الدم الفلسطيني المنسي
فهمي هويدي
حين قتل الإسرائيليون 11 فلسطينياً يوم الخميس الماضي، بحثتُ عن الخبر في ستِ صُحف مصرية صدرت صبيحة اليوم التالي (الجمعة 8/26)، ولاحظت أن صحيفتين فقط ذكرتا الخبر على إحدى الصفحات الداخلية، في حين لم تُشر إليه الصُحف الأربع الأخرى..!! إذ كان تركيزها منصباً على تطورات الموقف في ليبيا والقمع الحاصل في سوريا، إضافة إلى اللغط والتراشق بين الجماعات السياسية في مصر.
لم أُفاجأ بمسـتوى التعامل الإعلامي مع الشـأن الفلسـطيني والعدوان الإسـرائيلي؛ ذلك أن قتل الفلسـطينيين أصبح خبراً عادياً ليـس في مصر وحدها، وإنما في العالم العربي أيضاً...!!! كأنما اقتنع الجميع بأن الفلسـطيني كائن خُلق لكي يُقتل، وأن الخبر الحقيقي، الذي يسـتحق التسـجيل، ويُثير الانتباه هو أن يبقى الفلسـطيني حيَّا...!!!
وهذا الانطباع جعل مشهد الجنازات في الشوارع وكأنه جزء طبيعي من انتظام حركة السير يتدفقه على مدى النهار. وليس ذلك أمراً مستغرباً تماماً.
فمنذ اختلت الأولويات في العالم العربي، وخرجت مصر من المعادلـة بمعاهدة «السـلام» انكفأ الجميع على ذواتهم، ولم تعد فلسـطين قضيـة العرب الأولى ولا المركزيـة بطبيعـة الحال، وبصورة تدريجيـة تراجع الخبر الفلسـطيني، وظل ينسـحب إلى الصفحات الداخليـة،
وفي بعض الأحيان يغيب تماماً عن الواجهـة حتى يكاد يغرق في بحر النسـيان.
أدري أن «الربيع العربي» شغل الجميع، وأن أحداثه وأصداءه المثيرة صرفت الانتباه عن كل ما عداه. وكما مرَّ انفصال جنوب السودان عن شماله، ولم يُحرك شيئاً في العالم العربي، وكما استمر مسلسل تآكل العراق وتقطيع أوصاله تحت أعين الجميع، وكما وقف العرب يتفرجون على المجاعة في الصومال تماماً،
الأدهى من ذلك والأمر أن السلطة الفلسطينية في رام الله لم تعد تتحدث حتى عن استعادة الأرض، التي تم احتلالها في عام 1967، التي تشمل كامل الضفة العربية وغزة، وإنما باتت «تناضل» لتُقيم دولة فلسطينية، وترفع علمها على 20٪ من أرض فلسطين تشمل المنطقة «أ» فقط من الضفة، في مشروع الاستقلال، الذي تنتوي تقديمه إلى الأمم المتحدة في الشهر المقبل...!!!
قلت إن التراجع في الاهتمام بالقضيـة بدأ بخروج مصر من المعادلـة منذ وقعت المعاهدة المشـؤمـة في عام 1979، مما أدى إلى إضعاف الصف العربي والفلسـطيني ضمناً، الأمر الذي أدخل الجميع في نفق المسـاومة على القضيـة وشـجع الإسـرائيليين على الاسـتعلاء والتغول والسـعي الحثيث إلى تصفيتها وإغلاق ملفها إلى الأبد!
وبلغت المأساة إحدى ذُراها العالية حين اجتاحت (إسرائيل) غزة في ظل صمت مصري مدهش ومريب، ثم حين اشتركت مصر في حصار غزة على النحو المفجع والمخزي الذي يعرفه الجميع! كما رأيت في النموذج الذي أشرت إليه فإن الغيبوبة أصابت الإعلام العربي أيضاً، والنُخب بوجه أخص، التي اختلت لديها الأولويات بدورها، ولم تُعطِ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي حقها من المتابعة، التنبيه ليس فقط إلى ما تُمثله من خطر يُمهد لتصفية القضية وسحق الفلسطينيين،
ولكن أيضاً إلى ما تُمثله تلك الممارسات من تهديد للأمن القومي المصري وللأمن والسلم في المنطقة بأسرها.
إزاء ذلك، يبدو أن مراهنتنا ينبغي أن تظل قائمة على وعي الشعوب وصوت الشارع في مصر بوجه أخص، ذلك أن الغضب العارم، الذي اجتاح الشارع المصري في الأسبوع الماضي بعد قتل الإسرائيليين للجنود المصريين جاء كاشـفاً عن عمق المشـاعر الرافضـة للممارسـات الإسـرائيليـة، وهي
المشاعر التي حاول بعض الشباب المصريين التعبير عنها في ذكرى النكبة (مايو الماضي)، حين اتجهت جماعات منهم صوب مقر السفارة الإسرائيلية بعد نجاح الثورة مطالبة بإغلاقها وطرد السفير الإسرائيلي.
إن الإيجابيـة الوحيدة للغارات التي شـنتها (إسـرائيل) على غزة أنها ذكرتنا بأن الربيع العربي سـيظل منقوصاً ما دام الاحتلال مسـتمراً لفلسـطين وما دام دم الفلسـطينيين ينزف في شـوارع غزة وأزقتها...!!!
كما ذكرتنا بأن الخطر الذي يُهدد الوطن العربي ليـس الاسـتبداد وحده، وإنما الاحتلال أيضاً.
كما وقفوا متفرجين على حصار غزة، فإن الانقضاض الإسـرائيلي على الفلسـطينيين اسـتمر واشـتد مسـتثمراً حالة الذهول والغيبوبـة المخيمـة على العالم العربي..!!