لا نسخَ في القُرْآن
«تفْسيرُ القُرْآنِ بِالقُرْآَنِ»
د. محمد عناد سليمان
(1)
اتَّفق العلماء قديمًا وحديثًا على ما أسموه «النَّاسخ والمنسوخ» في «القرآن» الكريم؛ بل إنَّ بعض الباحثين رأى أنَّ «النَّاسخ والمنسوخ من أهم مباحث علوم القرآن التي يجب أن يحيط بها المفسِّر علماً؛ لأنَّ معرفة ذلك ذات أهمية كبرى؛ لما لهذا العلم من الأثر البارز في بيان المراد من كلام الله تعالى, فهو متعلِّق بنصَّين من القرآن الكريم, يتفرّع عليهما حكمان متغايران في النَّفي والإثبات, فالنَّفي يكون للمنسوخ, والإثبات يكون للنَّاسخ, وعلى هذا يكون المنسوخ مرفوعاً, أو منتهي الأمد, والنَّاسخ رافعاً, أو مثبتاً لحكم جديد للموضوع ذاته, وذلك بحسب طبيعة النَّصِّ القرآنيفي الأحكام والقضايا والحوادث».
وقبل الدُّخول في دراسته اعتمادًا على منهجنا في «تفسير القرآن بالقرآن» لا بدَّ من أن نعرِّج على بعض أحكام هذا العلم كما ينصُّ عليه العلماء أنفسهم، حيث يرون أنَّ «النَّاسخ» دليلٌ شرعيّ متأخِّر، يُبطل حكمًا شرعيًّا سابقًا وهو «المنسوخ»، حتى إنَّ بعضهم قد جعل ذلك مختصًّا بـ«الحديث» حيث يرفع النَّبيُّ r حكمًا سابقًا من أحكامه بحكم لاحقٍ.
وقد جعلوا لهذا العلم شروطًا منها:
الأوَّل: أن يكون الحكم «المنسوخ» شرعًا لا عقلاً، أي ثبت بالشَّرع ثم رُفع.
الثَّاني: أن يكون «النَّاسخ» منفصلاً عن «المنسوخ» متأخِّرًا عنه.
الثَّالث: أن يكون «النِّسخ» بخطاب شرعيّ.
الرِّابع: أن يكون «المرفوع» مقيَّدًا بوقت.
الخامس: أن يكون «النَّاسخ» أقوى من «المنسوخ» أو مثله، فإن كان أضعف منه لم ينسخه؛ لأنَّ الضَّعيف لا يزيل القوي.
السَّادس: أن يكون المقتضى بـ«المنسوخ» غير المقتضى بـ«النَّاسخ» حتى لا يلزم البداء.
ويظهر أنَّ هذه الشُّروط مما لا تثبتُ عند التَّحقيق، إذا ما كان المعنيُّ به «القرآن» الكريم خاصَّة.
وتكمن خطورةُ هذا العلم في أنَّه يتعلَّق بـ«الأحكام الفقهيَّة» التي بنى عليها «الفقهاء» أحكامهم واختلافاتهم فيها، وإن كان متصلاً بـ«الحديث» على نحو ما ذكره «ابن الأثير» في قوله: «معرفة المتواتر، والآحاد، والنَّاسخ والمنسوخ، وإن تعلَّقت بعلم الحديث، فإنَّ المحدِّث لا يفتقر إليها؛ بل هي من وظيفة الفقيه؛ لأنَّه يستنبط الأحكام من الأحاديث فيحتاج إلى معرفة ذلك، وأمَّا المحدِّث فوظيفته أن ينقل ويروي ما سمعه من الأحاديث، فإن تصدَّى لما رواه فزيادة في الفضل، وكما في الاختيار».
وبالجملة يمكن فهم «النَّسخ» عند أهله هو: رفع حكم شرعيّ سابق بحكم شرعيّ متأخِّر عنه أقوى منه، وهم يعنون بذلك: إبطال الحكم الأوَّل وإزالته، وذلك بناء على فهمهم أنَّ «نسخ» بمعنى «أزال»، على نحو ما ذكرته كتب «rالمعاجم» و«اللُّغة».
ومن أجل الوقوف على حقيقة هذا المعنى، ومدى صحَّته من عدمها، رأينا البحث في «القرآن» الكريم اعتمادًا على منهج «تفسير القرآن بالقرآن» عن الآيات التي ورد فيها ذلك، ودراستها دراسة «قرآنيَّة» بحتة؛ لأنَّ ثلَّة هذا العلم قد خصُّوا به «القرآن»، ولا شكَّ أنَّ بعضهم قد ذهب إلى أنَّ «السُّنَّة» قد تنسخ «القرآن» ولا أرى ذلك إلا بابًا من أبواب «التَّحريف»، والعبث المتعمَّد الذي ينال من نصِّ «القرآن» الكريم نفسه.
ورد لفظ «نسخ» بمشتقَّاته في «القرآن» الكريم في عدد من «الآيات»، أوَّلها قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ «البقرة 106».
وتعدُّ هذه الآية من الأدلَّة القويَّة التي استندَ إليها أهل العلم في إثبات وقوع «النَّاسخ»، و«المنسوخ» في كتاب الله، وهو دليل واهنٌ لا تقوم به حجَّة، فضلاً عن أن يثبتَ فيه «علم»؛ وأظنُّ أنَّ الوهم دخل إليهم من أنَّ المراد بـ«الآية» هو «الآية» من القرآن الكريم، وهو بعيد عن الصَّواب.
ولكي نفهم المعنى المراد من «الآية» في قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا﴾ البقرة: 106. ينبغي أن نفهم السِّياق القرآنيّ الذي وردت فيه في مواضع أُخرى، فـ«القرآن» يفسِّرُ بعضه بعضًا، وخير ما يفسِّر «القرآنَ» «القرآنُ». إذ إنَّ المراد منها «المعجزة» الحسيَّة التي أصرَّ «المشركون» على حصولها، وألحوا في طلبها من النَّبيّ r كما ينصُّ «القرآن الكريم» نفسه، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ يُضِلّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ﴾ «الرعد 27»، وظاهرٌ أنَّ المراد «المعجزة» وليس «الآية القرآنيَّة»، يؤكِّد ذلك في موضع آخر حيث جاء: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَىَ أَن يُنَزّلٍ آيَةً وَلَـَكِنّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ «الأنعام 37». وهو ما أثبته «المفسِّرون» في كتبهم، على نحو ما نجده عند «الفخر الرِّازي» حيث يقول: «اعلم أنَّ الكفَّار قالوا: يا محمَّد إن كنتَ رسولاً فأتنا بآية ومعجزة قاهرة ظاهرة، مثل معجزات موسى وعيسى عليهما السَّلام».
ويؤكِّدُ ذلك أيضًا قوله تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ}الأنبياء: 25. حيث يظهر هنا أنَّهم يشككِّون في «القرآن» نفسه فيصفونه بـ«الأحلام» تارة، وبـ«الشِّعر» حينًا، لذلك طلبوا «آية» أي: معجزة تؤكِّد صدق النَّبيّ r.
وقد بيِّن القرآن الكريم «الآيات» أي: المعجزات التي طلبها المشركون، من ذلك قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن نّؤْمِنَ لَكَ حَتّىَ تَفْجُرَ لَنَا مِنَالأرْضِ يَنْبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنّةٌ مّن نّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السّمَآءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىَ فِي السّمَآءِ وَلَن نّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ حَتّى تُنَزّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبّي هَلْ كُنتُ إَلاّ بَشَراً رّسُولاً * وَمَا مَنَعَ النّاسَ أَن يُؤْمِنُوَاْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَىَ إِلاّ أَن قَالُوَاْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رّسُولاً﴾ «الإسراء 90- 94».
بل إنَّ «القرآن» قد أثبت أنَّهم لن يؤمنوا وإن أجاب الله طلبهم وتحقَّق مرادهم في حصول هذه «الآيات»، فقال تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ * وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ* وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ }الأنعام7 – 9. وقال في موضع آخر: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ }الحجر14 – 15. وقال أيضًا: {وَإِن يَرَوْا كِسْفاً مِّنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَّرْكُومٌ}الطور44.
وقد أورد «القرآن» غير ما سألوا وطلبوا كأن «يكلِّمهم الموتى»، وحكم بأنَّهم وإن حدث ذلك فلن يؤمنوا أيضًا، فقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }الأنعام111. وإنَّما أورد سبحانه وتعالى هنا غير ما سألوا؛ لأنَّهم أقسموا على أنفسهم بأنَّهم سيؤمنون كما يدلُّ مطلع «الآية» نفسها حيث جاء: {وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لّيُؤْمِنُنّ بِهَا قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ* وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْيُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}. الأنعام 109 – 110.
فهؤلاء قد حقَّ عليهم القول بعدم وقوع الإيمان منهم أبدًا كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ *وَلَوْجَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ }يونس 96 – 97. وقال أيضًا: {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}يونس 101. {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ }الأعراف132.
وهنا لا بدَّ لنا أن نتساءل: هل طلبَ «المسلمون» من «النَّبيّ» r أيَّ «آية»: معجزة؟ وهل أشار «القرآن» الكريم إلى ذلك إثباتًا، أو نفيًا؟ الجواب: إنَّ «المسلمين» من «أمَّة» محمَّد r لم يطلبوا منه معجزةً تدلُّ على صحَّة دعواه؛ لأنَّ «القرآن» الكريم نفسه كان «المعجزة» الوحيدة التي تحدَّتهم، والتي كفتهم ليعلموا أنَّه رسول من عند الله حقًّا، فقال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ* أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ العنكبوت: 50 – 51. وغيرها من «الآيات»؛ بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد نبَّه على نهيه لهم عن ذلك في قوله تعالى: {أمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. البقرة: 108. و«المسلمون» هم المعنيُّون في هذه «الآية» بخلاف من ذهب من «المفسِّرين» إلى أنَّ المقصود هم «اليهود». وقد بيَّن سبحانه وتعالى ما سأله قوم موسى r بأن يروا الله جهرة فقال تعالى: {فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً} النساء: 153.
بل إنَّ الله سبحانه وتعالى قد بيَّن السَّبب الذي من أجله توقَّف نزول «المعجزات» وهو تكذيب السَّابقين لها فقال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَنَآ أَن نّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاّ أَن كَذّبَ بِهَا الأوّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاّ تَخْوِيفاً﴾. الإسراء: 59.
(2)
يظهر من هذه «الآيات» أنَّ المراد من لفظ «آية» فيها «المعجزة»، وليست «الآية» من «القرآن» الكريم، وبالعودة إلى قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ «البقرة 106». والنَّظر في السِّياق الذي وردت فيه نجد أنَّ المراد منها «الآية» بمعنى «المعجزة»، يؤكِّدُ ذلك ثلاثة أمور:
الأمرُ الأوَّل: الآية التي قبلها حيث جاء قوله تعالى: ﴿مّا يَوَدّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزّلَ عَلَيْكُمْ مّنْ خَيْرٍ مّن رّبّكُمْ وَاللّهُ يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾. البقرة: 105. و«الخير» هنا هو «القرآن» يؤكِّدُ ذلك ما يلي:
أولا: أنَّ «المعجزة» التي نزلت على «أمَّة» محمَّد r هي «القرآن»، واختصَّهم بها، وتحدَّاهم بها، وهي «الآية» التي ذكرها في قوله تعالى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ العنكبوت: 50. وفيها أيضًا ذكرٌ لـ«الرَّحمة».
ثانيًا: أنَّ بعض «المفسِّرين» قد ذهب إلى أنَّ المراد بـ«الآية» هنا «القرآن»، وهو يدعم ما ذهبنا إليه؛ ومن ذهب إلى أنَّ المراد «نبوَّة» محمَّد r فهو يؤيِّد قولنا أيضًا؛ إذ إنَّ «النبوَّة» لم تكن لولا وجود ركنها وهو «القرآن» الكريم. وقد جمع «أبو حيَّان» معانيها في تفسيره فقال: «الخير: القرآن، أو الوحي، إذ يجمع القرآن وغيره، أو ما خصَّ به رسول الله r من التَّعظيم، أو الحكمة والظَّفر، أو النبوَّة والإسلام، أو العلم والفقه والحكمة، أو هنا عام في جميع أنواع الخير، فهم يودُّون انتفاء ذلك عن المؤمنين». وكلُّ هذه الأقوال مختصَّة ببراهين وأدلَّة صحَّة «نبوَّته» r.
ثالثًا: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد وصف «القرآن» الكريم بـ«الآية» كما يدلُّ السِّياق في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مّن رّبّهِ قُلْ إِنّمَا الاَيَاتُ عِندَ اللّهِ وَإِنّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مّبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىَ عَلَيْهِمْ إِنّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىَ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ العنكبوت:50 – 51.
وبما أنَّه ثبتَ أنَّ المراد بـ«الخير» هنا «القرآن» الذي هو «الآية» أي: المعجزة، أو ما يدلُّ على «نبوَّة» محمَّد r فقد جاءت الآية بعدها وهي قوله تعالى: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنّ اللّهَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ «البقرة 106». لتدلَّ على أنَّ من يأتي بـ«الخير» ويثبته، أو يمنعه، أو يؤجِّله هو الله سبحانه وتعالى، أي: «المعجزة».
الأمر الثَّاني: الآية التي بعدها حيث جاء قوله تعالى: {أمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ}. البقرة: 108. ولا يخفى على أحد أنَّهم ما سألوا «موسى» عليه السَّلام إلا «آيات» أي: معجزات كما سبقت الإشارة إليه.
الأمرُ الثَّالث: أنَّ «النِّسخ» هنا بمعنى «الإثبات» و«الكتابة» من: «نسختُ الكتاب»، وهو الأصل فيها، أي: نسخ الكتاب، من نسخة إلى أخرى، وليس «الحذف» و«الإزالة»، وهو ما ذهب إليه عدد من «المفسِّرين»، أي: نسخُ «القرآن» الكريم من «اللوح المحفوظ»، وبه قال «عطاء» و«سعيد بن المسيّب».
ويؤكِّدُ هذا المعنى «آيات» أخرى قد ورد فيها «النَّسخ» بمعنى «الإثبات» كقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ *وَتَرَىَ كُلّ أُمّةٍ جَاثِيَةً كُلّ أمّةٍ تُدْعَىَ إِلَىَ كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * هَـَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقّ إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ الجاثية: 27 – 29.
ولا شكَّ أنَّ «الكتاب» الذي ينطق عليهم بـ«الحقِّ» هو ما كانت «تنسخه» «الملائكة»: أي تكتبه وتثبته، كما قال تعالى: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنّا لاَ نَسْمَعُ سِرّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىَ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ﴾ الزخرف: 80.
بل إنَّ بعض «الأحاديث» الواردة في «صحيح البخاريّ» تشير وبوضوح إلى أنَّ «النَّسخ» بمعنى «الإثبات» وليس «الإلغاء»، من ذلك ما جاء فيه برقم /4984/ حيث جاء: «فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ لَهُمْ إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا»، ومعنى «أن ينسخوها»: أن يثبوتها ويكتبوها.
ونظيره ما أخرجه أيضًا برقم /4987/ حيث جاء: «أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَان:َ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلَافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ: أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ». وظاهر أنَّ «ننسخها»: أي نثبتها ونكبتها ثم يردُّها إلى «حفصة» رضي الله عنها.
وبعدَ أن حاول العلماء أن يثبتوا وجود «النَّاسخ والمنسوخ» في «القرآن» الكريم اختلفوا في جوازه عقلا، ووقوعه شرعًا، وبماذا يُنسخ، وغير ذلك من أحكامه، ودلائل تلك الأحكام، وطوَّلوا كثيرًا، وهو جهد في غير محلِّه؛ لأنَّه بُني على أصل باطل، ووهْم درجوا عليه من دون دراية أو روَّية؛ لأنَّه كما ثبت أنَّ المراد بـ«النَّسخ» في «القرآن» هو «الإثبات» لا «الإلغاء»، وعجيب ممَّن ذهبوا إلى وقوع «النّسخ» بمعنى «الإلغاء» في القرآن الكريم والله تعالى يقول: ﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمّ فُصّلَتْ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ هود: 1. وفي موضع آخر يقول: ﴿وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبّكَ لاَ مُبَدّلَ لِكَلِمَاتِهِ﴾ «الكهف: 27.
وقد وقع «النَّسخ» بمعنى «الإلغاء» في «العصر العباسيّ» على يد
«اليهوديّ» «أبي عيسى الأصفهانيّ»، حيث قال بوجود أحكام معطَّلة في «التَوراة»،
وتبعته جماعة أُطلق عليهم اسم «العيسويَّة»، وقد دخل هذا الفكر إلى الدُّولة
«العبَّاسيَّة»، وتلقَّفه العلماء المسلمون بشغف، مع وجود مَن يتربَّص بهذا «الدين»
الكيد والخداع، ومثل هذا «النِّسخ» بمعنى «الإلغاء» ليس بجديد على «اليهود»، فقد
أثبتَ «القرآن» الكريم وقوعه منهم، فقال تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ
تَسْفِكُونَ دِمَآءِكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ
أَنْفُسَكُمْ مّن دِيَارِكُمْ ثُمّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾
البقرة: 84. إلا أنَّهم نقضوا الميثاق، فقال تعالى: ﴿ثُمّ أَنْتُمْ هَـَؤُلآءِ
تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً
مّنْكُمْ مّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىَ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرّمٌ عَلَيْكُمْ
إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ
بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ
الدّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدّونَ إِلَىَ أَشَدّ الّعَذَابِ وَمَا اللّهُ
بِغَافِلٍ عَمّا
تَعْمَلُونَ﴾ البقرة: 85. وفي موضع آخر سمَّاه «تحريفًا» فقال تعالى: {فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً
يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}. المائدة: 12.
وبالجملة فقد بدأت حركة فكريَّة جديدة تقوم على ما يلي:
أولًا: تعطيل الأحكام الشَّرعيَّة بما لا تتناسب مع واقعها، بحجَّة أنَّها «منسوخة»، وهي أحكام كثيرة جدًّا، يمكن مراجعتها في كتب «الفقه» ليقف القارئ على التَّناقض الواضح، والتَّعارض الصَّريح لنصّ «القرآن» الكريم نفسه، بل إنَّهم جعلوا «الحديث» حَكَمًا على «القرآن» بحيث يمكن لـ«الحديث» أن يبطل «القرآن» على نحو ما فعلوا فيما نسبوه للنَّبيّ r: «لا وصية لوارث»، و«حدّ الرَّجم» وغيرها.
بل إنَّ بعضهم قد تعدَّى «الحديث» ليجعل من رأيه حَكَمًا على «القرآن» فإن وافقه لم يقل بـ«النَّسخ» فإن خالفه قال به، على نحو ما يذكره «الفخر الرَّازي» حيث قال: «المسألة الثانية: إن فسَّرنا الآية بأنَّها تدلُّ على تجويز التّوجّه إلى أيّ جهة أريد، فالآية منسوخة. وإن فسَّرناها بأنَّها تدلُّ على نسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة فالآية ناسخة، وإن فسَّرناها بسائر الوجوه فهي لا ناسخة ولا منسوخة».
يظهر أنَّهم يجعلون «الآية» نفسها «ناسخةً» تارةً، و«منسوخة» تارة ثانيةً، ولا هذا ولا ذاك تارة ثالثة، وهو عبثٌ ما بعده عبث بـ«آيات» الله سبحانه وتعالى.
ثانيًا: وضْع أحاديث كثيرة ونسبتها زورًا وبهتانًا إلى النَّبيّ r لتثبيت الأحكام الجديدة مكان المعطَّلة، إضافة إلى عدم تمكُّنهم من تغيير نصِّ «القرآن» الكريم المتكفَّل بحفظه، فكانت «الأحاديث» مادَّة خصبة يستخدمونها كيفما شاؤوا، ولم يكن «التَّأويل»، و«التَّفسير» إلا رافدًا لهذه «الأحاديث» ومؤِّيدًا لها.
ثالثًا: عدم اتّفاقهم على «الآيات» النَّاسخة، و«الآيات» المنسوخة، فقد تكون عند بعضهم «ناسخة»، وقد لا تكون عند بعضهم الآخر كذلك، على نحو ما ذكره «الفخر الرَّازي» حيث قال: «المسألة الأولى: قال بعضهم هذه الآية منسوخة، وذلك لما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال: لما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك على المسلمين؛ لأنَّ حقّ تقاته: أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى، والعباد لا طاقة لهم بذلك، فأنزل الله تعالى بعد هذه {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} ونسخت هذه الآية أوَّلها، ولم ينسخ آخرها وهو قوله {وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ}، وزعم جمهور المحققين أنَّ القول بهذا النَّسخ باطل واحتجُّوا عليه من وجوه». وفي موضع آخر قال: «ومن الجهَّال من قال: صارت هذه الآية منسوخة بتلك، وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلم، وهذا لا يصير منسوخًا». وفي موضع ثالث يقول: «واختلفوا في أنَّها هل نسخت أم لا ؟ فذهب السّواد الأعظم من الأمّة إلى أنّها صارت منسوخة، وقال السَّواد منهم: إنَّها بقيت مباحة كما كانت»، ونظيره ما ذكره «القرطبيُّ» في مواضع مختلفة في تفسيره منها قوله: «تعالى: ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه. الآية. للعلماء في هذه الآية قولان: أحدهما: أنَّها منسوخة، والثَّاني: أنَّها محكمة».
ولو أردنا تتبَّع مواضع الاختلاف في ذلك لما كفانا مجلَّدٌ أو اثنين، ويكفي هذا العلم ضعْفًا وسقوطًا كثرة اختلافاتهم فيه، وهو من عند أنفسهم، أمَّا كلام الله فهو القائل فيه { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} النّساء: 82.
لذلك أرى أنَّ «النَّاسخ» و«المنسوخ» مسألة يجبُ هدمُها من أساسها؛ لأنَّها لم تبنَ على أصل شرعيّ صحيح؛ بل هي دخيلة على الفكر العربيّ في عصر متأخِّر، حاول العابثون إخضاع «القرآن» الكريم لها، ليعطِّلوا من «أحكام» و«حدود» الله ما لا يناسب واقعهم وأهواءهم، ويثبتون من خلالها أوهامًا، أصبحت مع طول الفترة الزَّمنيَّة شرعًا حلَّ محلَّ «الشَّرع القرآنيّ» نفسه، فضلُّوا وأضلُّوا.