أفكار في الحوار بين الأديان
م. باسل قس نصر الله
يقول البابا يوحنا بولس الثاني في خطابه في الجامع الأموي الكبير بدمشق عام 2001 : " الحوار بين الأديان يؤدي لا محالة إلى أنواع شتى من العمل المشترك، خاصة في القيام بواجب الانتباه إلى الفقير والضعيف . هذه هي علامة صدق عبادتنا لله "
ويقول النبي محمد (ص) : " لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولن تؤمنوا حتى تحابوا ، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم " وعملية إفشاء السلام لن تكون دون حوار فعلي ينطلق من الاحترام والإصغاء وقبول الآخر، ومهما كان هذا الآخر ، فلقد علمتنا الأديان أنه لا يوجد أي شخص يرتفع عن الحوار مهما كان موقعه. وان كل موضوع ، هو قابل للحوار أيا كانت وجهته .
ليس القصد في الحوار أن تتكلم أنت فقط ، ولكن القصد والمطلوب أن تصبر على كلام الآخر الذي لا شك أنه يريد أن ينقل لك شيئا ما ، كما أنه لن يكون هناك حوار حقيقي ما لم يقتنع كل منا بأن عليه أن يتعلم شيئا ما من الآخر ، وقول الإمام الشافعي رحمه الله " رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب ومن جاءنا بأفضل منه قبلناه " هو دليل على ذلك ، كما أنه لا بد للحوار من وسط هادئ ومناخ يعيش فيه ، كي يكون منتجا بدل أن يكون استهلاكيا عقيما . وكي يتوفر هذا الوسط الهادئ لا مناص من توفر عناصر الحوار . . . الجاد . . . المثمر ، الذي يفترض ثلاثة عناصر متبادلة بين أطرافه ، لا غنى عنها ولا يمكن له القيام من دونها وهي : الاحترام والإصغاء وقبول الاختلاف ، . . . . . . وأضيف إلى ذلك أيضا أنه لا مناص لكل من طرفي الحوار من التعرف على الفكرة التي ينطلقان منها إثباتا لها أو نفيا ، لأن لغة الخطاب المشتركة وحدها يمكن أن تيسر للطرفين سبل التفاهم ، كما أن الجهل بها وبتفاصيلها يقلب الحوار إلى ضرب من أساليب الشتائم والمهاترات التي يغطي كل منهما بها ضعفه وعجزه عن الوقوف الثابت دون نده ، فأن نتعارف هو بعض من أن نتحاب . أليست هذه هي الأسس التي تعلمناها من خلال الكتب السماوية جميعها وأستعين بآيات كريمة من القرآن الكريم الذي استعمل كلمة الحوار في ثلاثة مواضع "فقال لصاحبِهِ وهوَ يحاوِرُهُ أنا اكثرُ مِنكَ مالا واعزُ نَفَراً"(الكهف:34) - "قالَ لَهُ صاحِبُهُ وهوَ يحاوِرُهُ أَكَفَرتَ بالذي خَلَقَكَ من تُرابٍ ثُمَ مِن نُطفَةٍ ثُمَ سَواكَ رَجُلا"(الكهف : 37) . . . "قد سَمِعَ اللهُ قَولَ التي تُجَادِلُكَ في زَوجِها وتَشتَكي إلى اللهِ واللهُ يَسمَعُ تَحَاوُرَكما إنَ اللهَ سَميعٌ بَصيرٌ"(المجادلة : 1) ، كما أن الله أرسل الأنبياء عليهم السلام ، ليعلموا الإنسان طبيعة الكلمة ودورها ، " لأنهُ في البدءِ كانَ الكلمة " ، وكيف تأخذ هذه الكلمة وتعطي ، ولتعلم الإنسان عبرها كيف يناقش ويحاور ، كيف يحل مشكلاته ، كيف يستثمر بها خلافه مع الآخرين ، بل كيف ينفذ بها في نفوس الآخرين ، وكيف يحصد صداها الإيجابي فيما بعد .
كانت هنالك عبر حقب التاريخ صور متعددة للحوار الذي كان نزقا صاخبا حتى بلغ حدود الضرب والقتل فتحمله الأنبياء صبرا وعلما وتوعية ، ومنه ما كان هادئا رقراقا، كما أنه من العبث الكلام على أي حوار ما لم تتوفر الشروط التي تجعله ممكنا : فليس هناك حوار حقيقي بين السيد والعبد لأن الحوار فعل حر لا يمكن فرضه على أحد ، بل يمكن الدعوة إليه ، ولا بين المجوَع وذلك الذي يرمي إلى التمسك بسلطة تجويعه ، كما أنه إذا كان الحوار الآن هو حوار الضعيف ليقوى ، أو حوار القوي من أجل أن يستولي ويستعلي ، فهذه أيضا قضية مرفوضة ، إن الحوار يجب أن يكون بين من يملكون رصيدا شعبيا منظما ، وقاعدة فكرية معترفا بها . لا أن يكون فقط للذين يملكون الفكر ولا رصيد لهم على الأرض . ويجب أن يكون الهدف من الحوار (بين الأديان) هو إزالة الالتباسات والأفكار الخاطئة لدى كل الأطراف حول عقائدها تجاه الأطراف الأخرى ، وذلك بغية التوصل إلى تعايش اخوي واحترام متبادل ، ومن خلال فهم صحيح للعقائد. وبعيدا عن كل الاختلافات ، فان " الإنسان العارف لذاته يتعرف على نفسه مرة أخرى في الآخرين المشاركين له في الإنسانية . وهذا أمر يجعله قادرا على التعاون معهم والفهم الحقيقي لهم والتسامح معهم " (محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف المصري الأسبق) .
لم تأت الأديان لتلغي الرسالات السماوية التي سبقتها ، بل على العكس أتت تحمل نفس الأفكار والقيم ، فجميع الأديان تدعو إلى الاخوة والحب والتعاون والرحمة والسلام والحياة البناءة . ولم يكن الحوار هو التفتيش عن أية حقيقة بكاملها في أي دين كان بقدر ما هو الانفتاح لقبول حقيقة الآخرين ، ولأن الأنبياء كلهم سفراء الله ، وقد تخرجوا من مدرسة واحدة ، الغاية منها أن توجد الإنسان الرحيم ، الذي يؤثِرُ غيره على نفسه ، ومن هذا المنطلق يكون الحوار بين الأديان هو حوار شهادة وليس حوار دفاع أو حوار إقناع ، يشهد كل من المتحاورين لعقائد إيمانه وأخلاق ديانته ، ولما عاشته جماعته المؤمنة ، في تاريخها الطويل عبر القرون ، من مآثر وفضائل وأعمال خير وصلاح ، " ولكل وجهة هوَ موليها ، فاستبقوا الخيرات ، أينَ ما تكونوا يأتِ بكم الله جميعاً ، إن اللهَ على كلِ شيءٍ قدير "
إن على مفكري العالم الذين يطالبون بالحوار في ما بينهم وبين الديانات الأخرى ، أن يسلطوا الضوء أكثر على المعوقين التاريخي والعصري ، والأمثلة آخذها من بلادنا ، فالعربي المسيحي مثلا يشعر انه مهدد بالصحوة الإسلامية المتشددة ، مهدد نفسيا أو مهدد في حريته في المستقبل ، من إقامة الحدود عليه . قد يحصل هذا وقد لا يحصل . ولكن هذا هو الوضع السيكولوجي الذي يجعل المسيحي مثلا على شيء من الشك في الحوار ، وهو معوق يجب الانتباه له . إضافة إلى أن المسيحيين العرب سيشعرون بتهميش إذا انحصر الحوار المسيحي الإسلامي بالتلاقي بين المسلمين وأهل الغرب فقط ، لأن أنظار المسلمين عادة تتجه إلى مسيحيي الغرب فيما إذا أرادوا مخاطبة المسيحية ، حيث أن أهل الغرب يملكون القرار السياسي وعندهم الثروة التي تستثمر ثروات الشعوب المستضعفة . وهنا يجب الانتباه إلى أن الحوار لا يكتمل ما لم يجر مع مسيحيي الشرق الذين ذاقوا القهر إلى جانب المسلمين .
لأننا نستطيع أن نؤكد أن تحالف المؤمنين ، وبخاصة من اتباع الدينين الإسلامي والمسيحي وخاصة أولئك الذين يعيشون في مجتمعات مختلطة كالشرق مثلا ، إن استمرت وتيرة اللقاءات والحوارات بينهما في تصاعد، ونجحت في إزالة الرواسب القديمة القائمة على تصورات خاطئة ، فان هذا التحالف الإسلامي المسيحي يمكن أن يصبح خطرا حقيقيا على التحالفات المادية (الوثنية الجديدة) ، التي تهدف إلى السيطرة على العالم ، لإخضاعه لثقافتها وقيمها وهي قيم بعيدة عن روح الأديان وعن مثلها الأخلاقية ، وهو ما نراه يحدث في العالم .
إنني أعتبر الأديان بمثابة دعوة إلى جميع الأطراف المعنيين ليتحاوروا كشركاء بالغين ، واعين مسؤولياتهم ، متساوين في الحقوق ، ويتعاونوا تعاونا مثمرا في سبيل النهوض بواجباتهم المشتركة تجاه تحقيق العدل والسلام في العالم . لقد عرفت المجتمعات كافة أنظمة اجتماعية في البر والخير تنبعث من مفهوم الرحمة لتحقيق مجتمع التكافل والتراحم والعدل ، وقد منعت هذه المجتمعات أن يُظلم إنسان بسبب لونه أو جنسه أو دينه ، ونادت باحترام كل أديان السماء ، و أُمر اتباعها أن لا ينحرفوا عن أصولها ، ولقد بين ذلك رسول النبي(ص) إلى المقوقس حاكم مصر آنذاك عندما قال له : (نحن لا ننهاك عن النصرانية ، بل نأمرك باتباعها) .
يحضرني قول سماحة الشيخ الطنطاوي في ندوة المجلس القومي للكنائس في نيويورك في كانون الأول عام 1994 " إن قادة المسلمين والمسيحيين يجب أن يتعاونوا على تحقيق السلام والعدل والتعاون . . . نحن نعرف أن النفس الإنسانية فيها الأنانية والظلم . والأديان هي التي تحمي البشرية من هذه الغرائز والرذائل " .
مهما ثارت الأجواء من حولنا - فيما يتهمنا به الآخرون ، فسيبقى الحوار منهجا ينطلق به الفكر المنفتح والصدر الرحب ، والتفكير الموضوعي - والموقف الواقعي ، لأن الكثير من الضيقة التي نحن عالقون بها ، كان يمكن التحاشي عنه لو اخترق النور الروحي إلى عمق العلاقات بين البشر ، لو حل الحوار والتفاهم المتبادل محل النزاعات والميل إلى المجابهة ، لو قابل الناس بعضهم بعضا بقلب كبير ولطف ، لو انصرف الناس عن الجشع والمساءاة والغلاظة ولم يغذوها دوما من جديد .
إن النقص في الثقة وحده يمنع من إقامة تواصل حقيقي مبني على الحوار ويتصف بالإخلاص والنزاهة ، . . . والنقص في الانفتاح يمنع من المعرفة الحقة التي تتطلبها الشهادة للحقيقة التي نحملها ، ويدع الشخص رهينة للأحكام المسبقة بمختلف أنواعها ، ولا ينجم عن نقص الثقة والانفتاح سوى الانغلاق المتزايد والتصرفات المبنية على الضعف ، وبالمقابل لا بد من العمل على رصد وتوثيق التمازج الإيجابية للحوار والتعاون بين الجماعات الدينية في الماضي والحاضر في شتى أنحاء العالم ، والعمل على تحليلها وتقييمها والتعريف بها وبكل المبادرات الناجحة التي تساهم بشكل أو بآخر في تعزيز قيم الحوار في أوساط المؤمنين العاديين .
اللهم اشهد اني بلغت