نحو إعلان مجلس وطني سوري.. القصة الكاملة
نحو إعلان مجلس وطني سوري..
القصة الكاملة
وائل مرزا
ثمة ممارسات وأعمال يلخص العرب رؤيتهم لها بقولهم إنها تدخل في نطاق (السهل الممتنع). وهذه هي تحديدا الصفة التي يمكن أن تطلق على الجهود التي بدأت منذ أسابيع لرسم خارطة إنشاء المجلس الوطني السوري.
انبثقت الفكرة تدريجيا بعد حوارات قام بها ثلة ممن شاركوا في الحراك السوري بمختلف ألوانه. استعرض هؤلاء التجارب السابقة التي هدفت لتجميع المعارضة، خاصة عن طريق المؤتمرات. استفادوا من تجربتها، وأدركوا أنها كانت مدخلا ممتازا لتعارف أطياف تلك المعارضة التي شتتها النظام على مدى عقود، لكنها لم تكن الآلية التي تضمن خروج مجلس وطني يقوم بالمسؤوليات الكبيرة والدقيقة والحساسة التي يجب أن يقوم بها في المرحلة القادمة، بدليل أن هذا الهدف لم يتحقق عمليا نتيجة تلك النشاطات.
ضمت المجموعة خبراء من مختلف الأطياف والخلفيات، وقد ميزها وسهل عملها أنها كانت تضم شريحة مقدرة من المستقلين. كان واضحا في الأذهان أن العمل يجب أن يزاوج بمهارة بين الواقعية والمثالية، وأنه لا بد من الانطلاق من صورة الواقع السوري كما هي عليه الآن في محاولة للوصول إلى صورة سورية المستقبل.
من هنا، وبما أن المجلس سيكون في نهاية المطاف مكونا من الأفراد، فقد رسمت خارطة أولى ضمت تقريبا جميع أسماء الفاعلين في الحراك السوري بعيدا عن النظر إلى أي خلفية إيديولوجية أو مناطقية أو غيرها. بعد هذا، انتقل العمل إلى مرحلة تالية رسمت فيها خرائط تتعلق بقضايا التمثيل، فظهرت واحدة تتعلق بالتمثيل المناطقي اعتمدت على الإحصاء السكاني الأخير في سوريا، وأخرى تتعلق بالحركات والتيارات والأحزاب والهيئات والتجمعات الفاعلة، وثالثة تتعلق بالنشاطات والمبادرات واللقاءات والمؤتمرات، ورابعة تتعلق بالتنوع المذهبي والقومي الذي يشكل نسيج المجتمع السوري، وأخذ بعين الاعتبار أيضا التوازن في وجود الرجل والمرأة، وفي الحضور الشبابي الفاعل والكثيف.
وفي المرحلة الثالثة تم البحث في تقاطعات الخرائط المذكورة لاقتراح وترشيح الأسماء، ولكن مع إضافة معيار الكفاءة. لم يكن هذا المعيار عشوائيا بطبيعة الحال، وإنما كانت عناصره عديدة منها وجود تاريخ في العمل العام، وامتلاك درجة من الخبرة والتخصص في أي مجال من المجالات التي سيعمل فيها المجلس، والقدرة على الحركة والمتابعة والتواصل والسفر، والأهلية القانونية المعروفة، وغيرها من العناصر الموضوعية الأخرى.
وبما أن جهات عديدة أصدرت خلال الأشهر الماضية مواثيق تحدد ثوابت الثورة السورية من جهة، والمنطلقات الرئيسة لملامح سوريا المستقبل من جهة أخرى، فقد تمت دراسة تلك المواثيق بأسرها، وجرى الخروج من الدراسة بوثيقة توافق وطني تحدد المشتركات الأساسية المتعلقة بتلك الثوابت والمنطلقات. فتم التأكيد من جهة على أن الثورة تهدف لإسقاط النظام، وعلى أنها سلمية، وأن مفصلها الرئيس يتمثل في الوحدة الوطنية ونبذ أي دعوة للطائفية أو المذهبية أو احتكار الثورة، وعلى رفض التدخل العسكري الأجنبي.
أما بالنسبة لملامح سوريا المستقبل فقد أكدت الوثيقة على أن سوريا دولة مدنية حديثة يضمن دستورها الجديد الحقوق المتساوية للمواطنين والتداول السلمي للسلطة واستقلال القضاء وسيادة القانون واحترام الحقوق السياسية والثقافية والدينية والشخصية وحرية الإعلام لكافة مكونات المجتمع السوري في إطار الوحدة الكاملة للوطن وترابه. وعلى أن سوريا دولة ذات نظام ديمقراطي يقوم على مبدأ فصل السلطات والتعددية السياسية، وعلى أن السوريين شعب واحد، أفراده متساوون في الحقوق والواجبات، لا ينال أحد -رجلا كان أو امرأة- منهم امتيازا أو ينتقص من حقوقه بسبب أصوله الدينية أو المذهبية أو القومية. وأن تنال كل المكونات القومية والدينية التي يتشكل منها الشعب السوري حقوقها في سوريا المستقبل على أساس المواطنة من دون أي تمييز، وأن لكل منها حقوقا وواجبات على قدم المساواة مع الجميع، مع الاعتراف الدستوري بالهوية القومية الكردية، وضرورة إيجاد حل ديمقراطي عادل للمسألة الكردية في إطار وحدة الوطن.
إضافة إلى هذا، أكد الميثاق على أن القانون فوق الجميع، وأن المحاسبة مبدأ شامل لا استثناء فيه، وعلى عدم تسييس المؤسسة العسكرية التي تتمثل مهمتها في الدفاع عن تراب الوطن وحماية حدوده ضد الاعتداء الخارجي وتخضع دستوريا لسلطة النظام السياسي الديمقراطي بسلطاته الثلاث، وعلى تقوية دور المجتمع المدني ومؤسساته للمساهمة في ترسيخ مفاهيم المواطنة والمشاركة في عملية التنمية، وعلى السعي المستمر لتحقيق العدالة في توزيع الثروة الوطنية، بحيث تكون الموارد الوطنية ملكا للسوريين جميعا في إطار حكم رشيد، وتوجيه ثمار التنمية نحو رفع مقدرات ومستوى حياة جميع شرائحهم ومناطقهم وفي مقدمتها الأكثر حرمانا.
وأكدت خاتمة الميثاق بعد ذلك على أن سوريا المستقبل دولة حرة مستقلة الإرادة تحافظ على سيادتها الوطنية، وملتزمة باتفاقياتها الدولية على أساس المصالح الوطنية العليا، وعلى أن العلاقات الخارجية مبنية على مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل مع المجتمع الدولي.
وتم التواصل من خلال الجهد السابق بجميع مكوناته مع مختلف أطياف الحراك السوري، وعرضت عليها تفاصيله ونتائجه على أنها مسودات أولية تحتمل التعديل مع الحوار والمدارسة. بل سميت الشريحة التي عملت عليه بـ (مجموعة عمل مفتوحة)، بمعنى أنها كانت تطلب ممن يتم التواصل معهم الانضمام إلى متابعة الجهد بكل شفافية ووضوح.
وتوسعت دائرة الحوار بشكل كبير، واتسعت معها مساحات الالتقاء والتوافق، فتم الإعلان عن الجهد المذكور الثلاثاء الماضي في مؤتمر صحافي موسع بعنوان «نحو إعلان مجلس وطني سوري». ليتم تشكيل لجنة تحضيرية تتابع عملية الحوار والمشاورات وصولا إلى صورتها النهائية، ويتم انعقاد المجلس بشكل فعلي في أقرب وقت ممكن.
ثار شيء من اللغط والضجيج حول الإعلان المذكور، وتداخلت للأسف عند قلة من الأفراد الأجندة الشخصية بالأجندة الوطنية. لكن الحوار لا يزال مستمرا بين من يضعون بكل جدية مصلحة الوطن والثورة فوق المصالح الشخصية، وبين من يدركون معنى المسؤولية الكامنة في ظهور هذا المجلس، وفي ضرورة تأمين القدرة على القيام بمهامه الثقيلة.
بيد أن ما يهمنا جميعا في نهاية المطاف هو رأي المواطن السوري في هذا الجهد. وبما أن العمل الأساسي تم بعيدا عن الإعلام، فسيكون مفهوما أن غياب تفاصيله أثار شيئا من الضبابية والتشويش.
من هنا، وبعد العرض المذكور أعلاه، يتمنى المرء من كل سوري يشغله هم بلاده وثورته أن يقرأ الكلام مرة واثنتين، وأن يسأل نفسه ما إذا كان يعبر حقا عن ضمير الثورة وثوابتها وطموحاتها. ليتجاوز بعد ذلك كل الصغائر، ويسهم في تشكيل رأي عام يدفع في اتجاه تشكيل المجلس، عسى أن يكون نقلة نوعية ومؤسسية كبرى باتت مطلوبة للحركة بشكل علمي منهجي يليق بملامح سوريا الجديدة التي نتطلع إليها جميعا.
نشرت في صحيفة العرب القطرية