أمريكا والشعب السوري... المصالح والسياسة

أمريكا والشعب السوري... المصالح والسياسة!!

حسام مقلد *

[email protected]

لا تعرف العلاقات السياسية بين الدول الجمود والثبات، ولا الوقوف طويلا عند الأشخاص والعناوين والأسماء، فالشيء الأهم بالنسبة لحكومة أية دولة هو تحقيق أكبر قدر من مصالحها ومصالح شعبها؛ ولذلك لا تعرف السياسة أية قدسية للأحلاف ولا العلاقات ولا الصداقات ولا العداوات، فلا شيء ثابت في السياسة سوى المصالح، ولا يوجد أسهل ولا أوضح من لغة المصالح للتوصل بوضوح إلى تفاهم مشترك.

وبعيدا عن العواطف والشعارات والدعاوى والادعاءات وحتى المبادئ والأخلاق، وانطلاقا من لغة المصالح وحدها نحاول تفهم حقيقة الموقف الأمريكي من الثورة السورية وهل هو يصب فعلا في خدمة المصالح الأمريكية الإستراتيجية بعيدة المدى أم لا؟!! ولنتكلم هنا بصراحة ووضوح فلا يختلف اثنان على أن أكثر ما يهم الولايات المتحدة الأمريكية من أي نظام يحكم في سوريا هو ما يأتي:

1.    مراقبة وحماية الحدود السورية العراقية، وهذا أمر حيوي جدا بالنسبة لأمريكا حيث يوجد عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان يحتلون العراق، وهناك خشية أمريكية حقيقية من انفلات الحدود السورية العراقية ودخول عناصر مقاومة إلى العراق سواء من القاعدة أو من غيرها.

2.    مراقبة وحماية الحدود السورية الإسرائيلية، والحفاظ على حالة الاستقرار القائمة التي ساهم النظام السوري في إيجادها منذ عقود، رغم إدعائه بأنه نظام المقاومة والممانعة!!

3.    الابتعاد عن النظام الإيراني وحزب الله( على فرض أنهما يسببان مشكلة حقيقية لأمريكا...) والمساهمة في استقرار الوضع اللبناني وفق ما يدعم ويحقق المصالح الغربية فيه.

4.    أن تكون سوريا بموقعها الاستراتيجي عنصرا من عناصر استقرار الشرق الأوسط بصيغته الحالية، أو بأي صيغة شبيهة تلتزم بخدمة المصالح الأمريكية والإسرائيلية، أو على الأقل لا تقف حجر عثرة في وجه المشروع الأمريكي الغربي في المنطقة.

وفي الواقع فإن النظام السوري كان يفهم اللعبة جيدا، فمن جهة كان حريصا على تحقيق هذه المصالح الأمريكية الإسرائيلية الغربية، والحفاظ عليها والتماهي معها بشكل أو بآخر، ومن جهة أخرى كان بارعا إلى حد بعيد في رسم صورة مزيفة له تدعي أنه نظام الممانعة العربي الوحيد الذي يقف في وجه إسرائيل ويناصر فصائل المقاومة الفلسطينية كحماس والجهاد الإسلامي، وبقدر من النجاح والتوازن ـ الشكلي على الأقل ـ استطاع النظام السوري الحفاظ على هذا الوضع طيلة العقود الأربعة الماضية.

لكن المنطقة العربية والشرق الأوسط عموما قد شهد الآن تغيرا كبيرا وخطيرا بعد ثورات الربيع العربي أيا كانت نتائجها التي تحققت حتى الآن أو تلك التي ستتحقق فيما بعد بإذن الله تعالى؛ فالمتغيرات الضخمة على الأرض تؤكد حصول زلزال إستراتيجي في المنطقة، وبالتحديد بعد نجاح الثورة المصرية، ويعلم كبار الساسة الدوليون أن الأجيال العربية الجديدة بصدد إعادة تشكيل وجه هذه المنطقة من جديد على أسس مختلفة تماما عما ساد طوال العقود السابقة، فلم يعد الجانب الأمني أو العسكري فقط هو العامل الأهم، ولم تعد أمريكا ولا إسرائيل ولا الغرب اللاعب الأول أو الوحيد، بل إن الشباب العربي وعشرات الملايين من الطاقات الشابة على امتداد الوطن العربي الكبير هي التي أخذت بأيديها الآن زمام المبادرة.

وليس بخافٍ على أحد أن هناك مؤامرات جبارة تدار حاليا داخليا وخارجيا تسعى من أجل إفشال هذه الثورات العربية، وتعطيل قواها الثورية وإهدار طاقاتها المختلفة؛ حتى لا تستطيع إنجاز أي نهضة عربية حقيقية، وبالتالي يسيطر اليأس والإحباط مرة أخرى، وترجع هذه الملايين إلى المربع الأول!! لكن هذا السيناريو لن ينجح بإذن الله تعالى؛ لأنه ضد حركة التاريخ، وضد سنة الله تعالى في تدافع الخلق، قال تعالى:"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ"[البقرة:251].

وفي الحقيقة فإن الشعب السوري الأبي ليس معنيا بكل هذا التنظير والجدل السياسي، الشعب السوري ببساطة شديدة ـ ككل الشعوب العربية ـ لا يهمه سوى تحقيق مصالحه المتمثلة في تحقيق الديمقراطية في بلاده والعيش بحرية وكرامة على تراب وطنه، وتوفير المساواة والعدالة الاجتماعية بين جميع أبنائه بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو الطائفة، الشعب السوري لا يهمه في قليل أو كثير تلك الحسابات السياسية الصعبة، ولا تخصه تلك المعادلات الدولية المعقدة التي تبحث عن حل، وتريد تحقيق نوعا من الهدوء واستقرار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط التي تتقلب على صفيح ساخن، نعم الشعب السوري كغيره من الشعوب العربية حريص على استقرار المنطقة، وحريص على إحلال السلام وترسيخه فيها، لكنه يريد العيش مرفوع الرأس موفور الكرامة كبقية شعوب الأرض، وهذا الشعب العريق الأبي ليس بأقل من غيره من الشعوب الأخرى التي نالت حريتها وتخلصت من أنظمتها الظالمة الفاسدة، ولن يرتاح السوريون أو يهدأ لهم بال حتى يزيحوا نظام الأسد ويستبدلوه بنظام آخر أكثر عدلا وحرية.

وعلى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أن تختار لنفسها: فإما أن تظل تمارس ما تمارسه الآن من نفاق سياسي واضح فتدَّعي أنها تناصر ثورة الشعب السوري، ومن تحت الطاولة نراها تدعم نظام الأسد القمعي المستبد وتضغط على المعارضة السورية للحوار معه لكسب الوقت، أملا في امتصاص غضب الشارع السوري، والوصول إلى بعض الإصلاحات البسيطة التي تخدر الناس، وتحقق استمرار النظام وإن بأدوات أخرى أقل وضوحا في البطش والفساد والإسراف في العنف وسفك الدماء، وهدف أمريكا من كل ذلك الحفاظ على مصالحها آنفة الذكر التي تظن أن النظام السوري الحالي هو خير حارس لها وأفضل مستأمن عليها!!

وقد يقول بعض الأمريكيين: طبعا من حق أمريكا أن تخشى نجاح الثورة السورية، وأن يزداد هلعها عندما تفكر في إمكانية وصول حكومات إسلامية في كلٍّ من مصر وسوريا وتونس واليمن وليبيا وغيرها من البلدان العربية فهذا من وجهة نظرهم لا يعني سوى انهيار الهيمنة الأمريكية الغربية على الشرق الأوسط وضياع موارده الاقتصادية الهائلة من أيديهم ولاسيما النفط!! غير أن التفكير بهذا المنطق وبهذه المخاوف المبالغ فيها هو في الحقيقة مجرد وهم أكثر منه مخاوف حقيقية، ولعل وجود نماذج حكم عربية ذات خلفية إسلامية في المستقبل القريب ـ مثل النموذج التركي ـ لعل ذلك يكون أفضل ضمانة لطمأنة الأمريكان والغرب على مصالحهم في العالم العربي.

لكن على أمريكا والغرب وكل ساستهم ومفكروهم أن يدركوا تماما أن الأجيال العربية الجديدة أكثر ذكاء ووعيا مما يتوقعون، وأنه لا يمكن أن تفكر القوى الشبابية العربية في استنساخ التجارب السياسية الفاشلة التي عانت منها كل الشعوب العربية في الماضي، وكل ما يهم هذه القوى الحية الفاعلة المسيطرة على أرض الواقع الآن هو بناء دول عربية مدنية ديمقراطية حديثة وعصرية توفر لجميع مواطنيها العدالة الاجتماعية والمساواة، وسبل الحياة الكريمة والحد الأدنى من مستوى المعيشة الكريمة!!

ونذكِّر الولايات المتحدة الأمريكية بأن الشعوب أبقى من الأنظمة الحاكمة والحسابات السياسية الضيقة، وأن المصالح الأبقى والأدوم تكون دائما مع الشعوب لا مع أنظمتها الحاكمة، وعلى أمريكا الآن أن تقرر بسرعة مع من ستجد مصالحها الإستراتيجية العميقة بعيدة الأمد؟! مع الشعب السوري المكافح المناضل الذي يطالب بحريته وحقه في الحياة الكريمة منذ ما يقارب أربعة أشهر أم مع نظام الأسد المستبد الغاشم؟! على أمريكا أن تحسم أمرها وتقرر موقفها سريعا وألا تبقى تتلكأ كما فعلت في تونس ومصر؟!! علما بأن الشعب السوري سينتصر بإذن الله تعالى مهما طال الزمن ومهما كانت التضحيات، هذا ما يؤكده التاريخ وتدعمه الحقائق على الأرض، وعلى أمريكا أن تختار سريعا وبوضوح تام: فإما أن تقف بحزم إلى جانب الحق والعدل والإنصاف وتدعم الشعب السوري بشكل قاطع وفعال أكثر من خلال ما تمتلكه من أدوات كثيرة، وإما أن تظل حبيسة مرض التردد الذي تعاني منه منذ مدة، وساعتها لا تلومن الإدارة الأمريكية إلا نفسها وهي تجد مصالحها الحيوية في المنطقة العربية تتسرب من بين أيديها بسبب ترددها وحرصها على دعم ومساندة أنظمة مهترئة فاسدة، ولو كان ذلك الدعم والتأييد يتم من تحت الطاولة!!!

                

 * كاتب إسلامي مصري