المثقف المتلون كلاديس مطر

المثقف المتلون

كلاديس مطر

م. باسل قس نصر الله

ليست مشكلة المثقف وموقفه بمعزل عن مشكلة الثقافة العربية التي تقبع ضمن أسوار الانظمة السياسية والاقتصادية العربية التي تجد نفسها مسجونة ضمنها.

قد يقول قائل ان هناك انتشارا مهولا لظاهرة المثقفين الذين ليسوا سوى مجرد قنابل صوتية لا أكثر ولا أقل أو طبالين لفئة سلطوية أو كانتونات طائفية ينظرون من اجلها ولها ويروجون لسلفية ثقافية لا ريب فيها بينما عقولهم المتضخمة بسبب "الخبل الديني" اسدلت على ذاتها ستائر الاختلاف. وقد يفترض آخرون ان هناك "أنماطا" من المثقفين المتلونين الذين ينكرون مجريات الواقع ويأنفون من التأريخ وسرد فظائع تاريخنا العربي، او مثقفون برعوا في استرضاء "المعلمين" و تعلموا رياضة "القفز فوق الحواجز" فأتقنوا اكثر من لغة حتى تاهت لغتهم الخاصة في دهاليز التذبذب والبهلوانية الوجدانية البشعة، مسخرين لذلك كل جنس ادبي أمكنهم التطاول عليه، فهم تارة قوميون وتارة اخرى ليبراليون وتارة اخرى محافظون و" دقي يا مزيكا ". وهناك آخرون انكمشوا على أنفسهم مفضلين الصمت على البوح بما تكنه عقولهم من آراء مختلفة يعتقدون انه من العبث المجاهرة بها او دفع اي كان على قبولها وهم في صمتهم يحملون وجها متلونا وليس حياديا لانه يخجل عن الافصاح عن نفسه. وهناك ايضا من المثقفين من قرر ان يدفع الثمن مقتنعا ان لا تغيير من دون المغامرة بالكينونة كلها محاربا بلا هوادة كل "أسلمه للدولة وأفغنة للثقافة وطأفنة للمجتمع وقومنة للوطن" كما ورد في افتتاحية مجلة نثر الثقافية الفصلية العراقية في عددها الثاني والثالث. لكن كل هذه "الانواع" من المثقفين ومواقفهم ليست خاضعة لمجرد مزاج شخصي أو أزمة اخلاقية معينة، ونظرة لتعريف فحوى الثقافة ودورها تجعلنا نفهم اسباب هذا "الضياع الثقافي" لدى المثقف العربي.

1) اذا ما تتطلعنا حولنا نجد اننا كبشر نحيى في وسط يمتلىء بأشياء من صنع أيدينا حيث يكمن (تطور الانتاج) المادي في صلب تقدم الثقافة.

2) إن تبدل اساليب الانتاج يعني حكما وفي نفس الوقت تبدل في نوعية الثقافة. وهكذا فان كل تشكيلة اقتصادية – اجتماعية تحتوي على مستوى أو أفق معين من الثقافة بشقيها المادي والروحي.

3) ان انتقالنا من اطار ثقافي معين الى إطار آخر يلزم ايضا استخدام كل ما هو قيم وصحي في انجازات الماضي والا فان السير الى الامام محكوم بكثير من التعثر.

4) في المجتمعات الطبقية التناحرية، مثل اغلب المجتمعات العربية اليوم، تعكس الثقافة طابعا وتطورا تناحريا ايضا والمثقف هو على صورة طبيعة هذا التناحر القائم. فهذه المجتمعات من المستحيل ان يكون لها دورا في عملية تكوين الجسد الثقافي للأمة او ان يتمتع مواطنوها بثمار نشاطهم الثقافي. وبالتالي فان الطبقة الحاكمة المستغلة / السلطة تعمل على توظيف كل الانجازات الثقافية لكي تكون في خدمة مصالحها ومن بينها الكثير من المثقفين المتلونين الذين يصبحون اداة هذه السلطة في تسخير كل شيىء من اجل ربحها وكسبها او لنكون اكثر مباشرة فاقول: بهدف الغنى والمتعة الجمالية البحتة.

5) حين تغدو الثقافة طبقية في جوهرها، فان المجتمع تسوده حكما ايضا القواعد الاخلاقية والافكار التي تعبر حكرا عن هذه الطبقة وأداتها العديد من المثقفين الملونين الذين يدرجون انفسهم في باقة المتسلقين الآنيين المتعطشين هم ايضا للشهرة السريعة والربح ولو كان على حساب الموقف والمبدأ.

6) إن المثقف اللامتلون يدرك بما يملك من مقدرة على فهم ما اسلفت اعلاه، ان اختفاء الطبقية في المجتمع يجعل الشعب كله يمسك بيده عملية التطور الثقافي والتوعوي، وبالتالي تتوقف هذه الثقافة عن كونها "مغربة" عنه.

والانظمة العربية الشمولية تعيش هذه الصورة الثقافية المأساوية التي ذكرتها حيث يقع المثقفون في معظم الاحيان ضمن تصنيفات ثلاثة ربما لا رابع لها : مثقف السلطة ومثقف الزنزانة ومثقف المنفى. حيث مثقف السلطة يملك على الاغلب صفة المثقف المتلون طالما انه لا يناقش في اصلاح النظام او يعمل على شق الحجب التي تكرس سقف الحريات العامة. لكن الجرأة مع ذلك لا تنقص غيره من باقي المثقفين، كما نرى اليوم، وهكذا يتضح ايضا ان مشكلة الثقافة العربية المعاصرة بل ومشكلة المثقف نفسه انما تكمن تماما في هذه الهوة القائمة بين مثقفي السلطة، بل واغلب الشريحة الثقافية، وبين المجتمع ذاته الذي لم يصنع قيمه الثقافية ولم يشارك بها بسبب طبيعة النظام السياسي والاقتصادي كما ذكرت.

ولقد كان هذا الموضوع مثار جدل كبير منذ خمسة عشر عام في احدى دور النشر اللبنانية التي تعاملت معها والتي كانت تصر على ردم الهوة بين ثقافة الشارع وبين الكتب المدرسية والاكاديمية فكانت تعمل على تزويد المدارس الثانوية والاعدادية بمجموعات قصصية ذات لغة تجمع بين ما يعثر عليه الطالب القارىء في كتبه المدرسية وبين ما يقرأه في الجرائد والصحف ويطلع عليه في وسائل الاعلام. مع ذلك، هذا الجهد البسيط لا يكفي لأن المطلوب كان تغيير النظم السياسية/ الاقتصادية القائمة برمتها وذلك لان كافة افراد المجتمع هم من يجب ان يتمتعوا بثمار التطور الثقافي وليس "النخبة" فقط.

ان الثقافة لكي تعكس نبض الناس كلهم في المجتمع يجب ان تعكس تنوع القوميات في الوطن الواحد (اللغة والتقاليد والعادات القومية.. الخ) وان يكون هناك زخم تبادلي بينها وتداخل وانسجام يحقق هذا الطابع الانساني للثقافة.

ان سلطة المثقف المتلون ليست فقط منحسرة وانما غير موجودة مهما تم ربطها بركب السلطة وطبقاتها في المجتمع وذلك لانها سلطة "استرضائية" لا تشغل بالها في صناعة الحدث وليس من شأنها ان تبدل او تعكس نبض الشارع وتطلعاته او ترسم معالم الطريق للأمة. ان ساطور العولمة الراسمالية، مهما رسم خارطة طريق مبهر للحريات والديمقراطيات، لن يستطيع ان ينقذ الثقافة ولا مثقفيها من مأزقهم الا اذا خلى هذا المجتمع من طبيعته الطبقية التناحرية وانتبه الى الحياة الواقعية ونبذ العنف المحلي والمستورد وكل عناصر ورموز الصوفية الغيبية. لنتطلع الى مأزق الثقافة في ظل الراسمالية الاحتكارية ولنلق نظرة على هذه المآزق التي بدأت تتوالد في مجتمعات الامة العربية اليوم..

الحقيقة، إن المثقف المتلون طفيلي وعبىء كبير جاثم على صدر اي عملية تطور ثقافي في المجتمع. انه العصي في دواليب عجلة التطور لانه يكرس النظم الخاطئة وهذا التحالف المقدس بينها وبين المؤسسات الدينية السلفية والاعلام المأجور بقدراته الابداعية فيحول صحراء الروح الى واحات افتراضية تشبه القنبلة الصوتية او صورة انشأها خداع البصر لا تلبث ان تزول.

مرة اخرى، إن مأساتنا تكمن تماما في تلازم مساري القرار السياسي والقرار الغيبي الى درجة يصعب معها فهم المثقف المتلون خارج اطار الاثنين وهنا الطامة الكبرى امام المجتمع الذي يجد نفسه غارقا في فنتازيات مفترضة تخيلية لواقع لا يمكن لا نقده ولا تحسينه ولا فتح كوة في سماءه الازلية الغيوم.

عالم بلا حدود