخية هو أخاه حافظ الذي: "منح شقيقه من خزينة الدولة مبلغاً قدره أربعمائة مليون دولار، ثلاثمائة مليون منها كانت قرضاً من ليبيا".

وبعد أن توفرت له هذه الثروة؛ أشار رفعت أنه (تماماً مثل رامي مخلوف) يوزع أمواله وثروته على فقراء بلاده، ويدفع لهم رواتب شهرية لمساعدتهم على مصاعب الحياة.

والغريب في الرواية الجديدة لرفعت أسد؛ تجاهله الكامل لما أشيع عنه من تهم المحسوبية والفساد أثناء توليه مناصب عديدة في فترة حكم شقيقه، فقد اتهمه رجال السلطة بممارسة مهنة التهريب، واستيراد سيارات النقل وقطع الغيار دون دفع الضرائب، وفرض الإتاوات والعمولات على تجار دمشق، إضافة إلى تلقي الرشاوى لقاء تسهيل الأنشطة غير المشروعة.

وكانت مجلة "إكسبرس" الفرنسية قد نشرت في عددها رقم (1869) تحقيقاً مطولاً حول تورط رفعت في تجارة المخدرات والأسلحة، وضلوعه في عصابات سرقة السيارات من ألمانيا وإيطاليا وبلجيكا عن طريق شبكة يديرها ابنه فراس، ثم نشرت مجلة "إنتربيو" الإسبانية تحقيقاً آخر حول صلة رفعت بأنشطة غير مشروعة في تجارة الأسلحة والمخدرات.

وعلى الرغم من الاحتجاج المتكررة من قبل محامي رفعت على هذه الحملة الصحفية؛ إلا أن الحقيقة ظهرت في شهر أكتوبر 1999 عندما اشتبكت القوات السورية مع حراس رفعت في ميناء يسيطر عليه باللاذقية، وكانت الأسباب الظاهرية هي أنشطة رفعت المحظورة في مجالات التهريب عبر ذلك الميناء .

"مسؤول" ولكن في المعارضة!

تبوأ رفعت العديد من المناصب المدنية والعسكرية في ظل حكم البعث؛ ففي عام 1966 ترأس قوة الأمن التي ألقت القبض على أمين الحافظ ومحمد عمران، وفي عام 1969 حاصرت قواته مدير المخابرات العامة (في عهد صلاح جديد) عبد الكريم الجندي الذي مات في ظروف غامضة.

وتقديراً لدوره في خدمة البعث؛ ابتعث رفعت إلى روسيا لاتباع دورة قيادة أركان عام 1974، ونتج عن تراكم خبراته العسكرية ربطه بالعديد من الأحداث الدامية التي شهدتها سوريا في الفترة: 1979-1983 كمذبحة سجن تدمر عام 1981، ومجزرة حماة عام 1982.

ونظراً لولاء رفعت لشقيقه حافظ، وما ذكر عنه من دموية ونزوع إلى العنف؛ فقد اعتمد عليه الرئيس السابق وجعله من المقربين له في تشكيل فرق عسكرية لحماية نظامه التي أوكل قيادتها لأقاربه من الدرجة الأولى، وسرعان ما ظهر رفعت على أنه الشخص الثاني في سورية بلا منازع؛ حيث أصبح عضواً في القيادة القطرية، وأطلقت عليه ألقاب شبيهة بألقاب الرئيس مثل: لقب "الرفيق القائد" على غرار لقب حافظ أسد: "الفريق القائد"، وخضعت له مجموعة من فرق النخبة التي جهزت بأحدث المعدات من دروع، ومدفعية، ودفاع جوي، وطائرات مروحية، وجهاز استخبارات مستقل، وسجون خاصة، ومنشآت عسكرية أخرى لا تخضع لقيادة الجيش ولا لرقابة الحكومة، كما ترأس رفعت "رابطة الخريجين" التي بلغ تعدادها أكثر من عشرين ألف عضو، وعين بعد ذلك رئيساً لمكتب التعليم العالي.

وعلى الرغم من اتهامه بالتدبير لمحاولة انقلابية ضد أخيه عام 1983؛ إلا أن عقوبة رفعت اقتصرت على نفيه خارج البلاد بعد تعيينه نائب رئيس الجمهورية لشؤون الأمن القومي وهو المنصب الذي احتفظ به حتى عام 1998! ولم يذكر أن رفعت قد قدم استقالته عن أي من هذه المناصب احتجاجاً على سياسة شقيقه في إدارة البلاد.

فهل يسوغ أن يقدم رفعت نفسه للشعب السوري بصفته معارضاً لحافظ أسد طوال فترة حكمه؟

والحقيقة هي أن شهادات وزير الدفاع الأسبق العماد مصطفى طلاس، وقائد الجيش الشعبي الأسبق اللواء محمد إبراهيم العلي، إضافة إلى روايات عدد من الذين خدموا تحت إمرة رفعت وتحت إمرة صهره محمد نصيف تتضافر جميعاً لإدانته بجرائم لا تخرج عن سجل آل أسد في الدموية التي عانى الشعب منها على يد حافظ وماهر وبشار.

المظلومية والخطاب الطائفي

حاول رفعت أسد أن يغير الكثير من معالم شخصيته في الأيام الماضية، إلا أن العنصر الذي لم يتغير هو الخطاب الطائفي المقيت الذي لم يتخلى عنه نائب الرئيس الأسبق وزعيم أحد أهم فرق حمايته.

ففي مقابلته مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية في شهر نوفمبر الماضي حرص رفعت على الحديث باسم الطائفة العلوية، مؤكداً أن: "معنويات العلويين هابطة، وهم فقدوا ثقتهم بقدرة بشار على إخراجهم من الأزمة، ولكن الخشية من حصول أعمال انتقامية تدفعهم إلى التزام الصمت".

أما في مقابلته مع "العربية"؛ فقد تبرأ رفعت من أي مسؤولية عن أحداث الثمانينيات، وألقى باللائمة على كل من: حكمت الشهابي ومصطفى طلاس وعبد الحليم خدام في ارتكاب مجزرة حماة، في حين لم يذكر أبناء عشيرته بأي سوء، بل لم يشر إلى مسؤولية أخيه في الأحداث الدموية التي تعرضت لها سوريا في تلك الفترة.

وعلى الصعيد نفسه دافع رفعت عن ابني شقيقه: بشار وماهر فاعتبر الأول "مغلوباً على أمره"، والثاني "مظلوماً"، وأكد على استمرار تعرض طائفته للاضطهاد لأنهم -في نظره- يمثلون 20 بالمائة من الشعب السوري (!)، في حين لا تتجاوز نسبة تمثيلهم في الجيش سوى 7 بالمائة (!).

وعلى الرغم من أن الثورة السورية قد ترفّعت منذ الأيام الأولى لاندلاعها عن أي خطاب طائفي، ورفعت شعارات تؤكد على الوحدة الوطنية، وسعى زعماؤها إلى استيعاب جميع الطوائف؛ إلا أن رؤوس الفتنة الطائفية من آل أسد يصرون على تأجيجها في صفوف المعارضة ومؤسسات الحكم على حد سواء، ويبدو أن البرنامج السياسي الجديد لرفعت "المعارض" سيتضمن المطالبة بزيادة تمثيل الطائفة التي ينتمي إليها في الجيش لتتناسب مع نسبتهم في المجتمع!

وإمعاناً منه في تبرئة ضباط العشيرة من جرائم القتل اليومي الذي تشهده البلاد؛ ألقى رفعت باللائمة على وزير الدفاع داود راجحة ورئيس الأركان جاسم الفريج، نافياً أن يكون لأقاربه أي دور يذكر، حيث أكد رفعت أن: "بشار يسعى لحل سلمي، ووزير الدفاع هو المسؤول عن القمع، لأن بشار ليس عسكريا"!

وتعود جذور النزعة الطائفية لدى رفعت أسد إلى مراحل مبكرة من حياته، فقد كان أحد أبرز داعمي "جمعية المرتضى" التي أسسها شقيقه جميل، وذكرت المصادر أن رفعت أمد هذه الجمعية بالأسلحة والسيارات التي تبرع بها من مستودعات الجيش، فكانت عشرات الحافلات تنقل مؤيديه إلى اللاذقية من مختلف المحافظات السورية، وارتكبت هذه المجموعات تجاوزات كثيرة المواطنين، خاصة في اللاذقية وطرطوس ودمشق، ومن ذلك قيام منسوبي رفعت أسد بنزع الحجاب من على رؤوس النساء في شوارع دمشق، مما أدى إلى سخط شعبي عارم اضطر معه حافظ أسد للاعتذار عن تلك الأفعال والتبرؤ منها، وإصدار أوامره بحل الجمعية عام 1984.

وقد أكد مصطفى طلاس وجود النزعة الطائفية لدى شقيق الرئيس بقوله إن رفعت كان: "يدغدغ أحلام المتعصبين طائفياً بأن وعدهم أنه سيقيم الدولة العلوية هناك كما أقام اليهود الدولة العبرية في فلسطين، وكما كان غلاة المتعصبين من الموارنة يحلمون بإقامة الدويلات الطائفية"، وتحدث طلاس (في كتابه: ثلاثة أشهر هزت سوريا) عن ظهور عبارات على جدران اللاذقية  تمجد شخص رفعت مثل "رفعت الأسد الشمس التي لا تغيب".

ومن الواضح أن الدور الجديد الذي يحاول رفعت القيام به هو تمثيل الطائفة العلوية والتحدث في الصحافة الأجنبية باسمها، ويبدو أن الدول الغربية قد وجدت في رفعت وأبنائه بغيتها في التليمع لزعيم "علوي" معارض يمثل الطائفة خارج البلاد، حيث دأب ابنه "ريبال" منذ شهر أبريل الماضي على الظهور بصفته مديراً لمنظمة "الديمقراطية والحرية في سوريا" بلندن، وإجراء محادثات مع مسؤولين غربيين بهذه الصفة.

رفعت وأحداث وحماة

تحدث رفعت أثناء ظهوره في مؤتمر باريس عن أحداث حماة، بصورة تطابق الرواية الرسمية التي يتبناها النظام، وتتلخص معالمها فيما يأتي:

1- إثارة النعرات الطائفية:

اختزل رفعت الأحداث الدموية التي شهدتها البلاد في الفترة: 1979-1983، بحملة "التكفير" و"القتل" التي نسبها إلى: "الإخوان المسلمين"، مدعياً أن هذه الفئة استهدفت كلاً من: العلويين والدروز والإسماعيليين والشيوعيين والعلمانيين والبعثيين، قائلاً: "كان الإخوان المسلمون يقتلون الناس دون تفريق".

وبهذه الطريقة المشينة، حاول رفعت أن يغطي على جرائم القتل التي ارتكبها نظام آل أسد في حق معارضيه من: الإسلاميين والناصريين، وعلى أحكام الإعدام التي صدرت بحق المعارضين من منسوبي حزب البعث، وعمليات اغتيال المعارضين في الخارج، والمعتقلات التي ضمت مجموعة من أقدم مساجين العالم، فضلاً عن التعدي على حرمات المساجد، وعمليات الترويع والقتل الجماعي التي ارتكبها أقاربه وأصهاره.

2- الدفاع عن جرائم الفرق العشائرية المسلحة:

على الرغم من تلبسه بلبوس المعارضة وتبرؤه من سياسات النظام؛ إلا أن رفعت لم يتمكن من الاستمرار في تقمص ذلك الدور المزيف؛ حيث انبرى في مؤتمر باريس للدفاع عن جرائم الفرق المسلحة التي كان يقودها هو وأقاربه، مدعياً أن أحداث حماة كانت: "حالة حربية"، وبأن الجيش قد قام: "بتحرير" المدينة، وفوجئ الخصوم بكفاءة هذه القوات التي خرجت مكللة بالنصر.

ولا يبذل رفعت أي جهد لتفسير مفهوم "النصر" الذي حققته الفرق العشائرية (ولا تزال) على جموع النساء والأطفال والمدنيين العزل من أبناء حماة، بل إنه يستفز مشاعر أهالي الضحايا والمنكوبين من خلال تحديهم بإثبات وجود مفقود واحد في سوريا، وهو يعلم أن جثث القتلى قد سحقت بالآليات ثم دفنت تحت أنقاض الأحياء القديمة من المدينة المنكوبة عام 1982. فهل هذا لسان حال المعارضة؟

3- التنصل من المسؤولية

بعد أن دافع رفعت عن جرائم نظام أخيه في فترة الثمانينيات؛ بادر إلى نفي مسؤوليته عن تلك الأحداث، مؤكداً أنه لم يذهب إلى حماة ولا إلى تدمر! وأنه لم يكن قائداً لسرايا الدفاع! بل إن سرايا الدفاع لم تذهب إلى حماة! ولدى وقوع مجزرة تدمر اقتصر دوره على إدارة عن التعليم العالي في اللاذقية!

وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا يجد رفعت نفسه مضطراً لإقصاء نفسه عن عملية "تحرير" حماة من التكفيريين والإرهابيين على حد زعمه؟ ولماذا يتبرأ من سرايا الدفاع بعد أن برأها من تهمة المشاركة في الأحداث بقوله: "لم يذهب واحد عندي من سرايا الدفاع إلى حماة"؟

لقد ارتبط آل أسد خلال العقود الأربعة الماضية بالكذب والمراوغة، ولا يختلف أداؤهم في ذلك بين وجودهم في السلطة أو في صفوف المعارضة؛ ففي المقابلة التي أجراها بشار مع قناة (إي بي سي) الأمريكية، وتلك التي أجراها رفعت مع قناة "العربية" بدا من الواضح أنه لم يبق من إرث آل أسد المتهالك سوى تلك الضحكات الصفراء التي كان العم وابن أخيه يطلقانها كلما تحدث المراسلون معهم عن حجم الخسائر البشرية في سوريا، وإظهار استخفافهم بالدم السوري، وتنصلهم من المسؤولية كلما لاحت لهم بوادر المحاسبة والعقاب.