الشعوب ضمانة انتصار الثورة
الدولة المدنية سبيل الخروج من الأزمة
م. شاهر أحمد نصر
[email protected]
(نص المحاضرة التي ألقيت في مبنى اتحاد الكتاب العرب بطرطوس بتاريخ 10/10/2011)
تشهد البلدانُ العربية ثوراتٍ تاريخية هامة، ستترك آثاراً على مستقبل المنطقة، وربّما العالم أجمع. ويجمع أغلب الباحثين على عدم توقع حصول هذه الثورات مسبقاً؛ إذ كانت الأنظمة العربية المتغطرسة تتغنى بالاستقرار، وتماطل، وتتعالى عن إجراء أبسط الإصلاحات التي طالبت شعوبُها بها! فما الذي فجر هذا البركان الثوري في تونس، ومصر؟! وما الذي جعل رياحه تهب على ليبيا، واليمن، والشام؟! مع أخذ التبيان في الشكل الذي يكتسبه بين
دولة وأخرى!
لفهم طبيعة وآفاق هذه الثورات من الضروري دراسة التناقضات الحادة التي تعتمل في أعماق مجتمعاتنا، والتناقضات بين البنية التحتية، والأنظمة الحاكمة، تلك التناقضات التناحرية الحادة الشاملة والعميقة، والتي أوصلت المجتمعات العربية إلى أزمة(*) شاملة لم تتم معالجة مسبباتها، فأدت إلى نشوب هذه الثورات.
يمكن تقسيم التناقضات التي عانت المجتمعات العربية منها إلى داخلية وخارجية.
تعود أسس التناقضات الداخلية إلى الفروقات الحادة في توزيع الثروة، واحتكار السلطة، وتحويلها إلى خادمة لطغم المال الطفيلي المحدث، والمتغول، والمهيمن على صانعي القرار من السياسيين والعسكر، وتهميش غالبية أبناء المجتمع بحرمانهم من حقوقهم الاقتصادية، ومن حقهم في ممارسة السياسة. وتجلى ذلك اقتصادياً في سوريا، على سبيل المثال، بتعثر عملية النمو الاقتصادي منذ ثمانينات القرن الماضي، وازدياد هذه العملية تباطئاً لتصل إلى حوالي 2-3 % في السنة في التسعينات، وبداية القرن
الواحد والعشرين.. وتراجع معدل الاستثمار العام والخاص من27% من إجمالي الناتج المحلي عام1995 إلى 9,2% عام2001، وانخفضت حصة مساهمة القطاع الخاص في مجمل الاستثمارات من 56% في عام1995 إلى 12% في عام2001، وانخفض إلى 10،9% في العام 2002(1). وانخفض معدل النمو في العام2002 إلى 3،2% (2)، على الرغم من ارتفاع أسعار النفط.. وأخذت معدلات التضخم تتراوح منذ منتصف التسعينات في حدود3-4% في العام، وزيادة في معدل البطالة الذي وصل إلى 30% حسب دراسة صادرة عن مجلس الوحدة
الاقتصادية العربية ومنظمة العمل العربية (3)، في حين يقدرها البنك الدولي بحوالي 37% (4). وينتج عن ذلك تدهور في مستوى المعيشة ومعاناة أكثر من ثلث السكان من شظف العيش تحت خط الفقر، وللتستر على ذلك جرت عملية فبركة ومقصودة لإدخال مفاهيم ومصطلحات اقتصادية هدفها تضليل الرأي العام، والتأثير في الوعي الاجتماعي، مثل مفهوم خط الفقر للناس الذين لا يموتون جوعاً، فضلاً عن القيام بعمليات إحصائية مفبركة تعطي النتائج التي يريدها الدارس، ومنها تلك التي قامت بها هيئة تخطيط
الدولة في سوريا بالتنسيق مع منظمات تابعة للأمم المتحدة، والتي توصلت إلى أنّ نسبة من يعيشون دون خط الفقر 9% في عام 2004 على اعتبار أن كل مواطن يزيد دخله عن 1331 ل.س، أي أقل من دولار واحد يومياً، لن يموت من الجوع... للإيهام بأنّ غالبية المجتمع تعيش فوق خط الفقر.
ومع ازدياد الفقراء فقراً أخذ الأغنياء يزدادون غناً، وأضحت فئة لا تتجاوز 5% تحوز على أكثر من 80% من مداخيل البلاد، حسب العديد من الدراسات الاقتصادية... مما زاد التناقضات الاجتماعية والطبقية في المجتمع حدة، وخلق شريحة فقيرة أغلبها من الشباب المتعلم العاطل عن العمل جاهزة للانفجار.
وعانى مجتمعنا، فضلاً عن التناقضات الطبقية، من مشاكل سياسية اجتماعية، بعد أحداث السبعينيات، وبداية الثمانينيات، التي أخذت طابع العنف من جانب بعض التنظيمات المسلحة القريبة في توجهها الفكري من جماعة الإخوان المسلمين، راح ضحيتها الكثير من الضحايا، وخلقت جواً اجتماعياً ونفسياً ضاغطاً، وقوبلت برد فعل عنيف، خلّف جراحاً لم تندمل، وتسبب في تهجير، وهجرة الآلاف إلى خارج الوطن... وأُصدر في تلك الفترة المرسوم رقم 49 عام 1980... مما ذلك إلى تراكم أحقاد وتناقضات دفينة
جاهزة للانفجار إن لم تعالج بشكل سليم، وكان من الطبيعي أن يشكل المهجرون قوى معارضة تضاف إلى التناقضات التي عانى المجتمع والسلطة منها...
كما ترك إحصاء عام 1962 معاناة ومظالم حقيقية لدى فئة واسعة من أبناء المجتمع السوري، ألا وهم الأخوة الأكراد، نتيجة حرمانهم من حقوق المواطنة، فضلاً عن الحقوق الثقافية، والطبقية. وأضيفت تلك المعاناة إلى التناقضات الجمة في المجتمع السوري... والتي لم تجد معالجة...
وساهمت في ازدياد حدة التناقضات بين البنية الفوقية والبنية التحتية، البنية السياسية السائدة، المأخوذة في جوهرها من دول أوربا الشرقية، والتي تجاوزها الزمن، وتخلى عنها أصحابها لأنّها تعيق التطور الاقتصادي والاجتماعي؛ تلك البنية المغلقة دستورياً وسياسياً بتكريسها سلطة اللون الواحد، وعبادة الفرد، وهيمنة الركود على البنى والأحزاب والمؤسسات الاجتماعية، مع ازدياد الهوة بين الفقراء والأغنياء، واستشراء الفساد والرشوة، والاستخدام غير النزيه للسلطة، ونهب أغلب الإدارات
وزباينتها الملكية العامة، وملكية الدولة بمختلف الطرق والأساليب، وترافق ذلك مع تراقص القادة النقابيين، والحزبيين، وجهاز المراقبة والقضاء حول تلك الإدارات لتغطية سلوكها، بما يضمن المكاسب والمصالح الشخصية... وأصبح (القضاء، والتفتيش) جزءاً من بنية الفساد ـ(حبّذا لو استطاعت أية جهة مهتمة تنظيم إحصاء بملكية القضاة والمفتشين، على سبيل المثال، قبل تعيينهم في مناصبهم، وبعد مرور خمس سنوات على ذلك لتبيان هول المصاب)... حصل ذلك كلّه في ظلّ سيادة حالة الطوارئ، والأحكام والقوانين
الاستثنائية لتحمي حالة الفساد، وما ينجم عنها من استبداد، وخرق القانون، وازدياد الهوة بين السلطة والشعب، وتشوه العلاقات الاجتماعية، وتراكم الكبت في النفوس... في ظل بنية سياسية قيدت النشاط السياسي لأبناء المجتمع، وحظرت تشكيل القوى والأحزاب المعارضة التي تساهم في وضع الحلول لمعالجة التناقضات الاجتماعية والطبقية، فساهمت في انسداد الأفق السياسي في البلاد، وسعرت التناقضات وزادتها حدة، وكموناً في أعماق المجتمع... من البديهي أنّه لا يمكن السيطرة بشكل كامل على أي مجتمع، والمجتمعات
التي تجتث المعارضة فيها بالقوة تبدع مختلف أشكال معارضتها، ولا يوجد مجتمع بشري يخلو من معارضة... ونظراً لإغلاق جميع المنابر في وجه أي صوت معارض، لم يبق أمام جماهير واسعة من الشعب إلاّ المساجد، التي لم تكتف فيها بالدعاء، مع التنويه بأهمية وقوة الدعاء، بل وجدت فيها متنفساً للالتقاء والتواصل، وتشكيل أجنة معارضة، لا بدّ أن تجد صلة مع المعارضة في الخارج، ولتشكل نوعاً آخر من التناقضات الداخلية الكامنة في المجتمع...
وبالعودة إلى الواقع العربي العام، نجد أنّ أساس التناقضات الخارجية في أغلب المجتمعات العربية، يكمن أساسها في عجز البنية السياسية المهيمنة، على مناهضة المشروع الصهيوني... مما زاد شكوك شعوب البلدان العربية وهواجسها حول الشعارات المناهضة للمشروع الصهيوني، مع تعاضد أصحاب الرساميل العربية المحدثة، والمهربة إلى الخارج مع الرساميل التي طالما وصفت بالمعادية ـ إذ تزيد الاستثمارات والإيداعات الخارجية للرأسماليين والمسؤولين العرب، والمصريين، والليبيين والتونسيين، حسب
العديد من الإحصائيات، على سبيل المثال، على مئات مليارات الدولارات... ولمّا كانت بيتوات المال الصهيونية تهيمن على أغلب تلك المصارف، فقد حصل تحالف غير معلن بين أصحاب الرساميل الداعمين لذلك المشروع، والداعمين في الوقت نفسه لحلفائهم الجدد من أصحاب الرساميل العربية الطفيلية المحدثة، بل حصل تعاون مباشر، كما هو الحال في مشروع إمداد إسرائيل بالغاز المصري، ونتيجة لمعرفة الرأسماليين العرب المحدثين بقوة حلفائهم الجدد، وهيمنتهم على مراكز القرار العالمي، فقد ازدادوا غطرسة وانفصالاً عن
الواقع المحلي، بفضل ذلك الدعم، داعين إلى تطبيق مبادئ الليبرالية الجديدة التي عانت المجتمعات الغربية نفسها منها، وعلى الرغم من ذلك تمسك بعض الاقتصاديين العرب بضرورة تطبيقها في مجتمعاتنا، مما زاد التناقضات حدة في هذه المجتمعات التي تعاني من الفقر والحرمان، التي سُدّت الآفاق أمامها.
كما ازدادت التناقضات، في الوقت نفسه، بين البنية السياسية المهيمنة والمفروضة على المجتمعات العربية، ومتطلبات التطور التاريخي المعاصر، إذ امتازت تلك البنية بالجمود والانغلاق، والكبت، بينما ازدادت أهمية وضرورة الحرية في هذا العصر؛ عصر الثورة المعلوماتية والذي من أهم ميزاته: "التنوع، والحرية، والتغيير السريع والمستمر..." وقاد تشبث الأنظمة الحاكمة بتلك البنية المغلقة ورفضها الإصلاح والتغيير إلى ازدياد حدة التناقضات بينها وبين متطلبات التطور التاريخي،
وجعلها تدفع الشعوب للعيش خارج التاريخ... وأوصلت مجتمعاتها إلى أزمة خانقة على كافة الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ويجري ذلك بعد انتصار الرأسمالية على البلدان الاشتراكية، التي لم تستطع أن تجدد نفسها، في نهاية القرن العشرين، عندما نعى المفكرون الرأسماليون التاريخ، وكأنّهم ينعون الإنسان... وكادت الثقة تفقد بالإنسان... إذ حاول أتباع الفكر المتوحش المنتصر أن يستبدلوا القيم الإنسانية النبيلة، بقيم المنفعة المادية البراغماتية المتوحشة الضيقة، وأن يستبدلوا قيم الروح الإنسانية الجماعية، والمحبة بقيم الأنانية الفردية الضيقة المنعزلة، فوجهت ضربة إلى الفكر الإنساني السليم، وزاد
ذلك الانتصار أتباعه غطرسة وعنجهية وتكبراً، وبدا وكأنّ البشرية أصيبت بالخبل... ولم تكن البلدان العربية بعيدة عن هذا الأمر... ويبين تطور الأحداث في مصر، أن مفكري وممولي المشروع الصهيوني في المنطقة سعوا تاريخياً لإقامة ومساندة أنظمة أساسها تحالف طغم عسكرية ورأسمالية فاسدة، تفرض هيمنتها في ظل حالة الطوارئ والأحكام العرفية ترعب بواسطتها شعوبها، في محاولة للقضاء على أية جذوة مناهضة للصهيونية في داخلها، ووجدوا في مثل تلك الأنظمة كالنظام المصري، خير وسيلة لحماية إسرائيل من غضب
الشعوب العربية وثوراتها... في الوقت الذي تحارب فيه إسرائيل الدول العربية مجتمعة من دون أن تعلن حالة طوارئ، لتبدو وكأنّها البلد الديمقراطي (الوحيد)، كما يزعمون، وسط حشد من ديكتاتوريات قوانين الطوارئ، ومع أنّ عفونة وعنصرية الديكتاتورية السائدة في إسرائيل، والتي تفوق الديكتاتوريات الفاشية بشاعة ونتانة، بادية للعيان، فإنّها تتستر بعيوب العرب، وتسعى جاهدة لتثبيتها في واقعهم الأليم... ومع هيمنة وطغيان الأجهزة الفاسدة في هذه البلدان ازداد الرأسماليون الجدد غنى، وغطرسة واستكباراً
وتعنتاً، كما بينا، وازدادت، في الوقت نفسه الفروقات الطبقية حدة، وأخذت البطالة تزداد في صفوف الشباب... وفي المقابل، ساهم التطور التكنولوجي العالمي، وانتشار شبكة الانترنت الدولية في نشوء ثقافة جديدة في صفوف هؤلاء الشباب تتجاوز ثقافة الخنوع، وساهمت حالة البطالة وهذه الثقافة في تشكل فئات جديدة في المجتمعات العربية ذات ثقافة جديدة عالية، ولا تملك شيئاً، وبالتالي لا يوجد لديها إن ثارت ما تفقده، مما جعلها من حيث لا تدري فئة ثورية بامتياز، أشبه بنوع جديد من بروليتاريا ماركس
الثورية... وأدى تعنت وفساد الطبقات الغنية الفاسدة الحاكمة، وانفصالها عن شعوبها، وعدم قبولها أية نصيحة للقيام بالإصلاحات السياسية الضرورية لمواكبة متطلبات العصر، وازدياد الفروقات الطبقية حدة، وانسداد الأفق السياسي والاقتصادي إلى خلق حالة ثورية حاملها الأساسي شبيبة مثقفة متنورة ثورية تدعو إلى العدالة الاجتماعية، والكرامة، ومكافحة الفساد والمفسدين، وحرية الرأي والتعددية السياسية الفعلية، وبناء المجتمع على أسس متحضرة سليمة... وأدى تجاهل الحكومات لدعوات ونصائح الغيورين على الوطن
لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، إلى اندلاع لهيب الثورة... فكان للشبيبة العربية في تونس ومصر شرف تدشين الثورات الحديثة في القرن الواحد والعشرين...
أجل لقد أعاد الشباب، والشعب التونسي، والشباب والشعب المصري، للعرب مكانتهم اللائقة في العالم، وعزز ثقة البشرية بالإنسان الحي عاشق الحرية... وبمتعة وأهمية الثورة السلمية، كلحظة مضيئة من لحظات الحرية، التي تصبو إليها دائماً روح الإنسان، فالحرية قمة تناغم الإنسان مع روحه، وذاته، وواقعه...
وامتازت هذه الثورة الداعية إلى الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية، والمحبة، والقيم الإنسانية السامية، ومكافحة الفساد وكل ما هو قبيح متوحش، بأنّها سمت فوق جميع الأحزاب والأطر والقادة، وهذه ميزة عصرية تمتاز بها عن بقية الثورات التي عرفتها شعوب العالم، ولعلّ من أفضالها أنّها لم تستسلم لقيادة حزب، أو شخص محدد، يقوم بذبح الثوريين الذين ناضلوا ضد الأنظمة البائدة وساندوه وهو سجيناً بعد انتصار الثورة واستلامه قيادتها، كما حصل في ثورات سابقة...
كما تمتاز هذه الثورات أنّها لم تنل مباركة القوى الصهيونية، وحماتها، وآلتها الإعلامية... ومن المهم والملفت للانتباه أن تلك القوى، تحاول جاهدة، إفشال الثورة، وستبذل كل ما في وسعها لإجهاضها، أو التقليل قدر ما تستطيع من إنجازاتها... ومن الملاحظ أنّ الخبراء الإسرائيليين نصحوا أصدقاءهم الحكام، في مصر، وتونس، باستخدام القوة ضد المتظاهرين، بل زودوا الحكومة المصرية بالقنابل اللازمة لذلك، لأنّ انتصار الثورة، وتحول السلطة سيخلق معادلات جديدة،
تجعل إسرائيل مضطرة للتعامل مع الشعوب وليس مع أنظمة، مما قد يهدد مستقبلها... ويكمن السبب الجوهري لهذه المسألة في أنّ بناء المجتمعات العربية على أسس ديمقراطية حضارية متطورة سيفقد إسرائيل بعض حماتها، ويخلق حالة جديدة تسرع في نهايتها المحتومة... ولما كانت هذه الثورات تهدد الرأسماليين المحدثين الفاسدين أيضاً، فقد أخذوا الضوء الأخضر من قبل سادتهم في الداخل والخارج لسحقها، فسارعوا للإجهاز على الثورة، والجديد الذي فاجأنا به الرأسماليون المحدثون الفاسدون
استئجارهم الجمال لمواجهة الشعب!!!
وأثبت ممولو الأنظمة الفاسدة وجود ثقافتين متناقضتين؛ ثقافة الجمل وثقافة الحضارة والحرية والتقدم، وبينوا أن ثقافة الجمل لا تقتصر على الخنوع، بل ويمكن أن تهيج، ولكنّها مهما هاجت لن تصل إلى مستوى ثقافة الحضارة والحرية والتقدم، قد تفّر وتثير هلعاً إلى حين، لكنّها لا يمكن أن تنتصر ولا تسود. وكم هو مؤسف أن يقف بعض المثقفين في صفوف ثقافة الجمل طمعاً في منصب أو مال، أو نتيجة غشاوة في الذهن.
لقد أصبح معروفاً من يقف وراء ثقافة الانترنت، وثقافة التمدن والحضارة، ومن يقف وراء ثقافة الجمل... ولن يكلّ الفاسدون، وأعداء التقدم، وحماتهم من تسويق ثقافة الجمل... وستبقى مهمة أساسية أمام الشعوب الإجابة عن سؤال: ما العمل كيلا تنتصر ثقافة الجمل؟
أما الأزمة التي تعصف بمجتمعنا، فأسبابها، كما الدعوة لمعالجتها ليست حديثة، فقد أخذت ترتفع أصوات العقلانيين الغيورين والمهتمين بصالح الشعب والوطن منذ أواخر القرن الماضي، منادية بضرورة إصلاح البنية السائدة لمعالجة الأزمة التي تكبل المجتمع، وتوجت تلك النداءات في نهاية القرن العشرين، وبداية الألفية الثالثة ببيان التسعة وتسعين، وبيان الألف، وأصوات رواد منتديات ما عرف بربيع دمشق،
ودعاة المجتمع المدني، وبعض الاعتصامات في بداية العقد المنصرم، فضلاً عن كثير من الأبحاث، والمقالات التي نشرها مفكرون، ومثقفون وطنيون تؤكد على ضرورة معالجة الأزمة التي حلت بالمجتمع، وأهمية وضرورة إصلاح البينية السياسية المهيمنة... أما الرد على تلك الأصوات العقلانية الغيورة، وعلى متطلبات الإصلاح فقد اتصف بالتالي:
ـ تجاهل تلك النداءات جميعها، وتجاهل وجود أزمة، والعنجهية والغطرسة في التعامل مع دعاة الإصلاح، والتسويف، واللعب على الوقت، والممارسة العملية التي تتناقض مع التصريحات، والمماطلة في إصدار القوانين الضرورية للإصلاح. لنأخذ على سبيل المثال كيفية اللعب على مسألة إصدار قانون الأحزاب السياسية؛ فمن المعروف أنّه جرى الحديث عن ضرورة إصدار قانون الأحزاب منذ عام 2001، ولكنّه لم ير النور إلا بعد انفجار الأزمة في عام 2011.(5) وهكذا أخذت تنعدم الثقة شيئاً فشيئاً
بين المواطن وبين الجهات الرسمية..
ـ كما شُنّت حملة شرسة ضد المنادين بالإصلاح، واتهموا بـ"التخريب».(6) والخيانة والعمالة وخدمة المشروع الصهيوني.. بحجة أن من يدعو للإصلاح والتغيير سيتسبب في انهيار الأنظمة التي تواجه المشروع الصهيوني(7)!! وتجلت شراسة الحملة ضد المنادين بالإصلاح في التعامل غير العقلاني مع من استجاب للنداءات الرسمية للإصلاح، كما حصل مع العشرة الأفاضل (ميشيل كيلو، د. عارف دليلة، حبيب عيسى، رياض الترك، حبيب صالح، رياض سيف، مأمون الحمصي، وليد البني، أنور
البني، وعلي العبد الله) الذين زج بهم في السجن جزاء تلبيتهم لنداء الإصلاح، وتجلى ذلك في عملية قمع المنتديات، ومنع المنادين بالإصلاح من السفر، وألقيت الخطابات المنددة بهم، وأعلنت أعلى الجهات أن: "لا مستقبل لهم (أي للمفكرين، والمثقفين، والمواطنين الداعين الإصلاح، ورواد المنتديات، ودعاة المجتمع المدني) في هذا البلد"، فازداد محاصرة، وقمع صوت العقل، وازدادت القيود على النشر، خاصة عند تناول الفاسدين ومصادر ثرواتهم، فأغلقت المنابر، كصحيفة الدومري، على سبيل المثال، نتيجة لمحاولتها
مقاربة قضايا الفساد الكبرى، ووصل الأمر إلى إحالة من ينوي حضور محاضرة إلى المحاكم العسكرية، فتم، على سبيل المثال، اعتقال ثمانية عشر ناشطاً كانوا متوجهين لحضور محاضرة في منتدى عبد الرحمن الكواكبي في حلب في عام 2004. وحُوصر المفكرون، والمثقفون الذين ينتقدون البنية السائدة... ومنعت الرقابة الإعلامية نشر أية مادة علمية تنتقد البنية السياسية السائدة(**).
ـ وجرى التمسك بحالة الطوارئ والقوانين والأحكام العرفية، لتخلق أجواء الرعب والخوف في نفوس المواطنين، وتم التعامل بأسلوب عنيف مع من يدعو لإلغائها.(8)
ولم تخفق هذه الإجراءات والتصرفات في معالجة التناقضات الداخلية في المجتمع، ولم تحل الأزمة، فحسب، بل زادتها تفاقماً وأججتها... وتعاظمت وتداخلت وتفاقمت التناقضات المذكورة، ووصلت إلى حالة انفصام وتنافر بين قاعدة شعبية عريضة وفئات مثقفة تعيش التهميش والغربة وفقدان الكرامة، وبين جهة تلغي كلّ صوت معارض، وتهيمن على وسائل الإعلام والصحافة، والاقتصاد، والمؤسسات الرسمية، وتسن القوانين والأحكام التي تعزز هيمنتها القانونية، والتشريعية على المجتمع، وتعتمد إجراءات على
الصعيدين السياسي، والاقتصادي تؤمن لها جميع وسائل الهيمنة، والتدخل في شؤون الاقتصاد والمجتمع، من خلال هيمنتها على قطاع الدولة، الذي يعزز قوتها، ويجعل قبضتها، كما يقول خلدون النقيب تمتد "إلى تحديد أرزاق الناس، وماذا يأكلون ويشربون، حيث (تصبح) المواجهة بين الدولة، والمواطنين مواجهة معيشية يومية متصلة، وغير متكافئة:.(9) وأخذت هذه البنية التي اصطلح على تسميتها "الدولة الأمنية"، كما يقول الدكتور طيب تيزيني، والتي تقوم على
القوة والعنف، وتستمد أسباب استمرارها منهما، تتناقض مع متطلبات التطور الموضوعي...(10)
وتكاتفت مجمل الظروف والعوامل الداخلية والخارجية والتاريخية، ومنها تداعيات رياح الحرية والتغيير في تونس ومصر، لتخلق بيئة وعوامل جديدة تساهم في تعزيز الروابط بين القوى الكامنة في المجتمع، والمتضررة من السلطة المطلقة، وتمنحها القوة والجرأة للتعبير عن نفسها، فنشأ حراك شعبي ذو طابع ديمقراطي ثوري، يطالب بتغيير البنية المغلقة، وإشاعة أجواء الحرية، والكرامة، والعدالة الاجتماعية...
اعترفت الجهات الرسمية بشرعية مطالب الحراك الشعبي في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ولما كانت هذه المطالب المشروعة تهدد مصالح المتضررين من الإصلاح والتغيير، فقد أخذوا يسعون بكل ما أتوا من قوة لوقف هذه المطالبات والالتفاف عليها، مما زاد في تفاقم الأزمة وعمق حدتها...
وأدى التباطؤ في إعلان القوانين والإجراءات الإصلاحية، التي عرقلتها القوى المتضررة من الإصلاح، فضلاً عن استشهاد العدد الكبير من أبناء الوطن من المدنيين والعسكريين، إلى زيادة أهمية وضرورة الدعوة لإعمال العقل، ولتعزيز عوامل الغيرة الوطنية للتسريع في العملية السياسية التي تقود إلى التغيير والخروج من الأزمة.
إن النظرة النقدية لأداء الحكومة في معالجة الأزمة المحدقة بالوطن، يبين أنّ نهجها لم يختلف كثيراً عن نهج الحكومات السابقة في تعاملها مع متطلبات الإصلاح منذ أكثر من عقد من الزمان، والذي امتاز بالقصور، والتباطؤ، والمماطلة والتسويف، وتأجيل معالجة القضايا الجوهرية، وكأنّها تلعب على عامل اهتلاك الزمن، فأخذت تشكل اللجان التشاورية وتصدر القوانين بالقطارة، دون اعتمادها كرزمة متكاملة، ودون ملامسة جوهر الخلل في البنية الدستورية التي كثيراً ما تتبنى أسس دستور الاتحاد
السوفيتي السابق، والتي ساهمت في الوصول إلى الأزمة، تلك الأسس الدستورية التي تتناقض وتلغي فعالية جميع القوانين التي أصدرتها الحكومة تحت عنوان الإصلاح والاستجابة لطلبات المتظاهرين، مما زاد فجوة عدم الثقة بين السلطة والجماهير المتراكمة منذ سنين.
ويبقى السؤال الأساسي والجوهري: ما سبيل الخروج من هذه الأزمة، وكيف يمكن إنقاذ الوطن؟ وفي هذا المجال نرى ما يلي:
ـ تكمن المهمة الأساسية في إنقاذ الوطن، وحماية أرواح أبنائه، ومقدراته ـ والتي لن تلبى بالتمني ـ في الإقرار بوجود أزمة، والاعتراف بجميع الأطراف الفاعلة فيها، وإعادة الثقة بين أطراف المجتمع والدولة، واعتماد إجراءات عملية ملموسة لمعالجة التناقضات التناحرية الحادة التي تعصف بالمجتمع والدولة، فالمهمة الأساسية للدولة القانونية هي معالجة التناقضات في المجتمع ومنع وصولها إلى الحالة التناحرية؛ ولا يتم ذلك إلاّ بأيدي أبناء الوطن سلمياً، وليس باستخدام السلاح، ويتم ذلك
سياسياً وليس أمنياً، ولا بالتدخل الخارجي...
إن معالجة أسباب الأزمة أمر ضروري للخروج منها. ولمّا كان تلك الأسباب متعددة: اقتصادية، واجتماعية، وسياسية، ويكمن جوهرها في البنية السياسية القاصرة عن تلبية متطلبات العصر والتي تعيق التطور والتقدم، فمن الضروري مع الإقرار بوجود أزمة، تبني خطة مشتركة تشارك المعارضة في وضعها مع جدول زمني للبدء بتغيير البنية السياسية، لبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، وأن تعلن صراحة المبادئ التي تقوم عليها الدولة المدنية القانونية؛ والتي أساسها
رضا وقبول أبناء المجتمع، والتداول السلمي لها، والمساواة القانونية والحرية، وتسمح لمؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات بالتفتح والتطور، كي تبنى دولة لجميع أبنائها، في بنية سياسية تعديدية وحرة. ومن البديهي أنّ رضى وقبول أبناء المجتمع بالسلطة الحاكمة ركن أساسي من أركان الدولة، ولا تستطيع أية دولة أن تفرض سلطتها بالقوة من غير رضى أبنائها، ومن الخطأ القيام بذلك... ومن الضروري أن يسمح لأبناء المجتمع أن يعبروا عن عدم رضاهم عن السلطة الحاكمة بمختلف أشكال الفعاليات الاجتماعية، بما
في ذلك التظاهر سلمياً، وعلى السلطة الشرعية أن تعمل على كسب رضى أبنائها، بتلبية مطالبهم المشروعة، ورفع كافة أشكال المظالم الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والقومية عن كاهلهم.
ـ وتتطلب مسألة معالجة الأزمة المحدقة بالبلاد الإعلان عن مرحلة انتقالية لمدة محددة تسود خلالها أجواء الحرية، وتعيد الثقة بين جميع الأطراف في المجتمع والدولة، ولإعادة هذه الثقة من الضروري أن تقر السلطة أنّ الحرية وعملية بناء الدولة المدنية الديمقراطية هي حجر الزاوية في معالجة الأزمة التي تعصف بالبلاد، وهي مسؤولة عن تأمين وضمان وحماية هذه الحرية، ويعزز إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي، ومعتقلي الحراك الشعبي الذين
لم يستخدموا السلاح، وفسح المجال أمام جميع أبناء الوطن في الخارج أن يعودوا إلى الوطن، ومعالجة قضاياهم بشكل عادل، يعزز تلك الثقة، مع التأكيد على أنّ الفضل في رؤية المستقبل المشرق لسوريا، وتحويل هذه الرؤية إلى مشروع عمل يعود إلى الحراك الشعبي الذي بدأ في 15 آذار، وأنّه لا مجال للعودة إلى الوراء، ولا سبيل للدعوة إلى إيقاف هذا الحراك، ولا إيقاف التظاهر السلمي، قبل تحقيق متطلبات التغيير الأساسية. كما أنّه من الضروري الإقرار بأنّ الحل الأمني تعبير عن فشل
النهج السياسي، ولن يحلّ الأزمة السياسية الراهنة، بل تكمن في طياته مخاطر جمة. ومع التأكيد على إدانة استخدام السلاح ضد المدنيين والعسكريين من أية جهة كانت، فإن الوفاء لدماء الشهداء من الشعب والجيش يتطلب تشكيل لجان تحقيق نزيهة ومحايدة تضم في صفوفها ممثلين عن الحراك الشعبي، لإجلاء الحقيقة، ومعاقبة المتسببين، ولردع من تسول له نفسه القيام بمثل هذه الأعمال الإجرامية. ومن الضروري معالجة قضية اللاجئين إلى خارج البلاد بالتنسيق معهم
وتلبية طلباتهم المشروعة. وفي سبيل كبح الأساليب والتصورات الطائشة والسكرى، لا بد من إعلاء صوت العقل والضمير الوطني الغيور، ولن تحل الأزمة حتى يسود صوت العقل.
ـ ومن الضروري أن تدشن المرحلة الانتقالية بإلغاء جميع القوانين والمراسيم التي تقيد النشاط السياسي لجميع فئات الشعب، بما فيها المرسوم 49 لعام 1980، وتلك القوانين التي تحمي أية جهة أمنية وغيرها وتمنع مساءلتها القانونية عن الإساءة للمواطنين، أي "تفكيك الدولة الأمنية"، كما يقول الدكتور طيب تيزيني، ومن الضروري أن يعلن في هذه المرحلة تعليق العمل بمواد الدستور التي تعيق التعددية السياسية...
ـ من الضروري أن تعلن جميع الأطراف بشكل صريح عن أهمية وضرورة وجود المعارضة، واحترام جميع مكوناتها الوطنية، وأنّ المعارضة عنوان الأوطان، يسمح لها أن تتشكل بشكل حر، ولا يحق لأية جهة التدخل في شؤونها، وتفتح أمامها وسائل الإعلام والنشر لتعبر عن ذاتها، والإقرار بأهمية وضرورة المعارضة يعني الافتراق نهائياً مع عبادة الفرد، وما يرافق ذلك من شعارات، وممارسات، وغيرها، والتعود على قبول النقد، وسماع الرأي الآخر الذي قد لا يروق للكثيرين... كما أنّه من الضروري الاعتراف في
المرحلة الانتقالية بأهمية الحراك الشعبي السلمي الذي يعد شكلاً من أشكال المعارضة السلمية، يعود إليه الفضل في إقرار السلطة بضرورة القيام بالتغيير السياسي نحو الدولة المدنية الديمقراطية، وهو أحد ضمانات التغيير السياسي، والتأكيد على حماية هذا الحراك الشعبي ذي الطابع السلمي حتى تتحقق متطلبات الانتقال إلى الدولة المدنية الديمقراطية المنشودة. وعدم تقييده خلال المرحلة الانتقالية بأية قيود غير الالتزام بالطابع السلمي. ويتم في هذه المرحلة تشكل التنظيمات والأحزاب السياسية بشكل حر، وسلمي
دون أية قيود...
ـ ومع تبلور وتشكل وتنظيم القوى، والتنظيمات الوطنية المعارضة، تُطرح مسودات مشاريع القوانين، ودستور الدولة المدنية الديمقراطية للنقاش العام؛ ويشمل هذا النقاش تعديل قانوني: الأحزاب، والانتخابات اللذين صدرا منذ مدة قريبة.
فإذا أخذنا قانون الانتخابات الصادر حديثاً نجده يعتمد مبدأ الانتخاب الفردي، ولم يعتمد القائمة النسبية، وهي مطلب ضروري للخروج بالبلاد من أزمتها؛ لأن مبدأ القائمة النسبية في الانتخابات يساهم في معالجة سلبيات الانتماء العشائري والعائلي، وطغيان المال السياسي، ويجعل الانتماء الوطني أساس العقد الاجتماعي، ويحوّل الانتخاب إلى مفاضلة بين مبادئ سياسية وبرامج حزبية، وليس مفاضلة بين أشخاص. ويجعل هذا النوع من الانتخاب عضو
الهيئة المنتخبة أكثر تحرراً من وصاية ناخبي الدائرة، ويزيد من اهتمامه بالمسائل العامة، كما يزيد من اهتمام المواطنين بالمسائل العامة، ويعمّق إدراكهم بالمبادئ والبرامج السياسية لمختلف الأحزاب، كي يقارنوا بينها، ويختاروا اللائحة التي تمثل الحزب الأكثر صلاحية، من وجهة نظرهم... وبالتالي من الضروري والواجب وطنياً اعتماد مبدأ النسبية في الانتخابات، ومن المفضل اعتماد نسبة 5% حد أدنى للدخول إلى البرلمان، ونسبة 49% حد أقصى لأية كتلة سياسية كيلا يحصل احتكار أي حزب أو تكتل سياسي على
البرلمان، والعمل السياسي في البلاد... ومن الضروري التنويه إلى أن التمسك بمبدأ الانتخاب الفردي قد يكون دليلاً على نوايا مبيتة للتحكم بنتائج أية انتخابات، وبالتالي إبطال جدواها، والالتفاف على الحراك الشعبي، والقضاء على أية محاولة للتغيير نتيجة وأد الانتخابات في مهدها.
أما قانون الأحزاب الذي أقر حديثاً، فيعد وفق الدستور الحالي لاغياً، فضلاً عن النواقص الكثيرة التي يتضمنها، وأهمها جعل هيئة الأحزاب برئاسة وزير الداخلية، وهذا ما يفهم منه تبيت نوايا مسبقة لعدم استقلالية الأحزاب؛ فمن الضروري أن تكون هيئة الأحزاب مستقلة، فضلاً عن ضرورة إيراد الكثير من البنود التي تبين حقوق الأحزاب وواجباتها، والأسباب الموجبة لحلها، لا جعلها تحت رحمة وزير الداخلية... ومن النواقص الجوهرية في قانون الأحزاب الذي صدر، منذ
مدة قريبة، عدم تضمنه مقدمة تنص على أنّ دستور البلاد يعترف بالتعددية السياسية والحزبية. من الضروري تضمين القانون هذا المبدأ الدستوري الذي تضمن الحكومة بموجبه مساواة جميع الأحزاب السياسية أمام القانون، وحقها في المشاركة في الحكم وتداول السلطة. ويدل ذلك على ضرورة صياغة دستور جديد، متحرر من مادة بريجنيف الثامنة التي تنص على أن حزب البعث قائد في الدولة والمجتمع، وتبعاتها من مواد أخرى، وجعله ينسجم مع متطلبات الحياة الديمقراطية التعددية
التداولية...
ومن البديهي إنّه من غير المنطقي وضع قانون أحزاب، وقانون انتخاب عصري، دون اعتماد دستور عصري، وما يجري من طرح لمشاريع القوانين دون مناقشة التعديلات الدستورية، أو اعتماد دستور جديد، يشبه وضع العربة أمام الحصان. ويعكس ذلك خشية من عدم الجدية في التعامل مع الأزمة المحدقة بالوطن. أي من الضروري الشروع في إعداد مشروع دستور لجمهورية برلمانية رئاسية، خال من مادة بريجنيف (المادة الثامنة) ومن جميع المواد التي تميز بين
المواطنين من مختلف الانتماءات في تبوأ أي منصب في البلاد، ويقر عملياً فصل السلطات، ويحدد صلاحيات البرلمان ورئيس الجمهورية، على ألا تزيد مدة الولاية الرئاسية الدستورية عن خمس سنوات، وحصرها بولايتين دستوريتين لا أكثر، ومن الضروري أن يؤكد الدستور على مبدأ العدالة الاجتماعية، ومناهضة كافة أشكال التمييز الحزبي، أو الجنسي، أو الديني، أو القومي، وتنال عبره المرأة كامل حقوقها ومساواتها مع الرجل في العمل وفي الأسرة، وينال كافة أبناء الوطن حقوقهم الثقافية والوطنية، بما في ذلك المواطنون
الأكراد.
ـ تتوج المرحلة الانتقالية بتشكيل جمعية تأسيسية مؤقتة، تشرف على تنظيم شؤونها والدعوة لعقد اجتماعاتها لجنة يحدد أعضاؤها من قبل قوى المعارضة، وممثلي الحراك الشعبي، وممثلي الحكومة، معاً وبالتساوي، وتقوم هذه اللجنة بتحديد أعضاء الجمعية التأسيسية المؤقتة، لتضم ممثلين عن قوى المعارضة، وممثلي الحراك الشعبي، وممثلي أحزاب الحكومة بالتساوي، وتعقد هذه الجمعية اجتماعاتها في نهاية المرحلة الانتقالية، وتعتمد مشروع الدستور الجديد ومشاريع قوانين الدولة المدنية الديمقراطية
وعرضها على الاستفتاء العام. ليتم إجراءات الانتخابات البرلمانية والرئاسية على أساسها، بعد مدة يتفق عليها من تاريخ إقرارها، وتنتهي مهام الجمعية التأسيسية مع انتهاء عملية انتخاب البرلمان الجديد.
هذا هو سبيل التغيير والانتقال السلمي إلى بنية الدولة السياسية الاقتصادية العادلة الجديدة التي يطمح الشعب في الارتقاء إليها. أو ما يطلق عليه بعض الباحثين تعبير إنجاز مهام الثورة، إنّه تحد حقيقي يواجه جميع القوى الوطنية الغيورة على صالح الوطن. والضامن الحقيقي لنجاحه هو الاستجابة لمطالب الشعب الوطنية المشروعة في العدالة، والحرية، والكرامة.
ومما لا شكّ فيه أنّ صعوباتٍ جمةً تواجه مسألة إنجاز مهام الثورات العربية سلمياً، وتضع الشعوب العربية أمام تحد حضاري، وتاريخي، لإيجاد الحلول السلمية لمسألة الثورات، وهذا ما يميزها عن الثورات العظمى التي عرفتها مختلف شعوب العالم؛ إذ تبين مقارنة الثورات العربية المعاصرة بثورات الشعوب الأخرى، كالثورة الفرنسية، والبلشفية، أن الثورات التي عرفتها الشعوب تاريخياً قامت تحت قيادة أحزاب محددة المعالم، وكان يقودها مفكرون وشخصيات معروفة، ولكن واقع الشعوب العربية المحكومة
من قبل أنظمة سحقت كل شكل من أشكال المعارضة، ومنعت ظهور أحزاب معارضة، وقادة لها، جعل التخوم بين قاعدة، وقيادة الثورة شبه معدومة، وجعل هذه الثورات ثوراتٍ شعبيةً بامتياز، وليست ثورات نخب، وانتصارها لا ينتهي باستلام الحكم، ولا بين ليلة وضحاها، بل يتطلب مرحلة انتقالية من الضروري أن يبقى الشعب خلالها يقظاً وحارساً لها، وتبقى قوة الثورة مرتبطة بمدى احتضان الشعب لها... بالتالي تطرح الثورات العربية تحدياً جديداً أمام الشعوب، والحكومات، معاً، حول إمكانية إنجاز مهام التغيير (أو الثورة)
من قبل المعارضة والسلطة معاً... قد تبدو هذه الفكرة طوباوية، ولكن عندما تتوفر الإرادة الوطنية الغيورة، والصادقة ونكران الذات، عند الطرفين، يجدان حلولاً للأزمة تتجاوز الطرفين وتؤسس لحالة جديدة تخدم مصالح الشعب والوطن، علماً بأنّ فرص هذا المخرج، أو المساومة، تضيق وتتآكل مع الاصرار على الحل الأمني، ومرور الوقت، وازدياد عدد الضحايا...
يجنب الحل السلمي الأوطان والمجتمعات الكثير من الضحايا، والويلات، والمخاطر، التي لا تُعرف حدودها، أما الحل العسكري فيساهم في وضعها أمام مخاطر وكوارث لا تُحمد عقباها...
من التحديات والمهام الأساسية المطروحة أمام شعوبنا وقواها المختلفة بما فيها الموالاة، والمعارضة، والحكومات، في هذه المرحلة، مع إنجاز مهام التغيير للوصول إلى الدولة المدنية الديمقراطية، منع حصول التدخل العسكري الخارجي؛ ذلك التدخل الذي إن تحقق فسيقضي على كثير من الأرواح البشرية، فضلاً عن مقدرات البلاد، تلك المقدرات العسكرية، والاقتصادية، والبشرية التي دأبت شعوبنا وضحت لتراكمها طوال أجيال وأجيال، لتعزيز مقدرات الوطن وحمايته، وستذهب تلك الأرواح والمقدرات خلال
أيام أدراج الرياح، ولن نستطيع إعادتها، فتفقد البلاد مصادر قوتها، وتعود إلى الوراء لعشرات السنين، وتضعف في مواجهة أي عدوان، فضلاً عن إضعاف إمكانية تحرير الأراضي المحتلة... مما لا شكّ فيه أنّ قوى كثيرة تريد ذلك، وتتحين الفرص منذ زمن لتحقيقه، وبالتالي تبقى مهمة منع حصول عملية تدخل عسكري خارجي مهمة وطنية، وأخلاقية، وإنسانية من الدرجة الأولى، وتتحمل جميع الأطراف مسؤولية منع حصولها.
وتبقى مهمة القوى الفاعلة في المجتمع إيجاد المخارج السليمة والسلمية، والأقل تكلفة لمعالجة الأزمات. وفي هذا السياق من الضروري التأكيد مجدداً على أن بناء الدولة المدنية الديمقراطية في البلدان العربية هو السبيل السليم لمعالجة التناقضات التناحرية الحادة التي تعصف بها، وبمجتمعاتها، وللخروج من الأزمة، وهو السبيل، أيضاً، لتمتين سيادة، ووحدة الوطن، والسبيل إلى تهيئة الظروف المناسبة لتحرير الأراضي العربية المحتلة، وتعزيز الدور
القومي، وتقديم المساعدة للشعب العربي الفلسطيني لإقامة دولته، ونيل حقوقه العادلة، ويرفع من كرامة شعوبنا، وبلداننا، ومكانتها في العالم.
* أزم : أَزْمة/ أَزَمة: ج أَزَمات وأَزْمات: 1 - شِدَّة وضيق، مشكلة "أزمة ماليَّة/
سياسيَّة/ دوليَّة- ° أزمة منتصف العُمر: فترة من القلق والارتياب النفسيّ يتعرَّض لها بعض الناس في منتصف العمر.
** ـ مثال على ذلك حذف فقرات من مخطوط كتاب (بحوث في الاقتصاد السياسي ـ إعداد شاهر أحمد نصر ـ الصادر عن دار الطليعة الجديدة بدمشق عام 2008، وعدم الموافقة على نشر كتاب (السلطة العلمانية والمعارضة ـ تأليف شاهر أحمد نصر، وضياع المخطوط بين وزارة الإعلام والقيادة القطرية، الذي قدم إلى مديرية الرقابة
في وزارة الإعلام عام 2010)
1 ـ المجموعة الإحصائية 2003 ، دمشق، الجدول 12/16، ص535
2 ـ المجموعة الإحصائية 2003، دمشق، جدول 9/16،ص533.
3 ـ جريدة الاتحاد، أبو ظبي، العدد 10162، الجمعة 2 /5/200،ص17.
4 ـ جريدة الاتحاد، أبو ظبي، العدد 10305، الاثنين 22/9/2003،ص27
5 ـ كان النائب رياض سيف قد أعلن قبل أيام من اعتقاله لقناة الجزيرة الفضائية أنّ قانون الأحزاب سيصدر في شهر شباط2001، وقد بنى إعلانه على معلومات تلقاها من مسئول رفيع المستوى في السلطة، وأعيدت الوعود مراراً، ومضت سنوات دون أن يرى المواطن شيئاً من ذلك.. ثم جاءت، وبعد سنوات، تصريحات واضحة تعلن أن "لا قانون للأحزاب في سوريا".. ومن ثم أجل إعلان قانون الأحزاب إلى المؤتمر القطري لحزب البعث، علماً بأنّه كان قد جرى الحديث عن عقد هذا المؤتمر في أواسط عام 2004، ومن ثم قيل قبل نهاية عام 2004، ثم جرى التصريح بأنه سيعقد في آذار (مارس) 2005... وأخيراً يقال في أواخر أيار (مايو) 2005..
6 ـ انظر تصريحات رئيس مجلس الشعب إلى صحيفة "الرأي العام" الكويتية ـ عدد: 14 /9/2004
7 ـ انظر: حوار مهم مع نائب رئيس الجمهورية، نشرة ـ كلنا شركاء في الوطن ـ الالكترونية عدد 23/8/2004
8 ـ كما حصل مع المعتصمين سلمياً للمطالبة بإلغائها أمام القصر العدلي في دمشق في آذار 2005، على سبيل المثال..
9 ـ خلدون حسن النقيب، "الدولة التسلطية في المشرق العربي"، ص202)
10 ـ د. طيب تيزيني ـ من ثلاثية الفساد إلى المجتمع المدني ـ دار جفرا دمشق ـ حمص ـ 2001.