شاوروهم وخالفوهم
صلاح حميدة
كان كبار السّن في القرن الماضي يقولون لأبنائهم عند الزّواج :- " شاوروهن وخالفوهن" وهذا الكلام يوجّه للشّاب حتّى يتعامل مع رأي زوجته بتهميش وازدراء وقلّة اهتمام، وإن منح للزّوجة حرّيّة إبداء الرّأي، فالأصل في هذه القاعدة يقتضي وضع رأيها خلف الظّهر.
تجتاح حمّى الحوار العالم العربي من المحيط إلى الخليج، تتحاور الأحزاب والحركات، والمعارضة والسّلطة الحاكمة، حتّى أصبحت كلمة الحوار عنواناً لنشرات الأخبار، يتناقش المحلّلون ويتجادلون حول ماهيّتها وأهمّيّتها، حول جدواها بدايتها ومنتهاها، حول من له الحق في المشاركة فيها ومن يحق له اختيار المتحاورين، بالاضافة إلى ماهيّة المواضيع التي سيتم الحوار بشأنها، والأهم من ذلك هل نتائج الحوار - صغرت أم كبرت- ملزمة لمن يمسكون بمقاليد السّلطة في البلاد التي تتمّ فيها الحوارات؟.
بنظرة تحليليّة لما يجري من حوارات في العالم العربي يمكن تصنيف طبيعة تلك الحوارات إلى عدّة محاور رئيسيّة، فهي تمتلك صفات مشتركة بينها لا يمكن إغفالها أو تجاوزها، فمشاكل العرب وطموحاتهم واحدة في عمومها، وهذا ما أثبتته حالة الحراك الشّعبي العربي التي تجتاح العالم العربي من المحيط إلى الخليج.
تعتبر ميّزة الحوار " تحت العصا" من أهمّ ميزات الحوار الّذي يجري على الأرض، فالطّرف الشّعبي الثّائر ضد الفساد والإستبداد، الثّائر ضد عملاء الإستعمار، الثائر ضدّ الطّائفيّة والمناطقيّة والعنصريّة، يحاور الطّرف الرّسمي في المعادلة وهو تحت سيف القتل والاعتقال والإهانة والملاحقة والتّشويه والمؤآمرات الدّاخليّة والخارجيّة، ولا تتورّع تلك الأطراف عن الاستمرار في قمعها وتضييقها قبل وأثناء وبعد الحوار، والهدف من ذلك هو تقزيم طموحات الحراك الجماهيري، وتفتيت وحدته، والالتفاف عليه وتحجيمه، والقضاء عليه في النّهاية، ولذلك يلحظ الضّغط الدّولي والإقليمي على ممثّلي الحراك الشّعبي والجمهور في الدّاخل والخارج ( اللاجىء) للحوار مع الأنظمة العربيّة المستبدّة تحت سقفها هي فقط، والهدف النّهائي من تلك الضّغوط هو إجهاض الثّورة العربية وإفراغها من مضمونها.
تحديد محاور الحوار يخضع لمتطلّبات وضوابط النّظام المستبد، فهو من يحدّدها ويدير النّقاش بشأنها، وإن سمح بمناقشة مواضيع أخرى يطالب بها الشّعب، فقد يتعرّض من يطرحها للضّرب على الهواء مباشرةً أو للإعتقال أو القتل، وفي النّهاية لا يتمّ الأخذ بها ولا احترام رغبات المطالبين بها أيّاً كانوا، ويتمّ التّعامل معها على قاعدة " شاوروهم وخالفوهم" فاللقاءات تسمّى ( لقاءات تشاوريّة) وهي مبنيّة على فكرة المشاورة، ولكنّها لا تتضمّن مبدأ ( الإلزام) فلا إلزاميّة لكل الحوارات الجاريّة، وبالتّالي لا قيمة لها البتّة، فهم يقررون ما يريدون، والمستبد يفعل ما يريد.
يعتبر تضييع الوقت وتمييع الحراك الشّعبي من أهم أهداف ما يطلق عليه الحوار بين المستبدّين وشعوبهم، فالرّئيس اليمني يحاور شعبه منذ شهور، والسّوري بدأ حواراً قد يستمر لسنوات، وهكذا دواليك، ولذلك يتم جعل الحوار على فترات متباعدة، ويتمّ ترحيل كل جزئيّة إلى الجلسة التي تليها، وتشكيل لجنة لكل قضيّة، واللجان تريد أن تتحاور وتتناقش، وقد تستمر في عملها لسنوات، وقد لا تعمل أبداً، وإن خرجت بقوانين ونتائج فقد لا يتمّ الأخذ بنتائجها وتوصياتها على الإطلاق، وهذا هو الثّابت الوحيد في تلك الحالة الغريبة.
يردّد القائمون على تلك الحوارات أنّ القائد هو الّذي سيقود الإصلاح، و ( يأملون ويتوقّعون) منه أن ينفّذ مقرّرات مؤتمرات الحوار، وبما أنّ المستبد والفاسد وأداة الاستعمار هو الّذي سيكون قائد ما ينتج عن الحوار، فلنا أن نتوقّع كيفية أو إمكانيّة تنفيذ تلك المقرّرات، فالواقع يقول أنّ تلك الأنظمة عاجزة وفاشلة عن تجديد ذاتها، وعن إصلاح مكوّناتها، وما يجري من جرائم وانتهاكات بحقّ المطالبين بالحرّيّة أكبر مثال على ذلك.
يلحظ أنّ كل تلك الحوارات تهدف لنتيجة مشتركة واحدة بين كل تلك الأنظمة، فهي تسعى لإحداث تغييرات شكليّة في أنظمتها - إن لزم الأمر- يقوم فيها وليّ الأمر أو الوليّ الفقيه أو الرّئيس أوالملك الّذي لا يخطىء أبداً، المجمع عليه، الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حاكم يفعل ما يريد، يسمح بانتخابات شكليّة بين الفرقاء، يحركهم كالدّمي بأصابعه وخيوطه، يضرب هذا بهذا، ويقرّب هذا ويبعد ذاك، ويبقى هو الملاذ لهم جميعاً، يختلفون بينهم ولا يختلفون عليه، يحكمهم ويسيّرهم ويقتلهم وينهب خيراتهم ويشكرونه آخر النّهار، فالبلاد والعباد لا تعيش إلا ببركته وتحت ظلّه، فهو الّذي ليس له مثيل، وغيابه يعني الضّياع.
تسير الحوارات كلّها لهدف واحد، وهو تهميش الإرادة الشّعبية والقضاء عليها، وهذا ثابت في عرف المستبدّين، فالمعارض الجيّد هو المعارض الميّت أو المسجون أو الملاحق، ولذلك يكون الهدف والمسار في تلك الحوارات العربيّة يصبّ في النّهاية في خانة القضاء المبرم على المخالف السّياسي، والتّربّع على العرش لأبد الآبدين.
الظّريف في حوارات بعض الأنظمة، أنّ النّظام يجلب جماعته ومحازبيه ومنافقيه ليتحاور معهم، ويصبح هؤلاء بين ليلة وضحاها معارضين للنّظام، وتصبح المعارضة الحقيقيّة خارج السّياق السّياسي والاجتماعي والوجودي طبقاً للرّؤية الإقصائيّة لتلك الأنظمة، ويخرجون بمقرّرات يقولون أنّها للتّنفيذ، وربّما ينظّمون انتخابات يتنافس فيها رجل النّظام مع رجال النّظام، ويفوز النّظام على نفسه، ويعلنون انتصار مسيرة التّغيير والانفتاح والدّيمقراطيّة!.
أحد أخطر سمات الحوارات العربيّة بين المستبدّين ومخالفيهم أنّها تتمّ وفق استراتيجيّة إسرائيليّة بامتياز، ولعلّ المستبدّين العرب قد تعلموا من عدوّهم شيئاً، فهم يحاورون مخالفيهم على طريقة التّفاوض الإسرائيليّة مع العرب، إستراتيجيّة تفتيتيّة مماطلة، تأخذ منك كل شيء ولا تعطيك أي شيء، ترهقك بالتّفاصيل والقضايا الجانبيّة، تقيّدك عن الفعل وتفعل هي كل ما تريد على الأرض، إستراتيجيّة نتفاوض ونتحاور حتّى تموت أو أميتك أنا. وفي هذا الصّدد يشير الدّكتور إيّاد السّراج المختص في السّلوك النّفسي في الصّراعات المسلحة:- " إنّ من يقعون تحت قهر وتسلّط قوى غاشمة، يصبحون مرضى نفسيين، ومن الواجب معالجتهم قبل ممارستهم لأي سلطة" ويضرب مثالاً على ذلك بما جرى لليهود في عصر النّازيّة، ويدلل على ذلك بحالة تقمّصهم للممارسات النّازيّة ضدّهم - حسب روايتهم- وبيّن كيفية تقليدهم أغلب ما قالوا انّ هتلر فعله بهم، وتبعاً لذلك يقول:- "ّ بعض العرب وقعوا في نفس الحالة المرضيّة التي يعيشها اليهود حاليّاً، وهم يقلّدون عدوّهم في ممارساتهم تجاه شعوبهم وإخوانهم في الوطن" ومن يراقب أفعال الأجهزة الأمنيّة العربيّة تجاه الشّعوب العربيّة والحركات المعارضة وتشابهها مع ما يفعله الاحتلال الاسرائيلي بالشّعب الفلسطيني، يرى العجب العجاب.
من الواضح أنّ الكثير من ممثّلي الحراك الشّعبي العربي يعرفون أحاييل الأنظمة المستبدّة ويرفضون التّعاطي معها، ولكن بعضهم سقط في فخاخ هؤلاء ولا يعرف كيف يخرج منها فهؤلاء يجب أن يواجهوا بمبادرات شعبية وعصيان مدني شامل وتطوير الحراك الشّعبي بطرق مبتكرة، واللجوء إلى الحسم مهما كانت التّضحيات، فسيف الزّمن لا يسير لصالح الحراك الشّعبي دائماً، لأنّ التّعاطي مع المبادرات الإقليميّة والدّولية لقبول الحوار مع هؤلاء يدخل الشّعوب في متاهة لا نهاية لها، ويفضي إلى إجهاض تحقيق الحلم العربي بالعيش بحرّية حقيقيّة، لا سمح الله.