بين الأصالة والتبعية
د.عدنان علي رضا النحوي
[email protected]
مازال العمل الإسلامي المعاصر يعمل في الساحة منذ عشرات السنين أو منذ مئات السنين . لا نتحدث هنا عن الدعوة الإسلامية في أول انطلاقتها المباركة بقيادة النبُوة الخاتمة محمد r ، ولكن نحصر حديثنا عن الدعوة الإسلامية المعاصرة .
لا شك أنها جمعت جماهير كبيرة ينتمون إلى هذه الحركة أو إلى ذلك الحزب ، ويصبح ولاء الجماهير الأول هو لهذه الحركة أو ذاك الحزب ، مع قيام تنابذ وتنافر بين حزب وحزب وحركة وحركة ، ومن خلال ذلك ماتت قواعد إيمانية كثيرة ، وكان أهمها تَقَطُّعَ رابطة أُخوَّة الإيمان بين المسلمين جميعاً ، الرابطة التي أمر الله سبحانه وتعالى ، وكما فصّلتها السنة المباركة :
( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ )
[ الحجرات :10]
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن الرسول r قال : " المؤمنون كرجل واحد ، إذا اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى "
[ أحمد ومسلم ] ([1])
وعن علي رضي الله عنه عن الرسول r قال : " المؤمنون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم . ألا لا يُقتَل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده ، من أحدث حدثاً فعلى نفسه ، ومن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين
" [ أبو داود والنسائي والحاكم]([2])
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن الرسول r قال : " المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يكذبه ولا يخذله . كل المسلم على المسلم حرام : عرضه وماله ، ودمه ، التقوى ها هنا وأشار إلى القلب بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم
" [ الترمذي ] ([3])
وأحاديث أخرى تلحُّ وتثبّت هذه القضيّة . ولكن واقع المسلمين اليوم يكشف خلاف ذلك ، حيث غلبت العصبيات الجاهلية على أخوة الإسلام ، وغلبت القومية ، والإقليمية ، والوطنية ، وغير ذلك ، من مثل هذه العصبيات الجاهليّة التي مزّقت المسلمين أقطاراً وحدوداً ومصالح وأهواء ، فضعفوا كلهم ولم ينالوا رضا الله وقد خالفوا أمره سبحانه وتعالى .
إن تمزّق المسلمين كما ذكرنا أضعفهم وأذلهم أمام أعدائهم ، فخسروا جولات وجولات في الميدان ، وخسروا فلسطين ، وغرقت معظم أقطار العالم الإسلامي في فتنٍ متوالية ، لا تهدأ فتنةٌ حتى تقوم أخرى ، وحتى تتحطّم قواعد هذا البلد أو ذاك . ومع ذلك فلم يعِ المسلمون اليوم حقيقة مشكلتهم وأسباب هوانهم . هذي هي الصومال وما فيها من فتن ، وهذه هي أفغانستان تهدّمت ، وليبيا وسوريا وغيرها ، والفتن ممتدة والفواجع
تتزايد . ومن خلال ذلك دلفت القوى الغربيّة العلمانية النصرانيَّة اليهودية إلى جميع أنحاء العالم الإسلامي بصورة كاسحة علنيّة ، أو بصورة سرّية . غزوا العالم الإسلامي فكرياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً واحتلوا فيه مواقع رئيسة هنا أو هناك . غزوا العالم الإسلامي بصناعاتهم المتقدّمة وعلومهم المتطورة ، وأسلحتهم الجبارة ، والمسلمون لا يملكون من ذلك شيئاً ، ولا هم نشطوا ليصنعوا ويتطوروا ، ولا هم أخذوا ذلك العلم المتطور عن الغرب إلا القليل بل أخذوا الزينة
والزخرف في الشكل لا في الجوهر ، وبقوا أمام الأحداث المتصاعدة مفلسين !
وأسوأ من ذلك ، فإن كثيراً من المسلمين لَمّا يبتلون بالفواجع يلجؤون إلى أعدائهم ليعينوهم في القضاء على فريق آخر منهم . يستنصرون بأعدائهم ويحسبون أنهم قد يفلحون في ذلك ، وإذا جميعهم خاسرون في نهاية المطاف ، وإذا هم جميعاً متخلّفون عملياً وصناعة وعُُدّة وسلاحاً . وإذا جميعهم مهزومون خاسرون خاضعون لقوى أعدائهم ، وهم يرفعون شعارات الوطنية والقومية ، والإسلام حيناً ، دون أن يكون لهدير الشعارات أثر
في أي معركة أو في أيّ ساحة . بحّت الحناجر بالشعارات دون أيِّ نصر في أيّ ميدان !
السؤال الذي يجب أن يطرح هنا : هو أن العالم الإسلاميّ يموج بالحركات الإسلامية بشعاراتها المتباينة وهديرها المتواصل ، عشرات من الحركات الإسلامية في هذا البلد وذاك ، وجماهيرها التابعة والمؤيدة بالآلاف أو الملايين ، وقد مضى عليهم وهم يعملون في الميدان زمن طويل ، وربما استغرق ذلك مئات من السنين مع بعضهم ، أو عشرات السنين مع بعضهم ، فما هي النتيجة التي وصلوا إليها ، وما هي الثمرة التي جنوها ؟!
فإذا قيل إن عدداً من الناس دخلوا الإسلام ، فماذا قدّم هذا العدد الجديد ؟! حين كانت الأعداد الموجودة سابقاً كافيةً من حيث العدد لتُحقِّقَ أي نصر لو توافرت لديهم أسباب النصر ؟!
واقع العالم الإسلامي اليوم مؤلم محزن مذلَ ! والقضية الأولى التي يجب أن نثيرها بهذا الصدد هو أن الدعاة والعلماء والحركات الإسلامية لم يقوموا بدراسة واقعهم والبحث عن أخطائهم من خلال ردّ ذلك إلى منهاج الله ردّاً أميناً صادقاً . هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فإن الأخطاء والعيوب والانحرافات في واقع العمل الإسلامي لم تعالج من خلال منهاج الله ، وكيف تعالج وهي لم تدرس ولم تحدَّد ؟! فيبقى العمل
الإِسلامي ماضياً بأخطائه التي لم تدرسْ ولم تحددْ ، ولم تعالجْ ولم يشف منها العمل الإسلامي .
إن في واقع العمل الإسلامي أخطاءً حقيقيةً ليست وهمية ، وأهم دليل على ذلك أن العمل الإسلامي لم يستوف أسباب النصر التي بها يُنزل الله نصره على عباده المؤمنين . والله حقٌّ يقضي بالحق ، لا يظلم أحداً ولا يظلم شيئاً . فما أصابنا من مصيبة فهي بما كسبت أيدينا :
( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ) [ الشورى :30]
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ )
[ الحديد :22]
إذاً ما أصابنا من هوان فهو بما كسبت أيدينا نحن ، وليس ظلماً من الله سبحانه وتعالى ، فكل ما يجري في هذا الكون هو بأمر الله سبحانه وتعالى وعلمه وقدره ، على قضاء نافذ وقدر غالب وحكمة بالغة ، وعلى قضاء حقٍّ عادل لا يظلم شيئاً ولا يظلم أحداً .
( وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ ۗ
إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )
[ غافر :20]
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَٰكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ )
[ يونس :44]
ولشدّة الفتن في مختلف أقطار العالم الإسلامي ، تجد الناس ينقسمون في البلد الواحد شيعاً وأَحزاباً يتنافسون الدنيا ويتصارعون عليها . وقد تجد في البلد الواحد الناس قسمين على الأقل يحارب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً . ومن خلال ذلك يُهدِّم كلّ فريق بلده بيده . ثم يلجأ أحد الفريقين أو كلٌّ من الفريقين إلى أعداء الله يستنصر بهم على الفريق الأخر . فيأتي هؤلاء تحت ادعاء نُصْرة الذين استنصروهم ،
فيساهمون في تهديم البلد بالصواريخ والطائرات ، فيصبح البلد الواحد يشارك في تدميره ثلاث فئات على الأقل ، الفئتان المتصارعتان والفئة الغازية تحت ادعاء النصرة . فيُهَدّم البلد بهمة أبنائه وأعدائه مشتركين في ذلك ، وقد لا يصحون إلا بعد الخراب والمأساة والفواجع ، هذا إذا صحوا !
الأعداء لهم مصالح يرعونها رعاية واعية من خلال تخطيط مشترك وتعاون وتنسيق . كأنما لهم كلهم هدف واحد يجتمعون عليه ويبذلون له : ألا وهو تدمير العالم الإِسلامي وتفتيته ، وقد ظهرت حركات علنية تدعو إلى تفتيت العالم الإسلامي بجرأة وإصرار ، كما تجد ذلك في ما تنشره مؤسسة راند الأمريكية وكمثال على ذلك التقرير بعنوان : " إسلام حضاري ديمقراطي " تأليف شيرك بينارد ، بدعم مؤسسة " سميث ريتشاردسون " .
ومثل ذلك ما جاء بجرأة ووضوح وصراحة في كتاب : " نصر بلا حرب " لنيكسون رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ، وفي كتابه " الفرصة الأخيرة " . وكذلك ما جاء به زعيم حزب الحرية الهولندي " خيرت فيْلدز " وما دعا إليه لجمع شمل جميع القوى المعادية للإسلام توحيدها في تحالف أسماه : " التحالف الدولي من أجل الحرية " ، وما دعا إليه في نشاطه المتعدد من أجل محاربة الإسلام ([4])
وكذلك مؤسسات كثيرة قامت لتدعو إلى محاربة الإسلام وتفتيت العالم الإسلامي ، وإذلال المسلمين .
ويدخل في ذلك المشروع الإجرامي الذي يدعو إليه " برنارد لويس " لتفتيت العالم الإسلامي ، وتحطيم المسلمين وكياناتهم . ولا يبعد عن ذلك ما تقوم به الحركة الصهيونية في الأرض ، وما تقوم به الحركات التنصيرية التي تغذّيها الدول الغربية العلمانية .
ومن العجيب أن ترى أشد أنواع التناقض في الدول الغربيّة والعلمانية ، فهي تنصُّ في قوانينها على أنها دول علمانية ، وفي الوقت ذاته تغذّّي الحركات التنصيرية بالمال والتوجيه ومختلف وسائل الدعم ، وفي الوقت نفسه تحارب الإسلام وتدعو المسلمين ليكونوا علمانيين أو نصارى أو أيّ شيء إلا أن يكونوا مسلمين .
قوى كثيرة تعمل في الأرض لتحارب الإسلام ، والمسلمون في الوقت نفسه يتراجع إيمانهم ونشاطهم الإيماني ، ويتمزّق نشاطهم بين أحزاب متناحرة ، وتتسّرب إليهم وإلى بعض حركاتهم أفكار الغرب العلمانية أو النصرانية أو الصهيونية .
أصبح من الواضح الآن أن سياسة الغرب العلماني النصراني الصهيوني تهدف بصورة جازمة حاسمة إلى اقتلاع الإسلام من المجتمعات الإسلامية وإحلال ما يسمونه " الديمقراطية الغربية " . ولقد بذلوا من أجل ذلك جهوداً كبيرة وأموالاً كثيرة وبلغوا اليوم إلى بعض النتائج الإيجابيّة بالنسبة لهم ، وأصبح بعض الدعاة الإسلاميين ينادون بشعارات هذه الديمقراطية ، لقد اخترقوا العالم الإسلامي وأصبحوا يتحركون فيه بحرّية
وينادون بديمقراطيتهم بجرأة وعدوان . والمسلمون غائبون في غيبوبة طويلة . لقد أصبح بعض الدعاة المشهورين ، الذين اشتهروا بالإسلام ورسالته ، لقد أصبحوا اليوم بعد أن اشتهروا ، ينادون بمبادئ الغرب العلماني النصراني الصهيوني ، ويدعون إليها . لقد تمزَّقت أخوة الإسلام ، وتقطَّعت روابط الإيمان والتوحيد ، وقامت أحزاب على النسق الغربي شكلاً وموضوعاً تحت ادعاء حقهم بممارسة السياسة . وأخذوا مصطلحات الغرب الضالة المضلة مثل : دولة مدنية لا دولة دينية ، وغيرها .
لقد أصبح هناك تفلّت من أسس الإسلام ، وازدياد عمق التمزّق الإسلامي ، وازدياد تفرّق المسلمين : أقطاراً وحدوداً ، ومصالح وأهواء ، وأحزاباً متناحرة تتصارع على الدنيا وزخرفها ، وتتفرّق سياسة واقتصاداً وفكراً ، وثقافةً .
لقد أصبحت الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة محصورة في أماكن العبادة في المساجد ، وعُزِلت عن واقع الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية .
لقد أصبحت الرغبة بممارسة العمل السياسي مسوّغاً لإقامة أحزاب سياسية معزولة ساحاتها عن عرض القضايا العقدية الإيمانية ، وأخذت بعض الجماعات الإسلامية تتسابق لإقامة أحزاب سياسية معزولة عن رسالة الإسلام والأمانة التي وضعها الله في أعناق الأمة المسلمة .
وبهذا التصور الغربي تنفصل السياسة عن جوهر الإسلام ، عن العقيدة والإيمان ، عن الكتاب والسنّة .
إن اتجاه بعض الحركات الإسلامية لتكوين أَحزاب سياسية مفصُولة عملياً عن الجماعة الإسلامية ، يحقِّق هدف الغرب بأن تقوم الديمقراطية الغربية مرتبطة بالقيم الغربية ، معزولة عن حقيقة الإسلام وجوهر الآيات والأحاديث .
ليست السياسة في الإسلام مجرد ممارسة انتخابات وبرلمانات على النسق الغربي ، ولا هي تكوين أحزاب تتصارع فتمزِّق الأمة ، ولا هي فنّ التنازل عن الإسلام والمساومة على مبادئه ، ولا التكتيك من أجل ذلك . إن السياسة في الإسلام نشاط إيماني رباني ينبع من حقيقة الإيمان والتوحيد ، يبتدئ بالدعوة إلى الله ورسوله وتبليغ رسالة الله إلى الناس كافة كما أُنزلت على محمد
r ، وتعهدهم عليها حتى تكون كلمة الله هي العليا ، وتبنى العلاقات على أسس من ذلك ، كما كان يفعل محمد r والخلفاء الراشدون ، وهم يبنون أمة الإسلام صفاً واحداً كالبنيان المرصوص .
في الإسلام لا يوجد انفصال بين الدين والسياسة ، ولا بين الدين والاقتصاد ، ولا بين الدين وأي نشاط اجتماعي . الدين لغةً وفقهاً هو الذي يشمل كل نشاطات الحياة على أسس ربانية . فالدين لغة : هو الحكم والجزاء ، والإسلام ، الطاعة والحساب ، والقهر والغلبة ، والسلطان ، والاستعلاء والملك ، والحكم ، والملة ... الخ . وجميع معانيها تشمل ميادين الحياة كلها في تصور واحد .
والدين فقهاً هو المنهج الذي يجمع الحياة كلها وميادينها كلها لتكون ساحات عبادة وطاعة لله ، لتكون السياسة عبادة لله ، ويكون الاقتصاد عبادة لله ، فلا تنفصل ميادين الحياة في التصور الإيماني الإسلامي إلى ميادين مختلفة متباعدة . إنها في الدين ، وفي الدين الإسلامي الذي هو الدين الحق عند الله ، ميادين مترابطة متماسكة من خلال منهج رباني واحد ، هو الكتاب والسنة كما جاءا باللغة العربية . إنه منهاج
رباني يجمع ميادين الحياة الدنيا كلها ويربطها بالدار الآخرة ليكون التصور الحق ، وتكون الممارسات الإيمانية متكاملة مترابطة ، تصلح لكل زمان ومكان على طاعة لله وعبادة له .
إن فصل السياسة عن الدين ، أو الدين عن السياسة ، تصور غربيّ نصراني يخالف تصور الإسلام ويصطدم معه . لقد بدأ الحكم الديني والدولة الدينية عندما قامت الكنيسة الكاثوليكية بالاتفاق مع الإمبراطور قسطنطين في الإمبراطورية الرومانية . فحكمت الكنيسة بتصوراتها المختلفة المتضاربة ، واصطدمت مع العلماء ، فقتلت بعضهم وحرقت بعضهم ، واصطدمت مع الدول القائمة والحكومات اصطداماً أَدّى إلى المناداة بفصل الدين عن
الدولة ، وظهر التصور العلماني ليحمل مصطلح الدولة المدنيّة مقابل مصطلح حكم الكنيسة الدولة الدينية ([5]) .
هذا كله غير موجود في الإسلام ، في دين الله الحق ، الدين الواحد ، دين جميع الأنبياء والرسل . إن هذا الدين الحق يجمع ميادين الحياة كلها لتكون ميادين عبادة وطاعة لله ، على تشريع ربّاني مفصّل ، وتوازن دقيق ! وهو يمثل الأمانة التي وضعها الله في عنق الأمة المسلمة الممتدة مع التاريخ منذ نوح عليه السلام .
لا انفصال في الإسلام بين السياسة والدين ، إلا أن يكون الدين غير دين الله ، فتنفصل الميادين من خلال تصورات مادية دنيوية بشرية يعيث بها المجرمون إفساداً وظلماً ونهباً ، ويغلّفون ذلك بشعارات كاذبة يحبِّبُها الإعلام والدعاية إلى قلوب فريق من الناس .
ولكن المؤمنين يظلون يحملون رسالتهم الربانية يدعون الناس كلهم إليها في دين حق واحد ، يخوضون ميادين الحياة الدنيا لتكون ميادين عبادة وطاعة ، وإصلاح وعدل ! وليكون المؤمنون أمة مسلمة واحدة صفّاً كالبنيان المرصوص .
وحين يخرج المسلمون عن نهج دين الله الواحد ، ويفصِلون الميادين بعضها عن بعض ، وعن التصور الإيماني الرباني الجامع ، حين يحدث هذا يبدأ التفلُّت من قواعد دين الله قاعدة بعد قاعدة ، حتى يرى المسلمون أنفسهم في ضياع لم يكسبوا فيه الدنيا ولم ينالوا رضاء الله ، حين يبدأ هذا التفلّت سنجد من يدعو إلى الاعتراف بالآخر ولو كان الآخر كافراً مفسِداً ظالماً ، دون بيان ما معنى الاعتراف ولا معنى الآخر ، وسنجد
من يدعو إلى المساواة بين أفراد المجتمع مساواةً لا يقرّها الإسلام ولا يرضى بها ، مساواة على أساس المواطنة ، وإن كان فريق يقتل المواطنة وحقوقها ، ويفسد في الأرض فساداً واسعاً ، للإسلام ميزان محدّد واضح يزن به الناس جميعاً وينزلهم منازلهم العادلة . وتتوالى الشعارات والرايات الغربية واحدة بعد الأخرى ، لتفسد في الأمة وفي الناس .
إن هذه المساواة التي يطالب بها بعضهم ، وهو يعلم أنها غير صادقة ، إنما تعني أن يكفر الناس جميعاً بربهم ليتساووا في الكفر والضلال ، والعلمانيّة ، والحداثة ، والعولمة ، والديمقراطية ، متجردين من الدين ، معزولين عن التوحيد .
يضاف إلى ذلك كله شعار " مساواة المرأة والرجل " ، الشعار الذي اخترق بعض المجتمعات الإسلامية ، وأخذت بعض النساء يتهافتن عليه ، وبعض الرجال ، دون أن يشعروا أنهم بهذا الشعار يفارقون الإسلام وأسسه وقواعده .
ويضاف إلى ذلك سيطرة النظام الرأسمالي في داخل المجتمعات الإسلامية ، دون الالتفات إلى مخالفته الإسلام ، وإلى ما يحمل من ظلم وفساد في الأرض كبير .
وبذلك اختلّت معاني الحرّية والعدالة والمساواة ، وأصبحت هذه شعارات يُنادى بها دون أن تجد لها رصيداً من التطبيق الصادق في واقع الإنسان . المساواة مساواة المرأة بالرجل ليفسد الرجل وتفسد المرأة ويظلم الاثنان ، وأصبحت العدالة تطبيق النظام الرأسمالي بكل ما يحمل من ظلم وفساد ، وأصبحت الحرّية هي في خدَرِ شعار الدِّيمقراطية التي لا تكون إلا خدراً يقدم للإنسان بعض الحقوق المادية الواهية ويحجب عنه أسس
حقوقه الرئيسة التي شرعها الله .
لكل هذه القضايا وضع الإسلام نظاماً مُفصَّلاً ودقيقاً ، ووضع ميزاناً عادلاً أميناً يُنزل الناس منازلهم ، وفصّل في حقوق الإنسان على أعدل نظام وميزان ، وذلك كله من خلال منهاج رباني كامل يصلح لكل زمان ومكان ، ولكل شعْبٍ وأمة . ولكن هذا المنهاج الرباني الحقُّ العادل لا يُرضي هوى المفسدين في الأرض ولا هوى الظالمين المعتدين .
إن اختراق الظالمين المفسدين المعتدين للعالم الإسلامي ، وبذلهم الجهود الكبيرة لمحاربة الإسلام ، ونشر مبادئهم الضالة ، لم يكن نجاحهم في ذلك بسبب قوّتهم فحسب ، ولكن بسبب ضعف المسلمين وغيابهم وغيبوبتهم مما كان له أثر كبير في عدوان الظالمين ونجاحهم .
في الوقت الذي يزداد فيه هؤلاء الظالمون عدواناً وجرأة في نشر مبادئهم الضالة ، فإن بعض المسلمين اليوم يزدادون ضعفاً في حمل رسالتهم الربانية ، ويزدادون مساوماتٍ وتنازلاتٍ عن بعض حقائق الإسلام ، وتصدر الفتاوى والآراء والاجتهادات المتناقضة المضطربة ، فيحار الناس بين فتوى وفتوى ، ورأي ورأي . آراء وفتاوى تصدر اليوم لا تجد لها أي أساس من الكتاب والسنة . ولا من سنة الخلفاء الراشدين المهديين كما جاء
في حديث رسول الله r :
عن العرباض بن سارية قال : وعظنا رسول الله r يوماً بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب . فقال رجل : إن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟! قال : " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدٌ حبشي . فإنه من يعشْ
منكم يَرَ اختلافاً كثيراً . وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ " [ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه ]([6])
فهذا هو الذي يُلزم المسلمين إلزاماً حقّاً على مضي الزمن كله : سنة رسول الله r القائمة على كتاب الله ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده . وأمرنا رسول الله
r أن نعضَّ عليها بالنواجذ حتى لا ننحرف عنها إلى أقوال المتفلّتين والضعفاء والمتنازلين : " عضوا عليها بالنواجذ ! " .
فمن أين أتت فتوى بعضهم اليوم أنه يمكن أن يكون على رأس الدولة المسلمة رجل نصراني أو يهودي ، أو أن يكون امرأة تحكم المسلمين جميعاً لتكون خليفة رسول الله r ، وفتاوى وآراء كثيرة مشابهة لهذا الانحراف والهبوط .
إنا ندرك أن ضغط الواقع على بعض الدعاة جعلهم يتنازلون شيئاً فشيئاً ، ويصدرون آراء وفتاوى لا تناسب واقعهم كدعاة يحملون رسالة ربانيّة مؤتمنين عليها . ولذلك كان التأكيد في كتاب الله على عدم المساومة أو التنازل عن قواعد الإسلام الثابتة في الكتاب وسنة محمد r
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين :
" ... فمن أدرك ذلك منكم فعليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديين عضُّوا عليها بالنواجذ "
وكذلك قوله سبحانه وتعالى :
( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) [ الحجر :94]
وقوله سبحانه وتعالى :
( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ۖ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) [ المائدة :67]
وقوله سبحانه وتعالى :
( اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ )
[ الأعراف :3]
ثم يجيء الإنذار والوعيد الشديد :
( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ۖ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا . وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا . إِذًا لَأَذَقْنَاكَ
ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ) [ الإسراء : 7375]
لا يصحّ في الإسلام ، في دين الله إلا اتباع ما أنزله الله سبحانه وتعالى ، وتبليغه للناس كما أُنزل ، والتزامه إيماناً وممارسة وتبليغاً ، فإنه أمر وتكليف من عند الله سبحانه وتعالى .
ولم يأذن الله إلا لمسلم فرد اضطر تحت وطأة الإرهاب والتعذيب أن يقول كلمة الكفر أو أن يخالف نصاً ثابتاً أو أن يخالف نهج الكتاب والسنة وقلبه مطمئن بالإيمان :
( مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ النحل :106]
ونؤكد ثانية أن الأساس الملزم حسب النصوص السابق ذكرها : كتاب الله وسنة رسوله r ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، وتاريخ الصحابة والمؤمنين جميعاً مليئة بالنماذج الرائعة من قوة الثبات على الحق وعدم التنازل أو المساومة على شيء من دين الله .
الفرض الواجب على المسلمين هو تبليغ رسالة الله إلى الناس جميعاً كما أُنزلت على محمد r تبليغاً منهجيّاً ، وتعهّدهم عليها تعهّداً منهجيّاً ، والمضيّ على ذلك حتى تكون كلمة الله هي العليا .
إن مهمة المسلمين ، وإن الأمانة الملقاة على عاتقهم ، والتي سيحاسَبون عليها يوم القيامة هي تبليغ الرسالة الربانية كما أُنزِلتْ على النبوّة الخاتمة إلى الناس جميعاً وتعهدهم عليها ، تبليغاً وتعهداً منهجيّين ، حتى يُنْقِذوا الناس من عذاب جهنم لمن شاء الله له الهداية ، فمن مات على غير الإسلام هلك وكان في النار ، فالمسؤولية خطيرة جداً والحساب عليها يوم القيامة خطير كذلك .
ولكن يبدو أن المسلمين والدعاة بصورة عامة قصّروا في هذا الأمر ، وصرفوا جهودهم وأموالهم لما يسمّى " بالانتخابات " وأمثالها وهي لا تقوم على أسس سليمة ربانية ، وما جَنوا من ذلك إلا الخسران هنا وهناك ! إن الانتخابات التي تُمارَسُ في واقع المسلمين اليوم ، تمثّل صورة من صور التبعيّة العمياء للغرب ، وتمثل ميداناً تضيع فيه الجهود هباءً منثوراً . فليرجع المسلمون إلى أنفسهم ويدرسوا ماذا حصدوه من هذه
الانتخابات ، وليقيموا أمر الدين في حياتهم .
والعمل الحزبي في صورته المشاهدة في واقع المسلمين نشاط لا يقوم على أسس ربانية ، بل إنه يفرّق المسلمين ، ويذهب بأخوة الإيمان ، ويثير التنافس على الدنيا والصراع عليها تحت شعار الإسلام . ولقد أوْردْنا في أكثر من كتاب من كتبنا النصوص الثابتة المحكمة من الكتاب والسنة ، النصوص التي تأمر بخلاف ذلك ([7])
، وتحرّم التفرُّق والتمزّق تحت شعارات حزبيّة أو وشيع ، ونكتفي هنا بذكر شاهد واحد :
( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ .
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ . مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [ الروم :3032]
ولا ننسى النظام الاقتصادي السائد في العالم الإسلامي ، النظام الاقتصادي الرأسمالي القائم على الربا ، النظام الذي استسلم له المسلمون جميعاً ، دون أيّ محاولة لوضع نظام اقتصادي قائم على الكتاب والسنة ، مجتنباً كل أنواع الربا . نظام اقتصادي غربيّ نُطبِّقُه في تبعيّة واضحة للغرب . ولا يقوم النظام الاقتصادي القائم على الكتاب والسنّة إلا حين يكون المجتمع كله مستمسكاً بالإسلام إيماناً وعلماً وممارسة
في جميع ميادين الحياة ليدعم بعضها بعضاً .
وأخذت تمتد في العالم الإسلامي مناهج العالم الغربيّ العلماني النصراني الصهيوني في ميادين كثيرة من الحياة ، حتى الشعارات أخذت تتغيّر إلى نماذج غربية . ومناهج التعليم اتجه بعضها كذلك إلى الاتجاه الغربي في أكثر من موقع في العالم الإسلامي ، حتى امتدت التبعيّة والتقليد إلى اللباس والطعام والشراب .
ومن خلال ذلك كله يتسلل الفكر الغربي العلماني النصراني الصهيوني في داخل العالم الإسلامي . فقد وجدت النصرانية ساحة واسعة تدعو فيها ، ووجدت الصهيونية عقولاً جديدة تؤمن بها ، ووجدت العلمانية ساحة أوسع في الإعلام وميادين مختلفة ، وأصبح لها دعاة يجاهرون بها ، وكذلك وجدت سائر الأفكار الواردة الغريبة عن الإسلام ، الوافدة خلال سنين طويلة ، السبيل لتعمل من خلال نهج مدروس وخطة لهم واعية ، واستطاعت أن
تكسب من المسلمين أعداداً يعملون لحسابها .
لقد هانت بعض النفوس حتى سهل شراؤها واستغلالها لتساهم في ضرب العالم الإسلامي وفق مخطط المجرمين . ونسوق أمثلة واقعية على ذلك من تاريخ المسلمين القريب :
1. صرّح عبد السلام ضعيف سفير طالبان في باكستان بقوله : " إن سبب هزيمة طالبان في أفغانستان أن الغرب استطاع أن يشتري الصفَّ الأول كله من المقاتلين .
2. في كتاب " بوش محارباً " يروي كيف أن بعض رجال المخابرات الأمريكية ذهبوا إلى رئيس قبيلة تابعة إلى طالبان ، وعرضوا عليه خمسين ألف دولار مقابل تركه طالبان والعمل معهم ، فأجاب " دعوني أفكر " ! فغابوا عنه مدة كافية ثم رجعوا إليه ، وقالوا نعرض عليك أربعين ألف دولار
مقابل ترك طالبان والعمل معنا فقال : هاتوا ووافق وقبض المبلغ .
3. في نفس الكتاب دهب بعض رجال المخابرات الأمريكية إلى جماعة أحمد شاه مسعود الذي سبق أن قتل ، وعرضوا عليهم ملايين الدولارات في حقائب فتحوها أمامهم . فقالوا : نحن بحاجة إلى سلاح ثقيل و .. و.. ! فقالوا : كل شيء يوفّر لكم شريطة أمر واحد ، وهو : أن تنفّذوا ما نأمركم به
حرفيّاً . فوافقوا وتمت الصفقة .
4. عندما هاجم صدام حسين شمال العراق قبل سقوطه ، كتبت بعض الصحف العربيّة أن أمريكا استطاعت أن تنقذ عشرين ألف عائلة من عملائها خلاف الذين اعتقلهم صدام حسين .
5. أعلنت أجهزة المخابرات الأمريكية حاجتها إلى عدد كبير من الموظفين لديها . فمن يرغب فليتقدم بطلب . أعلنت هذا الخبر بعض الصحف العربية .
6. وأعلنت أمريكا مؤخّراً أنها دفعت المليارات لحركات ومؤسسات في بعض أقطار العالم الإسلامي .
هذا كله صورة بسيطة جداً بالنسبة للجهود المكثفة من المجرمين في الأرض من أجل شراء عملاء لهم في العالم الإسلامي .
ولم تكن أمريكا وحدها تعمل في هذا الاتجاه ، ولكن سائر دول العالم الغربي العلماني النصراني اليهودي كانت تعمل في نفس الاتجاه ، كل بأسلوبه ووسائله الخاصة ومناطقه التي يعمل فيها .
بصورة عامة استطاع المجرمون في الأرض أن يكونوا عملاء لهم في قلب العالم الإسلامي ، بعد أن ضعفت النفوس ، وفتن الكثيرون عن دينهم ، وانتشرت أفكار الغرب من علمانية وعولمة وحداثة وديمقراطية واشتراكية وغير ذلك .
إن نشاط العالم الغربيّ العلمانيّ النصراني الصهيوني يعمل في تحطيم العالم الإسلامي ، في أول مراحل العدوان كان العالم الإسلامي يملك من الحصانة ما يصدّ جهود المعتدين المتآمرين . ولكن أخذت الحصانة تضعف شيئاً فشيئاً ، حتى تمكَّن المجرمون من غزو العالم الإسلامي وإسقاط الخلافة الإسلامية ، ثم تقسيمه إلى دويلات تحمل كلها العصبيات الجاهلية ، وربما انضمّ بعضها في جهوده إلى جهود المجرمين المعتدين ، وربما
رحّب بعض المسلمين بهذه التجزئة وغذوها ودعوا إليها بعد أن انتشرت بينهم وفيهم دعوات العصبيات الجاهلية ، فانفرط عقد الأمة المسلمة الواحدة ، وذاق الجميع ذلّ الوهن والضعف ، ومهانة الاستسلام ، وكأنما تحقق فينا حديث رسول الله r :
فعن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله r : " يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ؟! قال : بل أنتم يومئذ كثير . ولكنكم غثاء كغثاء السيل . ولينزعنَّ الله من صدور أعدائكم المهابة منكم ، وليقذفنّ الله
في قلوبكم الوهن . فقال قائل وما الوهن ؟! قال : حبُّ الدنيا وكراهية الموت " [ أخرجه أبو داود ] ([8])
ولا أجد أبلغ ولا أصدق في وصف واقع المسلمين اليوم من هذا الحديث الشريف .
إن واقع المسلمين اليوم واضح جليّ ، والغارة عليه وعلى الإسلام بيّنة قويّة ، ولكنّ سبيل النجاة والصلاح ، مع أنه بيّنٌ جليٌّ في منهاج الله ، إلا أنه غائب من الواقع وعن الجهود المبذولة على كثرتها وتعدُّدها ، وتعدّد الرايات والشعارات . وهذا الذي يجب أن يُرَكَّز عليه اليوم ويحذر منه . وأوله أن تفرُّق الدعاة بين أحزاب متصادمة وفئات متصارعة سبب رئيس فيما نحن فيه ، حيث تقطعت روابط أخوة الإيمان في
عصبيات جاهلية صاخبة . إن هذا التمزق لهو ظاهرة من ظواهر ضعف الإيمان والتوحيد الحق واليقين الثابت .
ونقول إن سبيل النجاة والإِصلاح هي العودة الصادقة إلى الله سبحانه وتعالى ، وإلى محاسبة النفس حتى يصدق إِيمانها ، وحتى تتحقّق الخصائص التالية في القلوب والجهود :
1. أن يكون الولاء الأول هو لله وحده ، وعليه تقوم أي موالاة .
2. أن يكون العهد الأول مع الله وحده ، وعليه ومنه تقوم أي عهود تبرم في الدنيا .
3. أن يكون الحبُّ الأكبر في القلوب هو لله ولرسوله .
4. أن يعكف المسلم على دراسة منهاج الله قرآناً وسنة ولغة عربية دراسة تدبر وإيمان والتزام ، دراسة منهجيّة صحبة عمر وحياة لا تتوقف أبداً حتى يلقى المسلم ربّه . فطلب العلم فريضة على كل مسلم كما جاء في الحديث الصحيح لرسول الله
r .
5. إن يتبرأ المسلم من أي عصبية جاهلية كما أمر رسول الله r وكما جاءت الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة الصحيحة بذلك .
6. أن ينهض المسلم إلى تبليغ رسالة الله إلى الناس كافة كما أُنزِلتْ على رسول الله r تبليغاً منهجيّاً ، وأن يتعهَّدهم على ذلك
تعهُّداً منهجياً ، وأن يجاهد المسلمون في ذلك صفّاً واحداً حتى تكون كلمة الله هي العليا .
7. أن تجتمع هذه الشروط في المسلمين ليكونوا أمة مسلمة واحدة قانتة لله ، صادقة في الغيب والمشهد ، تجهر بالدعوة إلى الله ورسوله دعوة حق وصدق لا مساومة فيها ولا تنازلات ولا تحريف ، على نهج عمليٍّ حقٍّ واحد يلتزمه الجميع ، أن تجتمع هذه الشروط كلها في نهج واحد شامل ومنهج
تطبيقي شامل ، على أن ينبع النهج والمنهج من مصادر أربعة يستوفي شروطها : أسس الإيمان والتوحيد ، المنهاج الرباني قرآناً وسنّة ولغة عربيّة ، مدرسة النبوّة الخاتمة محمد r ، وعي الواقع من خلال وعي المنهاج الرباني وردّ الواقع إليه .
ولقد هدانا الله برحمته وفضله إلى أن نقدّم للمسلمين أفراداً وجماعات نهجاً تتوافر فيه الخصائص الأربعة المذكورة ، تحت مسمى :
" نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن "
وأهم عناصر هذا النهج : النظرية العامة للدعوة الإسلامية ، دراسة الخلل في واقع المسلمين اليوم ، نظرية المنهاج الفردي ، نظرية منهج لقاء المؤمنين ، المسؤولية الفردية ، والمسؤولية العامة ، بيان الإشراف على المناهج الفردية ، الخطة اليومية ، الخطة الأسبوعية ، الخطة السنوية ، منهج التدريب الفوري ، والتدريب الدوري ، والتدريب المرحلي ، خطة السفر ، ميزان المؤمن ، التقويم السنوي للداعية ، التقويم السنوي
لمنهج اللقاء ، الدراسة الناميّة ، نموذج الخطأ والصواب ، بيان تسجيل الكتب التي تدرس في الواقع المنهجي من كتب المدرسة ، بيان بالكتب التي تدرس في الواقع لكتب غير كتب المدرسة ، وسائر بنود هذا النهج والمنهج .
إننا نقدم هذا النهج على أساس أنه يعالج أمراض الواقع ، ويوفّر عملية البناء والإعداد في جميع مراحلها ، ويحدّد أهدافاً واضحة للعمل الإسلامي والدعوة الإسلاميّة ، ويرسم الصراط المستقيم الذي أمرنا الله باتباعه ، ويوفر مع الأهداف الوسائل والأساليب ، وإنه نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن .
هذا النهج ليس حزباً يدخل في صراع الأحزاب ، وليس عملاً سرّياً يخفي نفسه ، ولكنه دعوة علنية إلى كل مسلم وكل داعية وكل حركة إسلامية ، إلى جميع المسلمين ، ليُدرس هذا النهج دراسة جادة صادقة ثم يقرر المسلم عن علم وجهد أنه آمن بهذا النهج وأنه سيلتزمه ويدعو إليه ، أو أنه لم يؤمن به فحسابه عند الله .
حتى يلتقي المؤمنون صفّاً واحداً كما يريد الله سبحانه وتعالى لا بد أولاً أن تصفو القلوب وتخلص النيات ، حتى تتحقِّق خصائص الإيمان والتوحيد كما يعرضها منهاج الله ، وكما أوجزناها قبل قليل . وهذا أول واجب على الدعاة أن يدعوا إلى ذلك دعوة مستمرة ، وأن يضعوا المناهج التطبيقية التي تعين على ذلك ، ومع صفاء القلوب وإخلاص النيّة فلا بد من نهج تطبيقي عمليٍّ يلتزمه العاملون المؤمنون ويدعون إليه ، نهج
نابع من أسس الإيمان والتوحيد ، ومن منهاج الله ، ومن مدرسة النبوة الخاتمة ، ومن وعي الواقع من خلال منهاج الله ورده إليه عن إيمان وعلم .
لا بدّ أن يعي المسلم النهج وعياً صادقاً بعد ردّه إلى منهاج الله ، حتى إذا اطمأنّ إليه آمن به ، فإذا درس النهج وآمن به التزمه التزام إيمان وصدق ، فإذا تمّ ذلك انطلق يدعو إلى الله ورسوله ، ويدعو المؤمنين إلى وجوب اللقاء صفّاً واحداً وأمة واحدة على نهج رباني واحد ، يغذّي الإيمان والعلم ، حسبه أن النهج قائم على صحبة منهاج الله قرآناً وسنةً ولغة عربية صحبة عمر وحياة ، يرد الأمور كلها إليه ردّاً
أميناً صادقاً .
إن أمر لقاء المؤمنين ليس متروكاً للهوى ، ولكنه فرض فرضه الله ، وعدم قيام لقاء المؤمنين هو معصية لله ورسوله .
ولقد فصَّلنا جميعَ هذه القضايا في كثير من كتبنا المرتبطة بهذا النهج ارتباطاً وثيقاً ، لأَنها تمثل دراسة الواقع من خلال منهاج الله ، ولأنها تشرح النهج وتُفَصِّله ، ولأَنها مَبنيَّة على الأُسس الأربعة السابق ذكرها ، ولأنها تخوض ميادين الحياة من أدب وشعر وملاحم وفكر وأحداث بنور القرآن الكريم وهديه .
جميع التكاليف في هذا النهج إنما هي تكاليف ربانيّة نصّت عليها الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ، والذي قمنا به أن جمعْنا هذه التكاليف الربانية على صورة نهج يسهل على المسلم اتباعه صحبة عمر وحياة .
إنّ هذا النهج هو ثمرة ستين عاماً في ميدان الدعوة ، مع مصاحبة منهاج الله قرآناً وسنة ولغة عربية ، دراسة وحفظاً وتدبراً ، ودراسة ما شاء الله لنا من كتب السيرة والتفسير ، وكتب الفقه ، ودراسة مذاهب الفكر الغربي من مراجعها الأصلية للردّ عليها بأمانة ودقّة ، خلاف دراسة التربية وأصول التدريس وعلم النفس ، ودراسة اللغة الإنجليزية وتاريخها وأدبها ، ودراسة سريعة للغة الفرنسية ، يضاف إلى ذلك تخصصي في
دراسة هندسة الاتصالات السلكية واللاسلكية حتى درجة الدكتوراه . ولقد منّ الله عليّ في مسيرة حياتي بزيارة عدد غير قليل من الدول الأوروبية ، إنكلترا ، وفرنسا ، وألمانيا ، وبلجيكا ، وإيطاليا ، وسويسرا ، والسويد ، وغيرها ، وزيارة كندا وأَمريكا ، وتركيا والهند وباكستان وكشمير ، وغيرها من بلدان العالم زيارة دراسةٍ وبحثٍ وتقصٍ . تطول أو تقصر ، زيارة من خلال مؤتمرات دعوية أو أدبية أو سياسية .
إنّ واقع المسلمين اليوم ، من هزائم متوالية ، وسقوط بعض البلدان الإسلامية تحت نفوذ العالم الغربي ، وتفرّق المسلمين دعاةً وأقطاراً ، وغياب أخوة الإيمان التي أمر الله بها ورسوله ، إن هذا كله وكثيراً غيره ، يفرض على المسلمين أن يبحثوا عن طريق النجاة . وأول معالم هذا الطريق نهج تطبيقي نابع من الكتاب والسنّة ، وأسس الإيمان ومدرسة النبوة الخاتمة ، ووعي الواقع من خلال منهاج الله . إن وجود هذا النهج
وقيامه ، نهجاً لا تجوز مخالفته لأنه جامع للتكاليف الربانية في تصور نظريٍّ وعمليٍّ تطبيقي ، ولأنه مرتبط أشد الارتباط في كل جزئياته بالكتاب والسنة ، إن وجود هذا النهج بهذه الخصائص ضرورة ملحّة حتى يلتقي عليها المسلمون في ميدان التربية والبناء والإعداد ، وفي ميدان العلم الصادق بالكتاب والسنة ، ووعي الواقع برده إلى الكتاب والسنة ، وفي ميادين الممارسة الإيمانية : إيماناً وعلماً ، وتربية وإعداداً وبناء ، وممارسة إيمانية في شتى الميادين ، السياسية والاقتصادية وغيرهما ، منهجاً واحداً
موحداً يلبي حاجة الواقع وتطلعات الجموع المتفرّقة .
لا بدَّ للعمل الإسلامي كله من وقفة مراجعة وحساب ، وردّ المسيرة كلها إلى منهاج الله ، لتحديد الأخطاء والخلل والانحراف بجرأة ووضوح ، وصدق إيمان وعلم ، وصدق توبة إلى الله .
إن التعلَّل بأحوال الواقع وضغوطه لتسويغ الانحرافات والخلل لا يجيزه الإسلام أبداً ، فالإسلام لا يجيز الانحراف ولا المساومة أو التنازل في دين الله .
إن أهم ما يتطلبه الواقع اليوم هو صوت الدعوة الإسلامية الملتزمة بالمنهاج الرباني ، صوت جريء واضح قوي ، ليعرف الناس حقيقة ما أنزله الله على عبده ورسوله محمد r ، صافياً نقيّاً ، قويّاً جليّاً .
هذا هو الحق الذي يأمر به الله ، وخلافه تفلّت ومتاهة وضياع .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : 6667 .
(2) السابق : 6666 .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : 6706 .
(1) يراجع كتاب : إسلام رباني لا إسلام علماني للدكتور عدنان علي رضا النحوي .
(1) يراجع كتاب : " إن الدين عند الله الإسلام دين جميع الأنبياء والرسل " وكتاب : " المسلمون بين العلمانية وحقوق الإنسان الوضعية " للدكتور عدنان علي رضا النحوي .
(1) أبو داود : 34/6/4607 ، الترمذي :42/16/2676 ، ابن ماجه : المقدمة : 35 .
(1) يراجع كتاب : " واقع المسلمين أمراض وعلاج ط : 2 " وغيره للدكتور عدنان علي رضا النحوي .
(1) سنن أبي داود : 31/5/4297 . صحيح الجامع الصغير وزيادته (رقم : 80335) .