فلسطين في الثورات العربية

صلاح رشاد

كانت قضية فلسطين هي القضية المركزية الكبرى التي استحوذت على الفكر والضمير العربي لعقود طويلة. وكان مدار النقد الذاتي الذي كنا نسمعه دائماً يدور حول تخاذل العرب وحكامهم وفشلهم في تحرير فلسطين أو نصرة الأقصى والأراضي المحتلة التي كان العدو الصهيوني ومازال يستبيحها ويُعمل فيها هدماً وتنكيلاً وحصاراً.

وفي زمن الثورات العربية المشتعلة في بلاد عربية عديدة والتي تنادي بالكرامة والحرية والديمقراطية, كان من الملاحظ بشكل لافت غياب كامل لذكر هذه القضية التي كانت ومازالت تبعث في نفس كل عربي أبي شعوراً بالمسؤولية ومرارة العجز والتقصير. بل كان هناك (تطمينات) تصدر من هنا وهناك تقول بأن البلد الفلاني هو المهم, وأن التحرر أولاً من الطغيان والاستبداد المحلي هو الأولى والأهم, ولن يكون هناك مهمة الآن غير هذه المهمة أمام الثوار حتى تحقيق أهداف الثورة.

لم نرَ علماً لفلسطين يُرفع في أي ثورة من الثورات, رغم أن بعض الثورات نبذت علم الوطن ورفعت بدلاً منه علماً آخر كرمز لقطيعة كاملة مع النظام المستبد, حيث ربط (شباب الثورة) بين علم الوطن وهذا النظام, وبالطبع فإن هذا الربط ناتج عن جهل بالتاريخ وهو ما يميز الثورات العربية التي قام بها شباب ثائر غير مؤدلج, نال نصيباً كبيراً من التمجيد على لسان (مثقفين كثر) مدحوا الجهل بحجة الفطرية, وانهالوا على الأديولوجيا بالسب والشتم والتسخيف متناسين كل ما خزنته هذه الأديويولوجيات (المهترئة حسب وصفهم) في لاوعي هذا الشباب الثائر, الذي نحن بحاجة ماسة لدراسات جادة تدرس ملامح ثورته هذه وجذورها ومستقبلها بعيداً عن التطبيل الانفعالي المتجاهل لأبسط قواعد التحليل والدرس.

إن كثيراً من العرب المتابعين المؤيدين لثورة مصر على سبيل المثال, كان من أهم أسباب تأيديهم لهذه الثورة هي اعتراضهم على سياسة مبارك الخارجية المتعاونة مع الصهاينة, المتخاذلة أمام نصرة الفلسطينين, بل المضيّقة عليهم, حيث فرض حصاراً كبيراً على غزة كان سيتوّجه ببناء جدار عازل يضع فلسطيني غزة في سجن كبير يصعب اختراقه. ولكن المفاجأة التي يمكن أن يشعر بها هؤلاء المناصرون لهذه الثورة هي أن سياسة مبارك الخارجية لم تكن هي المحرك المهم لهذه الثورة, فالمطالب الثورية ركزت على الكرامة والحرية والديمقراطية ومحاربة الفساد والفقر الذي أرسته سياسة مبارك الداخلية, ولعل من الممكن أن نقول إن سياسة مبارك الخارجية لم تكن تجد تلك المعارضة القوية من المصريين, وهذا لا يعني موافقتهم على تلك السياسة, (رغم وجود موافقين بشدة لها بينهم), ولكنها لم تكن هي الباعث على نقمة الثوار المصريين على مبارك. وكذلك كان الحال في تونس, وفي اليمن وليبيا, حيث لم تأخذ القضية الفلسطينية حقها في الظهور كباعث مهم لتلك الثورات, رغم أنها كانت القضية الأبرز للنقمة العربية خلال سنوات طويلة.

أما في سوريا, فالنظام الذي حمل سمة الممانعة والمقاومة ونصرة الفلسطينيين وتأييد مطالبهم, حتى اكتسب سمعة عربية تُظهر وقوفه مع حق الشعب الفلسطيني, رغم أنه لم يدخل في حرب مع إسرائيل منذ عقود, ولكنه بنفس الوقت لم يتعامل مع الصهاينة, وعامل الفلسطينيين على أرضه معاملة السوريين تماماً.

هذا النظام جعل من قضية المقاومة والممانعة ورقته الأهم, وراح يكيل التهم للثوار على أنهم منفذون لمؤامرة خارجية تستهدف مواقفه الوطنية والقومية المناصرة لقضية فلسطين وللمقاومة الشريفة.

وكان موقف الفلسطينيين المقيمين في سوريا من الأحداث حيادياً لدرجة كبيرة, فلم يشتركوا في الثورة, ولم يقفوا ضد أي فريق, لا ضد النظام, ولا ضد الثورة, رغم أنه ظهرت أكثر من مرة محاولات لزجهم في الأحداث واتهامهم بأعمال موالية أو معارضة, ليس أولها ولا آخرها أحداث المخيم في ذكرى النكسة.

بالطبع لا يمكن لوم الفلسطينيين في سوريا على موقفهم هذا, بل إنه من الحكمة أن يكون هذا موقفهم, ولكن المؤلم أن نرى ونسمع أنهم حتى بالرغم من موقفهم هذا ملامون, ومهددون بأنهم سيدفعون ثمن موقفهم هذا بعد أن تنجلي الأمور, سواء لصالح النظام أم لصالح الثوار.

النقطة التي أريد التأكيد عليها, والتي تغيب عن بال كثيرين هي أن الفلسطينيين في سوريا هم جزء من مكونات المجتمع السوري, وليسوا منفصلين عن هذا المجتمع, فكما يؤكد الجميع على أن المجتمع السوري مكون من أطياف عدة, فالكرد والآشور والأرمن والعلويون والدروز والسنة والمسيحيون وغيرهم هم مكونات أساسية للمجتمع السوري لا يمكن التفريط بأي منها أو استبعادها أو إقصاؤها, فكذلك الفلسطينيون هم أيضاً من مكونات المجتمع السوري, وليسوا لاجئين مؤقتين في هذا البلد, هم موجودون في هذه الأرض التي هي جزء من أرضهم, ولا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل التاريخ والجغرافية تحت ضغط مسميات استعمارية, أنست الفلسطينيين أنفسهم أنهم جزء من هذا المجتمع وليسوا ضيوفاً عليه.

كم من العائلات السورية كان لها أراض في فلسطين؟ وكم من العائلات السورية والفلسطينية تشترك بالنسب والأصل العائلي؟ هل يمكن أن نتجاهل كل هذا لمجرد أن سايكس بيكو قسم البلاد وأعطى لكل قطعة اسماً فصارت هذه سوريا وتلك فلسطين؟

ثم إذا أردنا الإنصاف أكثر هل يمكننا أن نتساءل بماذا يختلف أهلنا الذين نزحوا من الجولان المحتل عن أهلنا الذين نزحوا من فلسطين؟ أليسوا سواء؟ أم أن ترسيخ التقسيم الذي أرسته الجنسية كفيل بالتفريق بين مصيبة نزوح ومصيبة أخرى؟

إن الثورة السورية التي تصر على الوحدة الوطنية يجب أن تضع نصب عينها أن الفلسطينيين المقيمين في سوريا منذ عقود طويلة هم جزء أساسي من المجتمع السوري, ويجب على الفلسطينيين أنفسهم أن يعوا هذه الحقيقة, التي يؤكدها التاريخ, والجغرافية, والواقع, وحتى العرف.

وكما أن النظام يستخدم ممانعته ووقوفه مع القضية الفلسطينية شماعة لتخوين الثورة, فعلى الثوار التأكيد على أن القضية الفلسطينية هي قضية أساسية لا يمكن التخلي عنها أو تجاهلها كما فعلت الثورات الأخرى, فإن كان لتلك الثورات مبرراتها (سواء قبلناها أم لا) فإن الوضع بالنسبة للثورة السورية مختلف تماماً, وعلى هذا يجب أن يكون لفلسطين والقضية الفلسطينية نصيب كبير من تلك الشعارات التي تطلقها هذه الثورة حتى تظهر ملامحها الحقيقية العادلة.