المؤامرة بين الوهم والحقيقة

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

كان أبي رحمه الله يلبس شروالاً , ولكن مالبست الشروال في حياتي قط , فلم يعنفني أبي ولم يعيب علي ذلك

إن لبست كما يلبس أباك فقد كتبت عند الناس بأنك بار له ومحافظ على عهده غير المكتوب , وعلى جيله وسابقيه

ولكن إن غيرت ذلك لمستحدث في الحياة , أقل كلفة وأكثر جمالاً فقد فتنت وأصبحت من الخارجين على التقاليد

إنك تحمل في داخلك فكراً يجعلك أسيراً لمؤامرة خارجية , إنك بذلك قد أصبحت جاسوساً وعميلاً وخائن لكل التقاليد

كل شيء في حياتنا مؤامرة , وكل حركة تمتد للأمام فهي تنفيذاً للمؤامرة

عندما تصبح وضيعاً , فقيراً معدماً , مهلهل الثياب ضائع الفكر مشتتاً , لاتسمع ولا ترى ولا تحس , فأنت عندها :

محصن من كل المؤامرات , وطني بامتياذ , يرضى عنك الخلف والسلف والحاكم يمدك بالفتات , في علَم تحمله , وقصيدة شعر تمدحه , وعابد زاهد تعبده , ولا يعيب عليك البشر , فهو واسطة لرب أكبر .

شباب الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا

أرادوا نزع الطربوش , ونزع البيك والباشا , ونزح الغترة , ونزع السروال

فكان ذلك هو المؤامرة بعينها

شباب الثورة نصيحة هي :

لاتوجد في الكون كله مؤامرات , ولا يوجد من سيسرق منكم جهدكم , وكل من يدعي ويقول هنالك مؤامرة فهو واهم , فالمؤامرة هي بحد ذاتها , وهم عميق ترسخ في داخلنا , متوارثاً جيلاً بعد جيل , كقصص الخيال والقصص المرعبة عندما تروى للأطفال لتبقى مترسخة في ذهنه , فإن وجد في مكان لابشر فيه , والليل دامس , فكل حركة يسمعها من شجرة تصدر صوتاً أو حشرة , يرى فيها جنياً أو شبحاً يريد الانتقام منه .

فلو وضعت ماسة في مستنقع , لعشرات السنين وهاجمتها كل جرائيم المستنقع ستبقى ماسة لن تتغير .

فالمؤامرة الحقيقية في داخلنا , ونفوسنا مستعدة لقبولها , وبالتالي صاحبها لن يجد صعوبة في تنفيذها عليك .

تروي بعض القصص الشعبية , أنه سئل جني من قبل إنسان فقال له :

ماعلاقتكم بالبشر , وما سبب ترصدكم له وإخافة بعض الناس

فقال الجني : تراه عند كل حركة يقول جني جني , ويستعيذ ويرتجف , وعندما نراه يفعل ذلك نقول له ....بخ...فيقع أسيراً مغشياً عليه يتصورنا في كل مكان .

حياتنا وحياة أجيال كثيرة من قبلنا ضاعت في أوهام المؤامرات

لقد ضاعت حياتنا كلها ومن سبقنا من آبائنا والذين أُلبسوا وهم المؤامرة

ضاعت الحياة في أمتنا , عندما خاف كل فريق من المؤامرة ,فسلم نفسه للمؤامرة لكي يعالج ضعفه باحتيال أكبر

صراع مستمر بين كياناتنا

كل الناس هم اعداؤنا , ونحن أعداء بعض

قومي ضد اسلامي , وإسلامي ينتمي لمذهب أو طائفة أو فئة داخلها, متطرف ومتساهل ومعتدل , ويساري ويميني , وعربي وآىشوري وكردي وأميغيزي , وشيعي وسني , ومسيحي وعلوي ويزيدي .

سنة خلقها الله في التنوع البشري , ومن قوميات وأعراق وطوائف شتى , فالقومييون مختلفون , والدينيون مختلفون والعلمانيون مختلفون , وكلها بالوهم المصطنع من المؤامرة  .

فلن يكون هناك أمة متقدمة ولا ثورات ناجحة , وسنبقى على حالنا المعهود نبحث عن نقطة ضياء في قبور الأقدمين ونفتخر فيها , ونحن ننام قريري العيون في أننا أسرى المؤامرة .

وبالتالي فالمؤامرة هي من صنعنا لامن صنع غيرنا , وفي داخلنا وكانها جينات موروثة لايمكننا علاجها .فكل فئة عندنا ترى أنها مظلومة , ويراها البعض ظالمة , وبالتالي فكل فئة عندنا صارت أبوابها مشرعة لكل شيطان عابث , وحتى لو كان غير في البداية , ولكن عندما يستقر في الداخل سيتقمص شخصية كل شيطان مارق , من كثرة المرعى والأجواء المناسبة

فقد استغل الحكام هذا التشرزم وحياة الوهم التي في داخلنا , فدخلوا منها وسيطروا باسم المؤامرة  , وهي الواحة الخضراء فيها كل الذي يحلمون فيه 

المؤامرة الحقيقية هم هؤلاء الطغاة , وهم المروجين للمؤامرة خلفاً من بعد خلف

فعندما تسقطون الحكام بجهدكم او بمساعدة من اكتسب القوة المادية , ونزع وهم المؤامرات من داخلكم , وأن هناك سنة إلهية لاتتغير ولا تتبدل في تعاون الشعوب مع بعضها , وأن تجعلوا قناعة في داخلكم , أننا نعيش كمجتمع من الناس , وأن المؤامرة الحقيقية هي : أن نقيّم الشخص فقط من حيث الانتماء لامن حيث الفعل والسلوك والعمل , عندها لن تجد المؤامرة لها مرتعاً ربوعكم الخضراء وواحاتها.

فلا توجد مؤامرة على ضعيف , والمؤامرات تكون بين الأقوياء , فالضعيف يبقى تحت اليد ميسراً , ولا يحتاج لطرق شاذة تقوده .