حكم الجاسوس في الفقه الإسلامي
د . صلاح الدين الإدلبي
قتل الجاسوس
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
ـ إذا باع أحد المنتسبين للإسلام دينه وأمانته وخان أمته وأصبح جاسوسا ينقل أخبار المجاهدين إلى أعداء الله تعالى فلا شك في وجوب قتله، لأنه من أشد المحاربين لدين الله ورسوله، ومن أفجر الساعين بالفساد في الأرض، وإذا لم يكن عمله هذا فسادا في الأرض فليس على ظهرها إذن فساد.
وهذه بعض الأدلة على ذلك:
ـ قال الله جل شأنه: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض".
ـ وقد وقعت زلة من حاطب بن أبى بلتعة رضي الله عنه، إذ كتب إلى أناس من المشركين يخبرهم بتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم قاصدا مكة، فسأله رسول الله "يا حاطب، ما هذا ؟!". فاعتذر بما اعتذر به وقال: يا رسول الله، لا تعجلْ علي، ما فعلت ما فعلت كفرا ولا ارتدادا ولا رضا بالكفر بعد الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد صدقكم". فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال: "إنه قد شهد بدرا، وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم". [رواه البخاري ومسلم].
فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر أن مثل هذا العمل نفاق وأن صاحبه يستحق القتل، ولكنه اعتذر عن حاطب بما يدل على أنها زلة وأنها مغفورة بجانب جهاده يوم بدر.
وفي هذا الحديث دلالة على أن فعل الجاسوس إذا كان مجرد زلة وهفوة وقعت منه وهو من أهل الصلاح فهذا حقه العتاب والنصح ولا يجوز قتله، وذلك كما وقع لحاطب رضي الله عنه.
ـ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خمسٌ فواسقُ يُقتلن في الحل والحرم: الفأرة والعقرب والحِدأة والكلب العقور والغراب الأبقع". [رواه مالك والبخاري ومسلم وأبو عوانة واللفظ له].
فمن كانت إذايته للمسلمين مثل الإيذاء الواقع من واحدة من تلك الخمس فإنه يُقتل، حتى ولو كان في حرم الله الآمن، ومن زادت إذايته على هؤلاء فإنه يُقتل من باب أولى.
ـ قال عبد الرحمن بن القاسم وهو من تلاميذ الإمام مالك عن الجاسوس الذي يكاتب الأعداء ويخبرهم خبر المسلمين: "أرى أن تُضرب عنقه". وعلق ابن رشدٍ الجدُّ بقوله: "قول ابن القاسم هذا صحيح، لأنه أضرُّ من المحارب". ونقله القرافي في كتاب الذخيرة وأقره. ولا بد من الوقوف مليا عند علة الحكم في قول ابن رشد رحمه الله "لأنه أضرُّ من المحارب".
ـ وقال الشيخ خليل بن إسحاق المالكي في المختصر بأن الجاسوس المسلم كالزنديق، وأقره الشراح، وقال الخرشي في شرحه: "يعني أنه يجوز قتل الجاسوس، وهو الذي يطلع على عورات المسلمين وينقل أخبارهم للعدو، والمشهور أن المسلم إذا تبين أنه عين للعدو فإنه يكون حكمه حينئذ حكم الزنديق، أي فيُقتل إن ظُهر عليه ولا تُقبل توبته، وهو قول ابن القاسم وسحنون".
وقوله "لا تُقبل توبته" أي في أحكام الدنيا، وأما بينه وبين ربه فالتوبة الصادقة مقبولة، وذلك في حكم الآخرة.
وكتبه صلاح الدين الإدلبي يوم الجمعة 16/ 11/ 1432 الموافق 14/ 10/ 2011