كمن يصطاد السمك في البحر الميت
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
*الثوار في ميادين التحرير العربية لم ينتظروا إذنا من أمريكا أو من إسرائيل لينفجر غضبهم على الأنظمة المستبدة. فهل نوقف تأييدنا للثوار في مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس والبحرين بسبب اتجاه الموقف الأمريكي المؤيد للتغيير؟!*
"البزوغ والأفول" هما صيغتان ملازمتان للتاريخ البشري بكل امتداده.والاستعمال السائد للبزوغ والأفول يذهب نحو دراسة الحضارات، صعودها وسقوطها.الحركات السياسية ، انطلاقتها وعوامل اختفائها ..
بالطبع لا شيء يحدث تلقائيا. لكل حدث مسبباته. لكل تقدم عوامله المؤثرة. ولكل سقوط ظواهره السلبية التي تبدأ بالتراكم المسبق للأفول.
إن حركة التاريخ، أو المناهج الاجتماعية، أو العقائد الاقتصادية، أو الفكر السياسي تواجه دائما عوامل التحدي وأساليب التعامل مع هذا التحدي، واستخلاص الجديد منها، أو السقوط في متاهات الماضي وغيبياته. والويل لمن يطمر رأسه بالرمل ، ظنا منه أن فلسفة النعامة تنفع في حالات التحدي التي يواجهها العقل البشري والمجتمع الإنساني.
والأسئلة التي تطرح هامة.
هل تشكل ألاستجابة لتحد ما، تراجعا عن قيم فكرية أساسية؟
هل تشكل ألاستجابة اندفاعا غير محسوب وراء مواقف تبدو أكثر شعبية؟
هل تشكل ألاستجابة تبني مواقف مبرراتها ومنطقها في القناعات الشخصية لمن يملك القرار؟
ربما نحن أمام حالة من "التعاقب الدوري"، حسب نظرية تاريخية هامة طرحها إبن خلدون؟
بمعنى أن لكل مرحلة بديلها ، والبديل من المفهوم البديهي أن يكون أرقى وأكثر شمولية.مكانك عد هو انتحار، فكيف مع التراجع؟ والمستهجن أن هناك من يصور التراجع ممانعة وصمود.
إذا طبقنا هذه الرؤية على مجتمعاتنا اليوم ، سنصل إلى نتيجة أن كل تنظيم فكري أو اجتماعي أو سياسي قائم ، هو ظاهرة عابرة، تخضع لعوامل البزوغ والأفول. وهي عوامل ليست منزلة من السماء، بل نتيجة مواقف وتصرفات شخصانية أو فئوية.
إن ما يسرع عملية البزوغ هي الكوادر والقيادات والمناهج والطاقة الإبداعية في الفكر والتطبيق، وما يسرع عملية الأفول هي أيضا الكوادر والقيادات والمناهج المترهلة وفقدان الطاقة الإبداعية، وانحطاط الفكر، وعبثية المواقف، أي عبثية التطبيق الفعلي للفكر الذي قاد إلى البزوغ، أو احدث تحولا تحكمت فيه حالة طارئة، لمصلحة فئة، أو تنظيم، بات ظنهم أنهم يملكون الحاضر والمستقبل.
قبل أن أدخل في التفاصيل الأبسط ، لا بد من توضيح آخر.
الفلسفة تطرح مسألة لا تقع بعيدا عن البزوغ والأفول.تطرح مفهومان آخران مترابطان، "البنية والوظيفة" ويتعلق بتركيب المنظومة وأساليب عملها. وهذا يخضع للتطور في بنية المنظومة. والتطور لا يعني شرطا الصعود والإبداع، بل يعني أيضا السقوط والاضمحلال، والسقوط لا يحدث تلقائيا، إنما عبر ولادة عسيرة للجديد. وهي الحالة العينية التي نعيشها في الربيع العربي.
للمفهومان الفلسفيان، البنية والوظيفة، أهمية عظيمة في البحث العلمي. وفي نظرية المعرفة. بمعنى آخر ليس ثمة ظاهرة ( أو تنظيم) لا يمكن معرفة تقييمها( تقييمه) عبر دراسة سلوكها( سلوكه). والتقييم يختلف بناء على التغير في البنية المعينة. والتغيير في البنية يقود شرطا إلى تغيير في السلوك، السلوك الفكري، السلوك السياسي، الخواص التي تشكل الماهية للبنية، قد تكون موضوعا علميا أيضا.. وليس شرطا حزبا سياسيا، أو مؤسسة اجتماعية، أو نظام دولة.
المكمل نسبيا لهذا الطرح السريع، موضوع "التاريخي والمنطقي". وهما مقولتان فلسفيتان تعالجان عملية التطور التاريخي لموضوع ما، فكري، سياسي، اقتصادي، علمي، مجتمعي، حضارة تاريخية وغير ذلك..
والسؤال المطروح مدى المنطق في التطور الحاصل؟
ربما من السهل فهم المنطق العلمي، فله ادواته ومختبراته وخضوعه للتجارب الملموسة. أما في الحراك الاجتماعي والسياسي والفكري، فالمسالة غير متيسرة ولا تخضع لتجارب مخبرية او فحوصات عينية. إنما القدرة على التفكير الفلسفي بالظواهر.
الفلسفة أعطتنا منذ نشأت على أساس الفصل بين العمل الذهني والعمل الجسدي، القدرة على دراسة الظواهر المجردة ذهنيا، عبر تدريب العقل على التفكير المنطقي في صيرورة الأشياء. والماركسية كفلسفة طلائعية، كانت الأكثر تقدما في هذا المجال، خاصة بما قدمته للعقل البشري من القوانين العامة لتطور الطبيعة والمجتمع والفكر،وخاصة المنهج الديالكتيكي. والديالكتيك كما وصفه لينين: "هو علم عن التطور التاريخي الشامل والطافح بالتناقضات"، وهذا حسب هيغل: "ضمن عملية من الحركة الصاعدة الشاملة،حيث التطور من الدرجات الدنيا إلى العليا، والتي مصدرها التناقضات".
أما أنظمتنا العربية، فلم نعرف منها غير الحركة الشاملة النازلة إلى الحضيض.
إذن لا شيء مستحيل في فهم ما يجري داخل مجتمعاتنا وفي عالمنا، خاصة في عصر العولمة وتحول عالمنا إلى ما يشبه القرية الصغيرة. والموضوع ليس مجرد قرار هيئة. أو تفكير زعيم، أو نزوة شخصية. ولم يعد التضليل التافه لنظام فاسد مثل النظام السوري مثلا، يخدع إلا نفسه، والمؤهلين سلفا مع سبق الإصرار للانخداع.
عندما تصبح صياغة مواقفنا، بناء على نزوات شخصية، بتجاهل كامل للحقائق، وللمعرفة العلمية للظواهر الاجتماعية أو السياسية. نقع في المحظور. في تجاوز العقل، وفي الدفع نحو الأفول.
ربما أكون قد أضأت قليلا دوافعي لهذا المقال، الذي ترددت كثيرا في كتابته ، حرصا مني على جسم سياسي ، رغم خلافي معه، ورغم نقدي لشخصيات مركزية في قيادته، إلا أني أراه جسما مركزيا ضروريا وهاما، وله امتداده التاريخي والنضالي في مجتمعنا، ويتمتع بتراكم كبير في تجربته، من المتوقع أن تكون عاملا في تنوير وتصويب مواقفه من الأحداث والتطورات العاصفة التي نشهدها في هذه الفترة التاريخية العاصفة التي تمر بها منطقتنا العربية ، وكل شرقنا الأوسط وعالمنا عامة. ولكنه لسبب مستهجن وغير قابل لأي منطق ، قرر الاتجاه عكس مقولاته الفلسفية نفسها. مناقضا فكره الثوري بطروحات سياسية فات موعد تسويقها.
للأسف توقعاتي خابت في قضية هي الأهم بإسقاطاتها على مستقبل العالم العربي.
وأعني لجوء أحزاب ثورية قديمة للدفاع عن أنظمة وقادة ارتكبوا المذابح ويرتكبون أبشع الجرائم ضد شعوبهم. بحجة أن المعيار لموقفهم السياسي، كما عبر عنه أحد قادة هذه الأحزاب، من الأحداث هو رصد الموقف الأمريكي:"أمريكا مع، نحن ضد. أمريكا ضد، نحن مع". عبقرية ( من شدة المهزلة) سياسية يجب أن تدرس في العلوم السياسية، أو مهزلة تبرهن تسارع الأفول . تسارع نهاية حركة فقدت منطقها التاريخي والفكري. استبدلته بنهج عشوائي لا يمكن وصفه إلا بأنه تسخيف وتحقير السياسية بجعلها أسود أبيض.
لم تكن السياسة منذ مارسها البشر إلا تشكيلة واسعة من الألوان والأجزاء تحتاج إلى قدرة فرز كبيرة، وقدرة جمع الجزيئات الصغيرة لتشكيل الصورة والموقف، ومستوى مرتفع جدا من المعرفة الفكرية والفلسفية والتاريخية، حتى لا يقع الجسم السياسي، بمواقف تضاعف اندفاعه نحو الأفول.
الموضوع ليس اكتشاف شخص في قمة الهرم القيادي أن ميوله وتفكيره الشخصي، يدفعانه نحو موقف معين. ربما ينفذ سياسة تدمير مبرمجة، أو هو غباء سياسي مطلق!!
ربما اتضح الحديث الآن أني أقصد تحديدا مواقف حزب تاريخي ومركزي في صيرورة العرب في إسرائيل، وأعني الحزب الشيوعي. ومع الأسف أحزاب شيوعية أخرى في عالمنا العربي ، وشخصيات كنت أجل فكرها ورؤيتها. موقفها متماثل مع هذه المواقف.
ما يجري تبنيه من مواقف بات يتجاوز الموضوع السياسي وموضوع أمريكا وموضوع إسرائيل والصهيونية.
ما يحدث في العالم العربي هو انتفاضة، حتى اليوم لها طابع انتفاضة باستيلية، أي انفجار تلقائي للغضب من أنظمة الاستبداد والفساد،ولكن بدون رؤية اجتماعية سياسية للشعب الثائر، لما بعد انتصار الثورة. بمعنى أن ما يجري في العالم العربي ليست ثورة اجتماعية، وليست ثورة اشتراكية. هذا مع الأسف بسبب غياب قيادات قادرة على ضبط الغضب والانفجار الشعبي وقيادته وتوجيهه. وهو لا يسجل لصالح الثورات العربية. بل يشكل خطرا على مستقبل الثورات العربية.. يفتح الأبواب لسيطرة قوى لا تنظر للمستقبل، إنما تتغزل بالماضي. هي الأحسن تنظيما بلا شك، والأكثر نشاطا جماهيريا ، والأفضل إعلاميا، عبر استغلال الدين والإيمان الإنساني التلقائي، الذي بات يرى خلاصه من الأنظمة المستبدة من السماء، بعد فشل كل الحركات والتنظيمات السياسية "الأرضية" في إنجاز مكسب واحد.. أو قيادة نضال جماهيري مكلف على المستوى الشخصي.
الثوار في ميادين التحرير العربية لم ينتظروا إذنا من أمريكا أو من إسرائيل لينفجر غضبهم على الأنظمة المستبدة. فهل نوقف تأييدنا للثوار في مصر وسوريا واليمن وليبيا وتونس والبحرين بسبب اتجاه الموقف الأمريكي المؤيد للتغيير؟!
السياسة الأمريكية لا تبنى حسب مشاعر الرئيس وفريقه، بل حسب مؤسسات منظمة لا تترك مساحة للصدف.وكان واضحا للمفكرين الاستراتيجيين الأمريكيين أن التغيير صار قاب قوسين أو أدنى، وأن الربيع العربي ليس وليد نزوة. لذلك رفض الرئيس الأمريكي مثلا تلقي مكالمة من صديقه العزيز مبارك.
حتى الولايات المتحدة قرأت بشكل سليم دوافع الثورات العربية وتخلت عن أكثر الزعماء العرب خضوعا لسياستها، وتنفيذا لمشاريعها، وأعني المخلوع حسني مبارك.
هذا لا يعني أن ما ارتكبته وترتكبه أمريكا في العراق يتوافق مع تطلعاتنا. وهذا لا يعني أن سياسة الولايات المتحدة المعادية لحقوق الشعوب العربية والشعب الفلسطيني على رأسها، نال تأييدنا.وهذا لا يعني أننا لم نعد نناضل ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، وضد المواقف الأمريكية المغالية في دعم الاحتلال الإسرائيلي بالسلاح والمال والفيتو..
هل سننضم لتنظيم القاعدة لأن أمريكا ضد القاعدة؟
لماذا أيدنا اتفاق اوسلو وبأصواتنا العربية مررته الكنيست في إسرائيل؟ هل كانت أمريكا ضد الاتفاق، أم من أكثر الدافعين لإقراره؟
النظام السوري الذي تدافعون عنه، بحجة معاداة أمريكا له، كان شريكا في الجريمة ضد العراق. وضع فرقه العسكرية تحت إشراف القيادة العسكرية الأمريكية التي نظمت احتلال وتدمير العراق، وليس إسقاط النظام الاستبدادي المغامر فقط.
أين كان صوتكم يومها؟ هل كان نظام الأسد ممانعا للاستعمار، أم ذليلا يريد رضاء أمريكا طمعا بمساعداتها كما تقدم لمصر والجزائر وتونس والأردن ولبنان والسلطة الفلسطينية ودولا عربية أخرى؟
أعرف أن الحوار لم يعد منهجا ذكيا مع حركة في طريقها للأفول إذا لم تتدارك مواقفها وفكرها وتعيد بناء هيكليتها التنظيمية والفكرية والإعلامية بما يتمشى مع تاريخها المجيد.
مواقف الحزب الشيوعي الإسرائيلي تواجه اليوم نقدا واسعا من جمهور واسع من المثقفين، وشخصيات محسوبة على الحزب، ومن أعضاء حزب أيضا يرفضون هذه المواقف.أي نقدا من داخل صفوفه.
إن ما يجري يقود إلى مرحة الأفول إذا استمر نهج مقالات محمد نفاع ، سكرتير عام الحزب الشيوعي، الذي بدا الآن يتباكى على مجرم بحق شعبه ومختل عقليا مثل ألقذافي. أنا أيضا ضد قتله بهذه الطريقة الهمجية رغم كل جرائمه، نفاع انتقد بحق همجية قتله، وكنت أتمنى لو حوكم وفضح نهجه ونهج الزعماء العرب من أمثاله، ولكني لا أرى به "شمسا للشعوب" ومعيارا لعالم عربي حر، كما قد يثير الوهم مقال محمد نفاع. وأيضا تصريحات بالغة الخطورة لمحمد بركة، الشخصية المركزية في الحزب والجبهة في تصريحاته للتلفزيون السوري، حول المعايير السياسية التي يتبعها الحزب: "أمريكا مع... نحن ضد"!!
آمل أن ينظروا لمقالي من زاوية ايجابية، وليس عدائية. ما قدمته لهذا الحزب يتجاوز طاقتي أن أكون معاديا له، رغم أن بعض من يستحقون الشفقة، يتفوهون ضدي بتعابير لا تليق بجسم سياسي. ورغم ذلك ، مثلا، لم أتردد في خوض معركتي وحيدا دفاعا وتسويقا لقائمة الجبهة في انتخابات بلدية الناصرة ، مرة وراء أخرى، بسلسلة مقالات نشرت في عشرات المواقع الإعلامية إلا مواقعهم.. اسم نبيل عودة يصيبهم بالإحباط؟ وقد لاحظ ذلك عدد من الأصدقاء وأعضاء الحزب، واستهجنوا الأمر.. ولكن قناعاتي لا تخضع للأهواء والأجواء من أي مواقف تتخذ صبغة شخصية ، حتى لو كان مصدرها أعلى هيئة تنظيمية.
اكتب اليوم برؤية قلقة. أحس بنبض الشارع. وأرى بوضوح فكري كامل، التغييرات التي لا تتوقف، ولا أجد ذلك الجسم السياسي، الذي يتمتع بقدرات تنظيمية وفكرية لإحداث انطلاقة جديدة في مكانته.
إن استمرار العيش على الرصيد التاريخي، بدون فعل لتجديد وتوسيع القاعدة الاجتماعية السياسية ، يحمل في طياته ، اتجاها واحدا، لا أعرف كم يستغرق من الوقت، ولكن الاتجاه واضح ... لا سمك في البحر الميت!!