حول البعد الطائفي في المشهد السوري
عارف دليلة والبوطي:
ثائر علوان
صديقي الذي قضيت معه ثلاثة عقود ونيف كأخوين يعلم كل منهما ما يعلن الآخر وما يسره، لم يكن للاختلاف الطائفي في منشأنا أي تأثير على علاقتنا الوثيقة، ما زلت أذكر يوم قدم لي اعتذاره بسبب موقف طائفي لشقيقته مني، يومها قلت له لا حاجة بك للاعتذار مني، لأنها لا تتحامل علي شخصياً، إنما تتحامل على فكرة تعتمل داخلها، ومثل موقفها قد يكون موجودا لدى أقرب الناس إلي، وهو دليل جهل شخصي وأزمة داخلية، أكثر من كونه حقداً موجهاً لشخص معين. صديقي الذي حفل آخر لقاء لي معه منذ أشهر، بأمتع الذكريات التي جمعتنا أيام الجامعة وبيروت والقاهرة، أخرج لي شريط كاسيت كنت قد أهديته إياه منذ ربع قرن، يحوي عددا من الأغاني الثائرة لسميح شقير، فكانت مناسبة لنتذكر الليالي التي قضيناها نتناوب فيها في سماع فيروز وام كلثوم ومرسيل وسميح، وانضمت إلينا شقيقته تلك مع زوجها، وأظهرت أشواقاً ومودة معتقة كانت دليلاً على أنها اغتسلت مما كان في نفسها ذات يوم.
بعد انطلاق الاحتجاجات في شارعنا السوري، وعند صدور الأغنية الجديدة لسميح شقير، أرسلت له الرابط في بريد الكتروني استمزج رأيه، رد علي: أرأيت؟ لقد سقط قناع سميح، وهاهو قد ظهر على حقيقته خائناً للوطن!! بصدق لم أتمكن من استيعاب رسالته بداية، كنت أظنه قد كتبها ساخراً، لكن تتمة الرسالة كانت تدل أنه لا يمزح، أعدت مراسلته لأقول له: سميح لم يتغير، هو يغني ضد الاستبداد بغض النظر عن هويته، أرجو ألا نتغير نحن أيها العزيز... لم يرد علي! فقط بات يكتفي بارسال مقاطع الفيديو المجتزأة من برامج التلفزيون الرسمي ورديفه الدنيء الأدنى (الدنيا). لم أناقشه بعدها، ولم أرد على بريده لأني أدركت أن لغة الحوار بيننا فجأة ماتت، بعد عمر مديد من وفاء لا أستطيع إلا أن اقدره من صديق الصبا والشباب، هل نفترق على أبواب الكهولة؟!
بعد اسبوعين من انقطاع الأخبار بيننا، أرسل لي ما يجده مؤيداً للاتهام الطائفي الموجه للمحتجين، ومعها مقالة مغامرة السواح اللاعقلية في تأويل طالبي الحرية والكرامة، أرسلت له رداً مقتضباً: لو عرضنا على هؤلاء المحتجين اليوم اسم شخصيتين ليختاروا من بينهما مرشحا لرئاسة الجمهورية وهما الشيخ البوطي وعارف دليلة، فمن سيختارون؟
لم أكن أنتظر منه أن يقتنع برأيي، لأني أدرك بأن العامل الطائفي لا يحضر فجأة، وإذا حضر لا يمكن الفكاك منه بسهولة، ولأنه أكثر عوامل الشرذمة والتفتيت أثراً، استثمرته السلطة ورمت به من ناهضوا بأسها واستبدادها، فالشارع طوال الوقت ينادي بوحدة الشعب السوري، ولا يعبر سوى عن تطلعه لنيل الحرية والكرامة، والتخلص من الاستبداد والفساد، بينما السلطة انبنى خطابها منذ اليوم الأول على إثارة النعرات الطائفية، ولاحقاً واجهت الناس من خلال بنية طائفية بعد إثارة هلع طائفة معينة، فتجندوا (فئة من الناس) للدفاع عنها ليس محبة فيها بالضرورة، إنما استسلاماً لوهم أن انهيار السلطة سيكون دماراً للطائفة. ولنتأمل الوضع من خلال افتراض ووقائع، الوقائع تدل على أن البنية الطائفية وما يغذيها من دوافع لا توجد إلا في الأدوات التي يعتمد عليها النظام، وفي قوات الحرس الجمهوري وفرق الشبيحة والبلطجية التي استنفرها، بل إن الأمر بات أشبه بحرب طائفية وخاصة مع اقتحام مدينة تلكلخ، حيث هبت القرى المجاورة متطوعة بالهجوم على أهل تلكلخ والعريضة فقط على محمل طائفي.
لا أشك للحظة واحدة أن التظاهرات بمنأى عن الطائفية حتى الآن، وإن كنا بدأنا نسمع رغبات في الانتقام من السلطة وأدواتها بعد تعرضهم للاعتداء الشديد في ارواحهم واعراضهم واموالهم، ولا ننكر أيضاً مشاهد نادرة حملت شعارات طائفية انتقامية لما يحدث من فعل طائفي من قبل السلطة، المشهد الطائفي الوحيد فيما يجري هو مشهد النظام الذي أؤمن بأنه لم ولن يعمل من أجل الطائفة، إنما يتقي بها الدعوات التي ترمي تخفيف استبداد السلطة ولجم فسادها. فهذه السلطة لم تأل جهدا في شحن المجتمع بالمزيد من الطائفية، وغامرت بمستقبل الطائفة التي تستخدمها.
رمي المتظاهرين بالطائفية، هي وسيلة النظام الوحيدة –كما يبدو- في شرذمة المجتمع السوري والسيطرة عليه، وسأفترض أن مسيرة احتجاج انطلقت في دوار الزراعة في اللاذقية بدلاً من حي الصليبة، ستكون هذه المظاهرة مجلجلة، وستهز أركان السلطة، لأنها ستحرمها هذه الحجة الواهية، ولا أستبعد أن يفر كل الفاسدين خلال يوم وليلة. رهان السلطة قائم على إثارة المخاوف عند الأقليات، مع أن مفهوم الأقلية غير واضح في سورية ومبني على واقع احصائي لا يحتسب التنوعات الهائلة داخل الأغلبية التي لم تتطيف، ولم تكن في يوم من الأيام كتلة متجانسة لها موقف موحد. الشارع الذي ثار، لم يثر لا سباب طائفية، إنما لأسباب تتعلق بالاستبداد البطش والفساد المنتشر في كل تفاصيل الحياة اليومية، لكن للأسف تفلح السلطة إلى حد ما إلى إثارة الطائفية، وهو المنزلق الذي تتجنبه الأغلبية بكل تأكيد، لكن إن استفحل أمرها، لا يمكن ضمان عدم ظهور نزعات طائفية تظهر كرد فعل.
معظمنا يدرك أن الطائفية لدى النظام لا تنبع من إخلاص للعقيدة، إنما هي وسيلة لكسب جنود مجانيين يلتفون حول السلطة لا حباً بها، إنما رهبة من نتائج سقوطها، وهذا ما ظهر بشكل مقيت حتى عند الفئات التي كنا نظن أنها على وعي تاريخي بالمسألة، أتذكر اليوم حديثاً للشيخ عبدالرحمن الخير رحمه الله في أواسط الثمانينيات، أثناء زيارتي له، إذ قال: نحن ندرك أنها فرصة لنقول لمن في قلبه أدنى شك، أننا جزء من هذه الأمة، ولسنا طارئين أو معادين لأي ملة أخرى، علينا ألا نخسر الفرصة ونبددها انشغالاً بمكاسب زهيدة.
السلطة دوماً غامرت بمستقبل الوطن السوري حفاظاً على هيمنتها المطلقة واليوم على كل مكونات الوطن السوري أن ترسل له رسالة واضحة جلية كالتي يرسلها الدكتور دليلة طوال العقدين الماضيين، بأن أي جزء من هذا الوطن لن يساند الاستبداد، وأن الجميع مطلبهم واحد وهو أن يكونوا مواطنين متساوين في ظل دولة عادلة. دولة لا يهيمن عليها القتلة ولا يعبث بها اللصوص. هذه الرسائل المهمة التي دحرت المستعمر الفرنسي هي وسيلتنا والأمل الوحيد لنا من أجل غد أفضل. أما إذا انشغلنا برشى النظام الهزيلة، وأصر بعضنا على استمرار الوضع لمآرب خاصة أو انتصاراً للفئوية، فعلى هذا البعض أن يدرك بأنه يضع نفسه في حالة عدائية مع المجموع، وعليه أن يقنع بالثمن الذي قد يدفعه جراء ذلك.
في بداية عهد الأسد الأب استقبلته المدن السورية بالتهليل والترحاب، وكعادة الشعوب العربية في حث أي منتصر على أن يتحول إلى فرعون بالافراط في تمجيده والرضوخ له، حتى أن الجماهير حملت سيارته في مدينتي حلب وحماة التي كافأها بعد عقد بتدمير أحدهما تدميراً كاملاً، الأسد الأب كان يدرك أن أن هذه الجماهير التي تصفق له ستصفق لغيره إذا تعرض لانقلاب، فقامت نظريته الأمنية على اتجاهات ثلاثة واضحة، الأول تهميش الجيش والسيطرة على مفاصله الرئيسية وقياداته الكبرى والصغرى، والثانية النزوع إلى تغول الأجهزة الأمنية وتعددها مع إغراق مؤسسات الدولة في طابع أمني على حساب جوانبها الخدمية، وتحويل النقابات والاتحادات إلى خطوط مراقبة مبكرة، مع تأسيس المزيد منها لتراقب الشرائح المختلفة عمرياً وطبقياً، والثالثة وهي الأخطر الاعتماد على طائفة بعينها، مع تطعيمها ببعض عناصر الأقليات الأخرى، مع ترك المجال للبقية الالتحاق بالنظام ونيل هداياه من خلال ولاء يتمثل في الانخراط في حزب البعث الذي تحول كلية إلى مؤسسة للولاء للأب القائد، هذه الاستراتيجية الأمنية بدأت بشكل غير معلن منذ أواسط السبعينيات، ومع تحرك الطبقة الوسطى سعى الأخوان (وهم الجهة الوحيدة المنتظمة في إطار مؤسسي، في سلطة ترفض اعطاءها الشرعية) إلى تسنم هذا الحراك الذي انتهى بانسحاب الأخوان وتعرض المدن الرئيسية الممثلة إلى حملات شديدة البطش كان أشدها في حماة وسجن تدمر، هنا بدأت السلطة تفصح عن عدائها للمكون العام، من خلال تقبل فقط من ترضى عنهم من الموالين والخانعين، دون أن تمنحهم الثقة أو تفتح لهم المجال للصعود إلى الأعلى، وحتى اليوم ما زالت تميز في مفاصل الدولة ووظائفها وإمكانية القيام بأي نشاط ثقافي أو اجتماعي أو اقتصادي بين من ينتمي إلى الغالبية وبين من ينتمي إلى الأقليات الأخرى، وهذا الأمر كان واضحاً للعيان من خلال مشاهد يومية، إذ كان على التيار الأوسع أن يقدم ولاءه باستمرار وأن يخضع بمزيد من الخضوع حتى ينال رضا النظام المقنن، ومع ذلك كان هناك على الدوام سقفاً لا يتجاوزونه بمنطقية الترقية، إنما بمنطق آخر يتمثل في الولاء والخنوع، لذلك كانت رتبة عليا في الجيش تتعامل برهبة مع رتبة أدنى منها فقط لأن الرتبة الأدنى تنتمي إلى الأقليات، وهذا ما يحدث حتى في المؤسسات المدنية والدبلوماسية والاجتماعية...، وكثيراً ما كنا نجد أن نائب المدير أو مستشار السفارة أو رئيس الأركان يتجاوز في هيمنته وسيطرته من هو أعلى مرتبة وظيفية أو رتبة عسكرية فقط لأنه ينتمي إلى الطائفة، هذا التمايز الذي كان ولا زال إلى اليوم، بل وتغول في عهد الأسد الابن إلى درجة مفرطة، قتل كل حلم أمام الأجيال الجديدة عند القطاع الأكبر من المجتمع، وخاصة مع تفاقم الفساد والمحسوبيات واستصدار المزيد من القوانين التي تسحق الناس وتحجرهم وتنهبهم وتجعلهم في حال شديدة البؤس بين مطرقة الاستبداد وسندان الفساد.
معظم العسكريين ممن ينتمون إلى الأغلبية، لا يرتقون بعد رتبة معينة، ويتم تسريحهم لأن النظام ينص على عدم جواز أن يبقى عسكري في رتبته بعد قضاء مدة معينة فيها. وهذا ما يدل عليه احصاء الرتب من رتبة لواء فما فوق إذ إن معظمهم هم من الطائفة مع بعض الأقليات الأخرى. إضافة إلى أن الرتبة لا تعني المرتبة بالضرورة فقد يكون رائد في مؤسسة عسكرية أكثر نفوذاً من اللواء الذي يديرها، ولا يوجد أي تفسير سوى الانتماء الطائفي.
لا شك أن عهد الأسد الأب وعهد الابن شكلا فرصة مناسبة للتعبير عن الرؤية التي تنتاب الطائفة العلوية في سورية، والتي كان جديرا بها أن تنفتح على المجموع وتثبت أنها جزء من هذا النسيج، ولا شك أن هناك تعبيرات واضحة وجلية عن الانفتاح، لكن تحويل هذا الانتماء إلى امتياز وسلطة كان أسوأ ما يمكن التعبير عنه، ولا شك أن هذا ما عمل النظام من أجله، لكن مع ذلك يمكننا استيعاب هذا الأمر عند البسطاء والمنتفعين، المشكلة في غياب صوت العقل والحمة والرؤية المتبصرة لمستقبل العلويين، مستقبلهم الذي طالما غامرت به السلطة من أجل الاستئثار بالهيمنة، وبلغت في الفترة الأخيرة حداً خطيراً، ينذر بمستقبل أسود إذا ما استمر هذا المعطى، مما يستلزم فعلاً مواقف مشرفة لأبناء الطائفة العلوية في وجه نظام لا يمكن إنكار فساده واستبداده، مثل مواقف عارف دليلة التي تشرف كل سوري، فالنظر بعمق إلى الأمر يوضح أن المفكر عارف دليلة أكثر حباً لطائفته كمكون للوطن السوري، بينما النظام يغامر بهم ويزجهم في سيرورة تاريخية سوداء. لا يهمه منهم سوى ولاءهم في الحاضر للابقاء على هيمنته وفساده.
اليوم موقف مختلف عن كل مختلف سابق، اليوم هناك انتفاض سوري من أجل مستقبل افضل، والجميع يقف على عتبة واحدة، إما أن ننحاز إلى المستقبل الذي نحلم به كأمة، وإما أن ننحاز إلى الفساد والاستبداد طمعاً في مكاسب شخصية هزيلة، وندفع ثمن هذا الانحياز غالياً. الشباب الذين ينتفضون لا تحركهم ايديولوجيات طائفية أو مصالح شخصية، هم فقط يحلمون بوطن حر كريم، من يواجههم بايديولوجيا طائفية ومن أجل مصالح فئوية ضيقة عليه أن يدرك بأنه سيدفع ثمن هذا التوجه. لأنه قد يفلح في إثارة النزعة الطائفية عند بعضهم، وحينها سنكون بين طرفين يدمران الأرض من أجل أوهام السماء.