تطهير الذاكرة له شروط
فهمي هويدي
حين دعا الدكتور كمال الجنزورى المصريين فى كلمته التى جرى بثها يوم الخميس الماضى (22/12) لأنْ ينسوا ما فات، فإننى لم أشك لحظة فى أن الرجل كان مخلصا فيما قاله. بقدر ما أننى أشك كثيرا فى إمكانية الاستجابة لهذه الدعوة، ذلك أن «الذى فات» يمكن تلخيصه فى عناوين عدة من بينها ما يلى: مقتل أكثر من 1200 شخص منذ بداية الثورة حتى الآن ــ إصابة أكثر من خمسة آلاف مصرى ومصرية، بعضهم فقد عينيه والبعض الآخر فقد أطرافه ــ تقديم
نحو 11 ألف شخص للمحاكمات العسكرية ــ تعذيب آلاف الشبان والفتيات على أيدى رجال الشرطة المدنية والعسكرية ــ هتك أعراض المتظاهرات ابتداء بتعريضهن لاختبار كشف العذرية وانتهاء بسحلهن فى الشوارع بعد تمزيق ملابسهن ــ إهانة المعتصمين من أهالى الشهداء ومصابى الثورة ــ القسوة المفرطة فى التعامل مع المتظاهرين الذين تعرضوا لإطلاق النار عليهم كما تعرضوا للاختناق بسبب القنابل المسيلة للدموع التى أثيرت شكوك خطيرة حول محتوياتها ــ تلفيق القضايا لشباب الثورة واحتجازهم فى السجون جراء ذلك
لإذلالهم وكسر إرادتهم.
لا أريد أن انكأ جراحا أو أستثير أحدا، لكننى فقط أردت أن أقول إن ما جرى من الصعب أن يُنسى، وأن مطالبتنا بأن نقلب صفحة الذى فات قبل الاعتراف بالأخطاء ومحاسبة المسئولين عن وقوعها، والاعتذار للضحايا وتعويضهم، هى دعوة لإغلاق الجرح على ما فيه من تقيحات. ولا يمكن الاطمئنان إلى هذه الخطوة قبل تنظيف الجرح وتطهيره أولا. وما لم يحدث ذلك فإن الدعوة إلى النسيان ستصبح فى حقيقة الأمر حثَْا على اختزان المرارات والثأرات والأحزان. وهذا الاختزان هو أولى مراحل المفاصلة
والقطيعة بين السلطة والمجتمع، كما أن الاختزان هو اللبنة الأولى فى احتمالات الانفجار.
أدرى أن الثورات بحسبانها تحولات انقلابية للأنظمة لها ثمنها وضحاياها. وأعلم أن الثورتين البلشفية فى روسيا ومن قبلها الثورة الفرنسية أغرقتا البلدين فى بحر من الدماء، وان من الباحثين من اعتبر الثورات أشبه بمراحل الحمى التى تضرب الجسد وتحتاج إلى وقت طويل لكى يبرأ منها. وقد احتاجت فرنسا إلى أكثر من مائة وخمسين عاما حتى تخلصت تماما من أعراض الحمى وآثارها. لكننا فى مصر لم نكن بصدد ثورة مسلحة تناطحت فيها قوى الاستبداد مع قوى الثورة. وإنما أحدثنا تغييرا فريدا فى
بابه حقق نموذجا باهرا لثورة سلمية اسقطت النظام وزلزلت أركانه بخروج ملايين الغاضبين إلى شوارع مصر وميادينها، وترديدهم للنداءات المجلجلة التى صمت الآذان وتفاعل معها الجيش، فلم يجد الفرعون عن الرحيل بديلا، فى حين لم يطلق المتظاهرون رصاصة واحدة.
لست مع نسيان ما جرى ولكننى مع الدعوة إلى تجاوزه والاعتبار منه. وذلك لا يتحقق بدعوة عاطفية تطلق فى خطبة تليفزيونية. وإنما له شروطه التى ينبغى أن تتحقق أولا، وقد أشرت إلى الشروط الثلاثة الضرورية لتطهير الذاكرة وتحقيق المصالحة المنشودة. وهى التى تتمثل فى الاعتراف بالخطأ ومحاسبة المسئولين عنه وتعويض المتضررين منه.
إن أحد الفروق الجوهرية بين القطيع والمجتمع الحى، أن القطيع يلوح له بالعصا ــ أحيانا يضرب بها ــ فيتجه فى مسيرته إلى حيث يشار إليه. ويمتثل دون أن تخطر له خاطرة الغضب أو التمرد. أما التعامل مع المجتمعات الحية فالأمر مختلف، ناهيك عن تلك التى لا تزال تعيش نبض الثورة وأجواءها. ذلك أن تلك المجتمعات لها حقوق يجب أن تستوفى. ولها كرامة ينبغى أن تصان.
لقد تمنيت أن يحدثنا رئيس الوزراء، وقد أعطيت له صلاحيات رئيس الجمهورية، عن الإجراءات التى اتخذها لاحتواء الأخطاء وعلاج آثارها، قبل أن يدعونا إلى نسيانها. وأخشى ما أخشاه أن يكون قد تم اقناعه بأن السلطة لم ترتكب خطأ ولم تطلق رصاصة، وان المتظاهرين ليسوا سوى نفر من العاطلين والبلطجية الأشرار الذين يستحقون ما نزل بهم. كما أخشى أن يكون قد صدق أن الأخطاء التى وقعت ارتكبها مجهولون والحق فيها على الطليان.
إن تجاوز ما جرى ليس مطلوبا فقط لمصالحة المجتمع وتهدئة خواطره، ولكنه مطلوب أيضا لاستكمال مسيرة تلك الثورة النادرة التى ظلمها أهلها وحراسها بأكثر مما ظلمها خصومها.