التنوير (المآل)

التنوير (المآل)

جمال المعاند * -إسبانيا

[email protected]

- لأول مرة تتبعثر كلماته وينفرط عقد تفكيره،  ويُغلق عليه، وترميه أبصار من حوله على قوس واحدة . 

 بلع ريقه فينة من الوقت قبل أن يدركه لطف الله فيعود إلى جزئية من الحديث ويغرق مستمعيه بتفاصيل تكاد تضع ما سئل عنه في طي النسيان .  وببراعة الداعية الألمعي قال لمن يحدثهم:  الأسبوع القادم أفصل لكم الجواب عما سئلتُ عنه، متعللاً بضيق الوقت .

أوشك على ملاقاة أول فشل في مهماته الدعوية،  فمنذ أن بانت النمطية منه بينونة كبرى،  وأخذَ يفد لأماكن تجمع الناس و يغشى نواديهم، خلالها لم تعترضه مشلكة تضعه في مظنة الريب خلا هذه المرة،  لقد كانت سانحة لأخ لديه عقيقة دعا إليها نفر من أصحابه، كان من بينهم فرنسي، ومع أنه تحدث بفقه الواقع لمثل هذه التجمعات، عن الإعجاز العلمي مما استحوذ على معاقد الانتباه للحضور، بيد أن واحداً منهم ألح بسؤال فقهي، فتداعت الأسئلة، فتشجع ذلكم الفرنسي وسأل سؤاله المحرج .

عندما عاد إلى البيت، هرع للشبكة العنكبوتية – النت- ودخل إلى المواقع الإسلامية الرصينة، لكنها لم تشف غليله،  اتصل بمن يأنس منهم العلم الشرعي، كلهم اتبعوا المذ هب الملائكي في قول: لا نعلم  .

بدأت جيوش الإحباط تغزو تفكيره، وتسأل هل من الممكن أن تتحدى نازلة معاصرة فقهاء الأمة ؟ .

لجأ إلى الله سبحانه وتعالى، فألهمَ أن يقصد أحد مشايخه الذين رضع منهم لبان العلم، لكن ثمة مشايخ يصعب الوصول إليهم لبعد الشقة فهو يقيم في فرنسا، وهم يقيمون في البلدان الإسلامية .

  وهو في العصف الذهني حول أي باب يطرق، تبدت له تموشنت الجزائرية، تلكم المدينة التي إستأثرت بشغاف قلبه دوناً عن مدن الإسلام،  حكم لقاضي الهوى لا يفهم منه مناط قياس،  مع أنه شامي الأصل والمنبت .

اعتبر ذلكم الخاطر هروباً إلى الأمام من تفكيرٍ أحاط بقواه، بيد أن منطقة عين الأربعاء في ولاية تموشنت، تبدت كجميلة هلََّ وجهها كبدر في أفق أحلام اليقظة لديه، عين الأربعاء تخـتـصر عنده بشيخه أبي عبد الرحمن، الذي كلما قرأ له، أو شاهد تصاويره وهو يلقي على طلبة العلم من شهد الشريعة، تمثل نعوت السلف عن مشايخهم، ومنها قوي العارضة، سلفي العبارة، دقيق النظر، قوي البحث،... الخ، وكيف أدرك بعد أن عاين شيخه أبا عبد الرحمن، أن كُتابَ التراجم من السلف،  لا يبالغون في مشايخهم، كما كان يظن عندما يقرأ تراجم لعلماء، وأن أبا عبد الرحمن سار على منهج من سبق فارتحل وقصد كنانة العلم مثلما ورد في النص النبوي، بلاد الشام، فعاد الشيخ إلى الجزائر كنف علم،  يقطر من شمائله زلال العلم، خلع عن كاهليه رداء التقليد، ويمم وجهه نحو فكر الفقه، علم المقاصد، وهنا باشر الخاطر الرحماني قلبه، وأدرك أنه سيأوي إلى جبل علم يعصمه من الغرق، في بحر تساؤل ذلكم الفرنسي، وسولت له نفسه أن السؤال كان معداً سلفاً،  فطالما لمحه ذلكم الفرنسي يدلف إلى تلكم العمارة، التي يقطن فيها جمع من العائلات المسلمة، وربما نما لعلمه، أن ثمة داعية غير من طباع أهلها، حيث لاحظ الفرنسي، كما أخبره بعض ممن يجلسون معه، تحول الأغاني التي كانت تنعق طوال النهار وزلفاً من الليل، إلى آيات القرآن،  والنسوة ممن كنّ يسكنّ في العمارة تغيرنّ من سافرات إلى محجبات، فخطط هو أو شياطينه، لوقف نور الدعوة، بمكر يتفق والحرية المزعومة عندهم، فالنقاش لديهم يرتقي من المباح إلى مرتبة الاستحباب .

قال في نفسه لئن قالوا قديما ً :

" لابد من صنعاء وإن طال السفر"، أقول: لابد من عين الأربعاء وإن أعيا الخبر،  بيد أن الوقت قصير، كما أن الشيخ قد يكون مشغولاً، ظن أنه وجد ضالته، حدد الاتجاه، وأخذ يمعن الفكر في التواصل مع الشيخ، تذكر لطالما راسل شيخه عبر النت بمناسبة وبدون مناسبة، قرر أن  يكاتب الشيخ بلواعج النازلة، تشيمه مخايل الرجاء،  وحسب رأيه، فإن علماء المقاصد قضاة في محاكم المنقول والمعقول، وهكذا فعل .

كان جواب الشيخ:

" حتى لا تقع نزلة أخرى،  ويعزب عنك برد اليقين، عليك بإعمال مصادر التشريع، وكليات الفقه، ويجب أن تعلم أن من مسؤولية الفقهاء ضبط نبض المجتمع المسلم .

وسؤال الفرنسي قديم أجيب عنه، في أكثر من سفر لعلمائنا المعاصرين، أجابت عنه هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في نشرتها، العدد2 ص60، ونقله الدكتور الداعية محمد علي البار عن شيخ الأزهر جاد الحق- عليه رحمة الله-  في كتاب" أدب الطبيب وفقهه ص 218، وربما يسعفك العلامة مصطفى بن حمزة في كتابة بحوث فقهيه ص340  وما بعدها  بتفاصيل تضعك في قلب الموقف " .

أسلوبٌ  ألفه من شيخه أبي عبد الرحمن، حيث يعمد مع طلابه، على تنمية القدرة البحثية لديهم، فله تعامل يجنح فيه إلى إعطاء تلامذته دربة على القراءة في الأمهات فضلاً عن المراجع العصرية .

حصل على كتاب العلامة المغربي مصطفى بن حمزة" بحوث فقهيه"، وقرأ الفتيا وكانت مفصلة، وبنى خلاصة حكمه على منطق العدل والمآل، أراد الاستيثاق من فهمه للفتوى، فأرسل إلى شيخه أبي عبد الرحمن يقول:

" تمكنت بفضل الله ومنّه، بالاطلاع على الجواب من سفر الشيخ مصطفى، بيد أن لفظ المآل لم أعثر في كتب أصول الفقه إلا على المعنى اللغوي، فهل دلالة المعنى اللغوي تكفي ؟ ، ما رأيكم دام فضلكم ؟ " .

أجاب الشيخ:

[ إعلم وفقك الله لمرضاته، أن لفظ المآل مصدر ميمي للفعل" آل" وأصله "أول"، وتلحظ أن كل معانيه تكاد تكون مترادفات، تعود لمعاني لها أصل يمثل المعنى الكلي، بمعنى أنه يحمل عنصر الذات بخلاف غيره من المصادر، ويرى أحد الباحثين أن الغالب الأعم في استخدام القرآن للمصدر الميمي يدل على النتيجة النهائية، من مثل أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، وأهل المغفرة، والراغب الأصفهاني يفرق بين توبة ومتاب، حيث أكد أن كلمة متاب تعني الجمع بين ترك القبيح وتحري الجميل، وأرجو أن لا تعيد مرة أخرى كلمة لم أعثر عليها عند كذا...،  إلا وتردف حسب اطلاعي، ففي كتاب اعتبار المآلات في الصفحة20  ، يقول مؤلفه: عن المآل( الحكم على مقدمات التصرفات بالنظر إلى نتائجها)، وإن كان هذا ليس تعريفاً جامعاً مانعاً، ويشي بتداخل مع مفهوم سد الذرائع، لكنه حاول الاقتراب من تحديد المصطلح، فيشكر على جهده   .

والمآلات هي رؤية لفقهاء المالكية للنوازل،  بدلاً من التعليل عند غيرهم، ويعد الإمام الشاطبي أول من تحسسه بشكل مستقل، انظر إلى قوله في الموافقات4/553 : ( -المآل- مجال صعب المورد، لكنه عذب المذاق، محمود الغِبّ، جار على مقاصد التشريع )، وفرع الشاطبي على أصل المآلات: قاعدة الذرائع، والحيل الشرعية، والاستحسان، ومراعاة الخلاف، وتقديم جلب المصالح ودفع المفاسد..)  .

ويعتبر المآل بناءً تاماً،  على الأسس التالية:

 1- المصلحة .

2- سد الذرائع .

3- الضرورة .

4- رفع الحرج .

5- مراعاة الخلاف .

6- التعليل بما يؤول إليه الحكم وحجيته .

رزقنا الله وإياكم حسن الفهم لشريعته، ووفقنا وأنتم للعمل بها " .

انقضى الأسبوع وأزف الموعد، كان كل من حضر العقيقة في تلهف لسماع جواب سؤال الفرنسي، ولما انتظم عقد الجميع بما فيهم صاحب السؤال، طلب منه إعادته، فقال:

السؤال: هل يجوز للمسلم أن يتبرع بالدم لغير المسلم ؟. فأجاب:

جوابي يستند على شرح أصح الكتب بعد كتاب الله، فمن شرح صحيح البخاري للعلامة ابن حجر، ومن شرح صحيح مسلم للعلامة النووي،  كما يقول العلامة المغربي مصطفى بن حمزة في كتابه بحوث فقهيه والذي خـلص إلى :

( والواقع أن نظرة الإسلام إلى طبيعة الجسم البشري هي نظرة موحدة، لا تتأثر بحال من الأحوال بالوضع الديني، ...، فالجسم البشري له حكم واحد في الطهارة،.....، فالمستخلص من هذه النصوص أن الأجـساد في الشريعة- الإسلامية- تتماثل في الحكم، وإن كانت العقائد تختلف وتتباين .

ولهذا كله، واعتبارا لما أسسه الإسلام من إسعاف غير المسلم، ومن السعي إلى حفظ حياته، ....، يظل هو الأصل في التعامل الإنساني  .

 كما يجوز هذا التبادل أيضاً على أصل آخر هو أصل مراعاة المآلات وعواقب الأمور،  لأن اقتصار المسلمين على الأخذ من الغير دون العطاء،  يجعلهم هم الخاسر الأكبر حينما يمتنع الآخرون عن منحهم أعضاء ليعوضوا بها أعضائهم التالفة،  علماً بأن المسلمين في البلاد غير الإسلامية خصوصاً هم أقدر على الاستغناء بأنفسهم،  بينما يظل المسلمون في حاجة إلى غيرهم في كل المجتمعات التي لا يشكلون فيها إلا جالية محددة العدد) .

ولهذا كله، يجوز دخول المسلمين مع غيرهم في تبادل التبرع بالأعضاء البشرية  .

                

* عضو مركز علم المقاصد الشرعية الجزائري .