متى تنهض هذه الأمَّة المستباحة؟!
صبحي غندور*
أيّة صفةٍ يمكن إطلاقها على واقع الحال الراهن في المنطقة العربية؟ تقسيم.. تدويل.. صراعات .. أم تخاذل؟
ربّما تصحّ كلّ واحدة من هذه الصفات، لكن الأكثر تعبيراً الآن منها عن واقع حال أمّة العرب هي أنَّها أمَّة مستباحة.
فما يحدث في قلبها وعلى أطرافها هو حالة الاستباحة بكلّ معانيها وصورِها.
وأيّ جبروتٍ هذا الذي تمارسه واشنطن اليوم، حينما يُصبح ممنوعاً على مجلس الأمن حتّى إصدار قرار يتحدّث عن ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، فكيف عن حقّ مقاومته أصلاً؟!.
فأيّ منطقٍ دولي اعتمدته واشنطن عندما أرسلت مئات الألوف من الجنود الأمريكيين لتغيير نظامٍ في العراق، ثمّ أباحت لحلف "الناتو" التدخّل العسكري في ليبيا، ولا يعطي هذا المنطق نفسه الحقَّ للفلسطينيين باستعادة خمس مساحة وطنهم الذي جرى اغتصابه بموافقة دولية، ولا طبعاً حقهم بالمقاومة من أجل تحرير أرضهم المحتلّة؟
وإنْ ردّ البعض هذا الأمر إلى خصوصيّات الواقع الدولي ومنطلق المصالح الخاصّة للدول الكبرى، فكيف ترضى المنطقة العربية بأن تكون هي أيضاً في خانة المسهِّلين لهذا الواقع ولهذه السياسة التي تمنع مواجهة الآلة العسكرية الإسرائيلية، أو حتّى ممارسة الضغط لانهاء احتلالها، وتريد في الوقت عينه استخدام الأسلوب العسكري من أجل تغيير حكومات في المنطقة!.
تُرى، لو لم تستبِح جيوش دول عربية سلطات أوطانها أولاً ثمَّ حقوق دولٍ عربيةٍ أخرى، ولو لم تستبِح حكومات عربية حقوق مواطنيها، هل كانت الأمَّة العربية لتصل إلى هذا الحدِّ من الضعف والعجز والانقسام والاستباحة من الخارج؟
يبدو أنَّ أمَّة العرب تعيش مزيجاً من حالتين: حالة المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى، حيث خطَّت مساطر سايكس (الإنجليزي) وبيكو (الفرنسي) ما نحن عليه من حدودٍ جغرافية للدول العربية، كما مهَّدت لهجرة اليهود إلى فلسطين وبدء المشروع الصهيوني على الأرض العربية .. والحالة الثانية، هي وضع المنطقة العربية ما بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ولادة دولة إسرائيل في ظلِّ متغيّراتٍ دولية أفرزتها نتائج هذه الحرب وانتصار أميركا وحلفائها في العالم..
لكنْ لا الحالة الأولى بعد الحرب العالمية الأولى، ولا الحالة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية في القرن الماضي منعتا من حدوت ثوراتٍ وانتفاضاتٍ شعبيةٍ عربية ضدَّ الاحتلال والتسلّط الأجنبي والسلطات المتعاونة معه، رغم ما أصاب بعض هذه الثورات والانتفاضات من انتكاساتٍ وتعثّر وأخطاء حيناً ووأدٍ خارجيٍّ في حينٍ آخر.
أيضاً، لا القنابل النووية في اليابان، ولا فرض معاهدات الاستسلام، ولا تقسيم ألمانيا لنصف قرن، ولا تدمير كلّ مصانع ألمانيا ومعدَّاتها، لم يؤدِّ ذلك كلّه إلى استسلام الأمَّة اليابانية أو الأمَّة الألمانية .. استسلمت حكومات وجيوش، لكن لم تندثر هذه الأمم وشعوبها، ولم تتراجع عن أملها ببناء مستقبلٍ أفضل، وقد نجحت بذلك بعد عقودٍ قليلة من الزمن وهي تنافس اليوم أكبر قوة اقتصادية في العالم وتمارس دورها الهام في تطوّر العالم ككلّ.
إنّ القوى الكبرى تتعامل مع المنطقة العربية كوحدةٍ متكاملة مستهدفة، وفي إطار خطّة استراتيجية واحدة لكلّ أجزاء المنطقة، بينما الأمَّة العربية موزّعة على أكثر من عشرين دولة وفق الترتيباتٍ الدولية التي حدثت في مطلع القرن العشرين، والدول العربية (بهيأتها الحالية) باتت الآن أمراً واقعاً يزداد ترسّخاً يوماً بعد يوم، بل بعضها مهدّد بمزيدٍ من خطر الانقسام والانشطار!.
ولقد أدّى هذا الواقع الانقسامي، وما يزال، إلى بعثرة الطاقات العربية (المادية والبشرية) وإلى صعوبة تأمين قوّة فاعلة واحدة لمواجهة التحدّيات الخارجية أو للقيام بدورٍ إقليمي مؤثّر تجاه الأزمات المحلية، بل أدّى أيضاً لوجود عجزٍ أمني ذاتي لا يستطيع التعامل مع ما يطرأ من أزماتٍ وصراعات داخل المنطقة ويبرّر الاستعانة بقوًى أمنية خارجية قادرة على حلّ هذه الصراعات ..
إنّ تصحيح أخطاء الماضي والحاضر لا يكون بالتخلّي عن هدف التعاون العربي المشترك بل والتكامل الاتحادي الذي يحافظ على الخصوصيات الوطنية لكلّ بلدٍ عربي (كما في التجربة الأوروبية)، وذلك يتحقّق بإصلاح الإعطاب في الجسم الدستوري السياسي العربي وفي مؤسّسات الإدارة وفي هيئات التخطيط والتشريع والرقابة، وبضرورة الإصرار على هدف التكامل العربي مهما كانت الصعاب والعوائق.
إنَّ الأمّة العربية الآن هي أمام الخيار بين تكامل الوطنيات العربية القائمة أو الانحدار أكثر في تفتيت البلاد العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وإثنية، متصارعة فيما بينها ومتفّق كلّ منها مع قوى أجنبية ومع مشاريع إسرائيلية لمستقبل المنطقة!!
من دروس التجربة الاتحادية الأوروبية، أنَّ هذه الدول تحكمها مؤسسات سياسية ديمقراطية وتُخضع قرار الاتحاد فيما بينها إلى الإرادة الشعبية في كلّ بلد فلا تفرض خيار الوحدة بالقوة، ولا يضمّ الكبير القوي في أوروبا.. الصغير الضعيف فيها، وقد كان ذلك درساً كبيراً من دروس الحربين العالميتين الأولى والثانية ومن تجارب ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية، حيث أنّه تأكّد لشعوب أوروبا أنَّ خيار الديمقراطية، وأسلوب الإقناع الحر بأهمّية الاتحاد، هما الطريق لبناء مستقبلٍ أفضل لكلّ بلدٍ أوروبي وللتعاون الأوروبي المشترك .. فهل يدرك العرب أيضاً هذه الدروس ؟!
إنَّ بعض العرب يؤرّخ لعصر الهزيمة والتراجعات الذي تعيشه الأمّة العربية بالعودة فقط إلى النصف الأخير من القرن الماضي، فكثيراً ما نسمع ونقرأ عن الستين سنة الماضية وكأنّها عصر الانحطاط الذي استتبع العصر الذهبي للعرب!! .. فهل هذا صحيحٌ تاريخياً؟! وهل صحيح أنَّ العصر الانهزامي العربي الراهن بدأ فقط مع تاريخ هزيمة عام 1948؟! أو مع هزيمة عام 1967؟! وماذا عن النصف الأول من القرن العشرين وما جرى فيه أيضاً من سلبياتٍ فرضت نفسها على الأمّة العربية كلّها.. فلقد حكم الأوروبي "الديمقراطي" معظم البلاد العربية بأسلوب الحكم المباشر وبصلاحيات مطلقة وبتغطية دولية (باسم الانتداب)، فلِمَ لم يُقم هذا "الديمقراطي" الأوروبي مؤسسات سياسية ديمقراطية في البلاد التي حكمها، ولِمَ حافظ (بل وشجّع) على الصراعات الداخلية في كلّ بلد وأبقى اقتصاديات هذه البلاد في أقصى حالات التخلّف حتى يسهل عليه سرقة ثرواتها؟!
وماذا أيضاً عن مسؤولية جماعات الفكر والثقافة والدعوة التي عايشت تلك الفترة، فاتّجه بعضها يدافع عن "التحديث الأوروبي" القادم للمنطقة، بينما راح بعضها الآخر يبرّر سلبيات الحقبة العثمانية ويعيش حلم يقظة بالعودة لعصور "الخلافة الإسلامية".. قلّة قليلة فقط هي التي خرجت تواجه المأزقين: مأزق الماضي العثماني ومآزق الحاضر الاستعماري الأوروبي .. قلّة كان من أبرز أعلامها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ومالك بن نبي وآخرون، طالبوا جميعاً بإصلاح الفكر والذات العربية والإسلامية كمدخل وحيد لبناء مستقبلٍ أفضل .. اشتركوا جميعاً في ضرورة التعامل مع مشكلة الاستبداد المعشّشة في الأفراد والجماعات، وطالبوا بتحرير الفكر من القوالب الجامدة وباعتماد مرجعية العقل في فهم أمور الدنيا والفقه معاً .. هؤلاء وغيرهم طالبوا أيضاً بالتخلّص من العادات والتقاليد الخاطئة التي حرمت المرأة من حقوقها المدنية والاجتماعية.
لكن فكر هذه الثلّة من الإصلاحيين العرب والمسلمين بقي أسير الكتب ولم يتحوّل إلى حركة تغيير شعبية شاملة، وبقي المجتمع العربي أسير التطرّف نحو التحديث الغربي أو التطرّف في العودة إلى الماضي السلفي.
اليوم، تعيش الأمّة العربية أنماطاً مشابهة لما كانت عليه منذ مائة عام، وهي تدخل مرحلة شبيهة بما حصل عقب الحرب العالمية الأولى من دخول عدّة بلدان عربية في مرحلة "الانتداب" الدولي، ومن تفتيت وتقسيم للأوطان والمجتمعات.
أيضاً، تتكرّر اليوم أخطاء القرن الماضي، من حيث الاشتراك العربي في وصف الواقع الحاضر لكن مع عدم الاتفاق على مشروع عربيٍ مشترك للمستقبل، والعمل المنظّم من أجل تحقيقه.
ولن يشهد هذا "المشروع المستقبلي العربي" النور ما لم يحصل إصلاح ونهضة في واقع حال جماعات الفكر ومؤسسات المجتمع المدني العربي، وفي المنظمات السياسية التي تطرح نفسها كأدوات للتغيير أو كبدائل لما هو قائم في الواقع العربي الراهن.
المفكّرون والمثقفون والإعلاميون العرب معنيّون الآن بالتفكير في كيفيّة وضع "مشروع نهضوي عربي مشترك" وليس في التحليل السياسي للواقع الراهن فقط.. ففي هذه الأيام يكثر المحلّلون السياسيون لحاضر الأمَّة، ويكثر أيضاً المتمترسون القابعون في ماضي هذه الأمّة، لكن يقلّ عدد المُعدّين لمستقبلٍ أفضل لهذه الأمّة .. علماً بأنَّ الأمّة التي لا يفكّر أبناؤها لمستقبلها تنقاد لما يفكّر له الغرباء .. وهم الآن في عقر دارنا!!