حماية الثورة وحق الدفاع عن النفس

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (45)

الثورة السورية: المرحلة الثانية (11)

مجاهد مأمون ديرانية

لقد رأيتموني أحاول جاهداً في المقالات السابقة أن أقنعكم بعدم التهور والاندفاع في عسكرة الثورة واستدعاء التدخل العسكري إلى البلاد، ولكن هل معنى هذا أن تستسلم الثورة وأهلها للذبح؟ قطعاً لا، لذلك ختمت دعوتي تلك بما سميته "إعادة تعريف السلمية"، ومن أساسيات تعريفي لها أن لا تتحول السلمية المحمودة إلى استسلام مذموم. سأوضح بتفصيل أكثر:

الفرق بين الثورة السلمية والثورة العسكرية هو في آليات التغيير. الثورة المسلحة تسعى إلى إسقاط النظام بالقتال والقتل، فتحمل جماهيرُها السلاحَ وتخوض معارك مسلحة ضد الخصم (النظام) فتقتل عناصره وتغتال رموزه وتهاجم مراكزه بالسلاح الخفيف أو الثقيل، حسب توفره، ويمكن أن تلجأ إلى العمليات الانتحارية وتفجير السيارات المفخخة لاستهداف مراكز وشخصيات أمنية، إلى غير ذلك من أوجه استعمال السلاح بكل شكل متاح. بالمقابل فإن الثورة السلمية ترفض أن تستعمل السلاح في فعالياتها الثورية وتعتمد على الضغط الجماهيري البشري السلمي كما رأينا في سوريا حتى اليوم.

لكن أجهزة النظام المجرمة لا تقتصد في حمل السلاح واستعماله، فتهاجم المتظاهرين العزّل بالرشاشات والقنّاصات وتقصف القرى والمدن بالمدافع وتقتحمها بالدبابات، أليس من حق الثورة السلمية أن تدافع عن نفسها؟ وهل تتحول إلى ثورة مسلحة لو فعلت؟

بلى، من حق الثورة أن تدافع عن نفسها. ولا، لن تتحول إلى ثورة مسلحة بمجرد الدفاع عن النفس.

*   *   *

الحقيقة أن الاستسلام لبطش النظام أمر مرفوض مرذول شرعاً وعقلاً، فالأصل أن يدافع المرء عن نفسه، وقد ورد في أحاديث صحيحة كثيرة أن من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتل دون أهله فهو شهيد، أو بأكثر إطلاق وتعميم ممكن: "من قُتل دون مظلمته فهو شهيد". المعنى العظيم الذي أستنبطه من هذه الأحاديث ليس مقام الشهادة لمن مات دفاعاً عن عرضه أو ماله أو مظلمته، هذا مفهوم بَداهةً، الأعظم منه هو الحثّ والتشجيع الضمنيّان على دفع الظلم ولو أدى بالدافع إلى الموت، لأن تفخيم جزائه يوحي بأن عمله محمود وأن الشرع يندب إليه، ولولا ذلك لخوّفَ منه وقلل من أجره.

لذلك فإن أي دعوة إلى عدم الدفاع عن النفس مردودة، إلا إذا ثبت أن الدفاع يتسبب في ضرر أكبر من ضرر عدم الدفاع، فعندئذ نعتمد قاعدة احتمال الضرر الأدنى في سبيل دفع الضرر الأعلى ونختار عدم الدفاع.

والدفاع عن النفس درجات، وبما أن المبدأ مقبول عقلاً وشرعاً كما قلنا فإن تطبيقه بتدرّجه الصحيح مطلوب طالما غلب على الظن عدم وقوع ضرر أكبر. خذوا المخبرين على سبيل المثال: إنهم يتسببون في اعتقال وموت آلاف الأبرياء في سوريا في هذه الأيام، ولا شك أن درء خطرهم وشرهم مباح، بل مطلوب، وهو يتدرج من الإنذار إلى الضرب إلى الجرح والتكسير، وصولاً إلى القتل إن لم يُدفَع شرّهم وضرّهم إلا بالقتل، على تفصيل سأذكره في مقالة لاحقة بإذن الله. ومثلهم الشبّيحة؛ أولئك أفراد عصابات لا عناصر أمن، والمرء يدافع عن نفسه إذا اعتدى المجرمون على ملكه، على بيته أو أهله أو نفسه، ويحق للمعُتدَى عليه أن يرد العدوان ولو بالقتل، فلا تترددوا في التخلص من الشبيحة كلما استطعتم إلى ذلك سبيلاً، ولن يُسمّى هذا تسليحاً للثورة ولا عسكرة لها.

ذلك من باب الدفاع الفردي، دفاع المرء عن نفسه، وأهم منه الدفاع عن الأحياء السكنية من اجتياح عصابات الشبيحة وعصابات الأمن الغادر. إذا امتلك أهل حي من الأحياء أو قرية من القرى سلاحاً واستطاعوا أن يدفعوا به تلك العصابات عن حيّهم وقريتهم فإنهم يُندَبون إلى ذلك ويُشجَّعون عليه، إلا إذا علموا أن الدفاع بالسلاح يمكن أن يتسبب في خطر أعظم، كأن يتسبب في الرد بالمدافع أو الاقتحام بالدبابات، وعندئذ سيصابون في أنفسهم وممتلكاتهم بأكثر مما كانوا سيُصابون به لو لم يدافعوا بالسلاح. أي أن القرار في هذا الشأن متروك لأهل كل منطقة، هم أدرى بظروفهم وبإمكانياتهم وبالمخاطر المحتمَلة، أما المبدأ فلا مشكلة فيه ولا خطر منه على سلمية الثورة بإذن الله.

*   *   *

لكن دفاع المدنيين عن مدنهم وأحيائهم ليس واجبهم أصلاً، إنما هو واجب الجيش، بل هو من صميم عمل الجيش، ونحن فقدنا الجيش حينما سرقه منا النظام وسخّره للدفاع عن العصابة الحاكمة، لكننا بدأنا -بحمد الله- باسترجاع قطع صغيرة منه تزداد عدداً مع الوقت، هي القطع العسكرية المنشقّة التي تشكلت في كتائب رمزية بقيادة الجيش الحر أو الضباط الأحرار (بحمد الله اتفق الطرفان على الاتحاد أخيراً، بعد كتابة هذه المقالة وقبل نشرها بأيام قليلة). هؤلاء المنشقّون المتمردون من الجيش يجب أن يقوموا بوظيفتهم، يجب أن يوفروا الحماية للمدن والقرى، للمناطق والأحياء السكنية، للمظاهرات والتجمعات السلمية... باختصار، إن وظيفة الجيش المنشق هي حماية الثورة السلمية.

لا شك أنكم تتابعون العمليات التي تعلن عنها كتائب الجيش الحر في حمص وفي دير الزور والبوكمال وجبل الزاوية وغيرها من مناطق سوريا، وأكثرها حتى الآن هي عمليات كتيبة خالد بن الوليد في حمص وريفها التي تنشرها صفحة الكتيبة في الفيسبوك. ما هو رأيكم بهذه العمليات؟ هل تتعارض مع سلمية الثورة؟ أما أنا فإن قلبي ينشرح كلما قرأت خبر استهداف حافلة للشبيحة بمن فيها أو اغتيال بعض مجرمي الأمن وعناصره على حاجز من الحواجز الأمنية، وأحس أن هذه العمليات هبة من الله للثورة السلمية من شأنها أن تساعدها على البقاء، لأن الثورة بحاجة إلى حماية لتستمر وتعيش في مواجهة النظام المجرم الذي أطلق عليها جحافلَ مجرميه النظاميين (الأمن) والمتطوعين (الشبيحة)، وأجمل ما في الموضوع أن عمليات الجيش الحر لا تؤثر في سلمية الثورة بأي شكل من الأشكال، لأن الثورة ماضية على منهجها السلمي الذي بدأت به من أول الطريق وجماهيرها يخرجون بأيد خالية من السلاح، سلاحهم حناجرهم التي تُطلق الهتافات وقلوبهم التي تَمدّهم بالجرأة والثبات.

بارك الله في جنود الجيش الأحرار الذين كوّنوا نواة الجيش الحر والذين ما يزالون يلتحقون به يوماً بعد يوم. هل توجد طريقة نستطيع نحن -جمهور الثورة- أن نساعدهم بها؟ لا شك أنهم هم من ينبغي أن يحدد شكل المساعدة المطلوبة، لكننا نستطيع أن نساهم ببعض الأفكار.

(1) تشجيع المجندين الشرفاء على الالتحاق بالجيش الحر. قد لا يكون اتصالنا بالجنود أنفسهم ميسوراً لعرض هذه الفكرة، ولكن الأهل يستطيعون لأنهم قريبون من أولادهم. إذا لم يستطع أهل درعا أن يقنعوا الجيش الذي يحاصر بلداتهم بالانشقاق والالتحاق بالجيش الحر فإنهم يستطيعون أن يصنعوا ذلك مع أبنائهم الذين يخدمون في حمص، ويستطيع أهل حمص أن يتصلوا بأبنائهم الذين يخدمون في القامشلي ويشجعوهم على الفعل نفسه، وأهل القامشلي يخاطبون أبناءهم الذين يخدمون في دمشق وريفها، وأهل دمشق وريفها يخاطبون أبناءهم الذين يخدمون في اللاذقية... وهكذا تتصل السلسلة وتصنع حلقة كاملة.

(2) يمكن للمدنيين أن يقدّموا مساعدة للعسكريين المنشقين بتوفير اللباس المدني لهم لإخفاء هوياتهم وبتهريبهم بعيداً عن مواقعهم العسكرية، ولكن لا ينبغي لأولئك المنشقين أن يبقوا مختلطين بالمدنيين فترة طويلة لئلا يعرّضوهم للخطر، لأن مجرمي الأمن يُجَنّون عادة بعد كل انشقاق ويضغطون ضغطاً شديداً على المناطق السكنية القريبة من مواقع الانشقاق بهدف البحث عن المنشقين، وحينما يُعثَر على عسكريين هاربين في بيوت المدنيين فإنهم يتعرضون لخطر القتل أو الاعتقال والتنكيل. لا أعلم ما هي الطريقة التي يصل بها المنشقون إلى وحدات الجيش الحر، لكني أعلم أن هذا هو ما ينبغي عليهم أن يفعلوه بأسرع وقت بعد انشقاقهم، وهو إجراء مفيد للطرفين، للمدنيين للسبب السابق ذكره، وللعسكريين لأنهم يصبحون في مأمن نسبي بعد وصولهم إلى إخوانهم من المنشقين السابقين.

(3) أتمنى أن توفر كتائبُ الجيش الحر الحمايةَ للمظاهرات السلمية في كل المناطق السورية. أعلم أن هذه الأمنية ما تزال بعيدة حالياً بسبب قلة عدد الجنود الأحرار، ولكن كل آت قريب، وما لا يُدرَك كله لا يُترَك قُلّه (أي قليله). لذلك فإنني أرجو أن يقدّم الجنود الأحرار من كتائب الجيش الحر كل الدعم الممكن الآن وفي المستقبل لكل نشاط ثوري سلمي، مع عدم تعريض أنفسهم لخطر الإبادة لا سمح الله، وهم عسكريون محترفون وسوف يَقْدُرون لكل ظرف قَدْره ويختارون الأسلوب الأفضل بإذن الله.

(4) الجيش الحر جاء من رحم الجيش النظامي، وغالبية عناصر الجيش النظامي هم عناصر "مرشَّحة" للانشقاق والانضمام إلى القوات الحرة ذات يوم، لذلك لا أرى استهداف عناصر الجيش النظامي إلا عند الضرورة وفي حالة تعرضهم للمدنيين بالأذى، باستثناء الضباط الكبار الذين يقودون العمليات ويصدرون الأوامر. وأرى أن يركز الجيش الحر عملياته على عناصر الأمن والمخابرات، وعلى الشبيحة بشكل خاص، لا سيما وأن قدراته القتالية ما تزال محدودة بسبب قلة عناصره من جهة وقلة ما بيده من سلاح وذخيرة من جهة أخرى. ما أكثرَ ما تفرّحني أخبار استهداف تجمعات الشبيحة وقتلهم وتخليص الناس من شرهم وأذاهم، أتمنى لو أسمع كل يوم خبراً من هذا النوع بعد الإفطار مرة وبعد الغداء مرة وثالثة بعد العشاء... اللهم زِدْ وبارك.

(5) في مرحلة لاحقة وعندما تشتد قوة الوحدات العسكرية المنشقة وتمتلك أسلحة متوسطة سيكون من أولويات مهماتها التي أرجو أن تهتم بها مهاجمة مقرات ومراكز الأمن والشبيحة بصورة متكررة، فمن الضروري أن لا ينعم أولئك المجرمون بأية راحة وأن يفتقدوا الأمان، وسوف يساهم ضغطٌ متكرر من هذا النوع في تحطيم نفسياتهم وفي تشتيت قواهم، فضلاً عمّا يقع في صفوفهم من خسائر فترتاح الثورة من شرهم.

(6) من الأهداف المستقبلية المهمة التي أرجو أن تركز عليها كتائب الجيش الحر -بعد تحسن وضعها القتالي- استهداف مراكز الاعتقال، بدءاً بالأهون وهي المراكز المؤقتة، كالمدارس والملاعب والمستودعات، وانتهاء بالأصعب وهي المعتقلات والسجون وفروع المخابرات ومراكز الأمن. إن نجاح الجيش الحر في تحرير أي عدد من المعتقلين في أي مكان في سوريا سيرفع معنويات الثوار في كل أنحاء سوريا بشكل كبير، وسوف يزيد الضغط النفسي على مجرمي المخابرات والأمن بإذن الله.

(7) كلما ابتعد العسكريون المنشقون عن السكان المدنيين كان ذلك أسلمَ للمدنيين، لأن مجرمي النظام -من أمن وشبّيحة- ينتقمون عادة من الأحياء السكنية التي تنطلق منها أو تُنفَّذ فيها عمليات كتائب الجيش الحر. على سبيل المثال: إذا استهدفت كتائب الجيش الحر حافلةً للشبيحة فليكن ذلك على الطرق الخارجية أو على أبواب المدينة لا وسط أحيائها، ما كان ذلك ممكناً، وليكن الأصل أن تتخذ القوات المنشقة مواقعها خارج المناطق السكنية لا داخلها، في أطراف وضواحي المدن مثلاً وفي المزارع والجبال، على أن تحتاط فتزرع نقاط إنذار كافية حول مواقعها حتى لا تتكرر مأساة الهجوم الغادر على مخبأ الجيش الحر في الرستن.

*   *   *

أعلم أن الأفكار السابقة ليست قابلة للتطبيق كلها في الوقت الحالي لأن أعداد الجنود الأحرار ما تزال قليلة، ولكني أرى أن الانشقاقات لا تكاد تتوقف في أي يوم، لقد صارت نهجاً مطّرداً في كل القطعات العسكرية بحمد الله (وهو أمر توقعته حينما نشرت مقالة "الأنظار تتجه إلى الجيش" قبل مئة وأربعين يوماً)، وبالنتيجة لا بد أن تزداد الأعداد بحيث تصبح كافية لتوجيه حرب عصابات فاعلة ومؤثرة ضد عصابات النظام من أمن وشبيحة في كل أنحاء سوريا بإذن الله تعالى. إن المهمة الملقاة على عاتق قيادات الجيش الحر كبيرة جداً، وبمقدار ما يتقنون عملهم ويحسنون استغلال الفرص والتواصل الناجح مع عناصر الجيش المتمردة والمنشقة سيصلون إلى هدفهم بوقت أقصر وبتضحيات أقل، وهم محترفون يعلمون ما يصنعون، فلندعُ لهم بالتوفيق ونسأل الله لهم النجاح والثبات.