لا بد من وضع نهاية للاستثناء السوري
د. بشير موسى نافع
تداولت وسائل الإعلام العربية خلال الأسبوع الماضي صور ورواية مقتل الفتى حمزة علي الخطيب. الفتى، ابن الثلاثة عشر عاماً، كان قد اعتقل من قبل قوات أمن، أو مجموعات مرتبطة بقوات الأمن، وتعرض كما يبدو لتعذيب وحشي قبل أن يطلق عليه النار. ثمة فتيان كثر في أنحاء سورية يشاركون في حركة الاحتجاج الشعبية، كما شارك فتيان عرب كثر ويشاركون في حركة الثورة العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن. وربما قتل أو سيقتل منهم في خضم جنون العنف الذي مارسته وتمارسه أجهزة الأمن العربية ضد شعبها. ولكن ما أخضع له حمزة الخطيب لم يسجل من قبل، لا في أية لحظة من مجريات الثورة العربية حتى اليوم ولا حتى في سياق الصراع الدائر في فلسطين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي وأجهزة أمنه. ولم يكن غريباً بالتالي أن تثير حادثة تعذيب ومقتل الفتى السوري غضباً عربياً شعبياً جارفاً، وملايين الأسر العربية ترى في وجهه المبتسم والبريء وجوه أبنائها؛ ناهيك عن غضب السوريين في كافة أنحاء البلاد.
بيد أن رد فعل الحكم السوري والناطقين باسمه كان مختلفاً. لم يقم النظام السوري هذه المرة بتشكيل لجنة للتحقيق في الحادثة، حتى لمجرد المظهر، طالما أن أحداً لم يسمع من أي من لجان التحقيق التي شكلت طوال الشهور الثلاثة الماضية. أنكر النظام مسؤوليته عن الحادثة كلية، مرة بنفي تعرض الفتى أصلاً للتعذيب، والإيحاء بالتالي أن مقتله كان مجرد حادث عرضي، ومرة بالقول أن الشريط المصور لجثة الفتى هو شريط مزيف. المشكلة، بالطبع، ليست في حادثة حمزة الخطيب وحسب، فالأدلة المتوفرة الآن للمنظمات الحقوقية حول ممارسات التعذيب المنهجية التي تقوم بها أجهزة الأمن السورية لا تعد ولا تحصى. ولكن إحدى أبرز الشهادات على التعذيب جاءت في الأسبوع الماضي من صحافي محترف، ليس له مجرد مصلحة أصلاً في تزييف الوقائع. في يوم الخميس 26 ايار/مايو، نشر سليمان الخالدي، مراسل رويترز السابق في سورية، تقريراً عن تجربة أربعة أيام قضاها في معتقل لأجهزة الأمن السورية. مشاهدات مراسل رويترز، وإن كانت أكثر تفصيلاً وقسوة، لا تختلف كثيراً عن مشاهدات مراسلة شبكة الجزيرة إيرانية الأصل، التي قضت هي الأخرى ثلاثة أيام في استضافة المخابرات السورية، قبل أن ترحل مجبرة إلى إيران.
كتب الخالدي: 'في غضون دقائق من احتجازي، تم إدخالي مبنى تابعاً لجهاز الاستخبارات السورية، حيث شاهدت رجلاً معلقاً من قدميه، بينما كان يصطحبني أحد السجانين إلى غرفة التحقيق لاستجوابي ...' وقال، 'كان الشاب معلقاً ورأسه متدلياً إلى أسفل ويسيل من فمه لعاب أبيض ذو رغوة، وتبدو أناته أقرب إلى أنات وحش منها إلى إنسان. كانت هذه واحدة من صور الإذلال الإنساني الكثيرة التي شاهدتها أثناء أربعة ايام ...' وروى أيضاً، 'كان بإمكاني سماع صوت قعقعة القيود والصرخات الهستيرية التي ما زال صداها يتردد في ذهني حتى اليوم.' وقال مراسل رويترز، الذي سبق أن أرسل تقارير من مدينة درعا أغضبت النظام، أنه ظل في معظم أوقات اعتقاله معصوب العينين، ولكنه سمح له أحياناً بإزالة العصابة لبضع دقائق، وهو ما أتاح له مرة رؤية 'رجل مقنع يصرخ من الألم. وحينما طلبوا منه خلع سرواله، بات بإمكاني أن أرى أعضاءه التناسلية المتورمة المربوطة بإحكام بحبل بلاستيكي. قال الرجل، الذي ذكر أنه من مدينة إدلب شمال غربي سورية: ليس لدي ما أقوله، لكنني لست خائناً للوطن ولا ناشطاً سياسياً. أنا مجرد تاجر.' ولكن ما كان ينتظر الأدلبي المعتقل كان أسوأ، فبعد قليل، يذكر الخالدي، 'شاهدت منظراً أفزعني، رجلاً يرتدي قناعاً وقد أمسك بزوج من الأسلاك المعدنية من مقبس كهربائي منزلي وقام بصعقه بالكهرباء في رأسه.'
الذين يعرفون سجون أجهزة الأمن العربية، سواء من خلال تجربة مباشرة أو غير مباشرة، يعرفون أن ما رواه الخالدي هو على الأرجح صحيح. كل أجهزة الأمن العربية كانت تمارس تعذيب مواطنيها، وعدد منها لم يزل يفعل ذلك. والمعروف أيضاً أن أجهزة الأمن السورية هي أحدى أبشع من يمارس التعذيب بين مؤسسات أمن المجال العربي الفسيح. والمؤكد أن قطاعاً واسعاً من المثقفين والكتاب وأهل الرأي العرب يدرك هذه الحقيقة، وبعضهم ربما تعرض بالفعل لممارسات أجهزة الأمن السورية في فترة ما من حياته. المؤكد أن حالات التعذيب قد تقلصت قليلاً خلال السنوات القليلة الماضية، في وقت كانت ثقة النظام بنفسه وصلت مستوى غير مسبوق وتضاءل بالتالي شعوره بالتهديد، ولكن التعذيب تقليد مؤسس، عميق الجذور، ولم يكن يتطلب الأمر سوى بروز تحد مثل ذلك الذي يواجهه النظام من شعبه الآن، لتعود الأجهزة السورية إلى الاعتقالات العشوائية وغير العشوائية، الاعتقالات الكثيفة، وإلى ممارسة التعذيب على نطاق واسع. حملات الاعتقال المستمرة، وممارسة التعذيب المنهجي، تأتي إلى جانب مقتل ما يزيد على الألف مواطن من المتظاهرين العزل برصاص قوات الأمن والوحدات العسكرية. عندما يرى النظام أن الحراك الشعبي الذي يواجهه لا يعكس حالة تأزم سياسي، تتطلب إرادة فعل واستجابة سياسية، بل يمثل معركة حياة أو موت، ليس لنا أن نتوقع ممارسة أقل من تلك التي شاهد مراسل رويترز جزءاً ضئيلاً منها فقط، أو حملتها حادثة مقتل الفتى حمزة الخطيب. وهذا ما يطرح أسئلة هامة على قادة الرأي العام العربية، علماءً وكتاباً وصحافيين وسياسيين ومثقفين.
منذ اندلعت الحركة الشعبية السورية، أخذت أعداد من المثقفين وقادة الرأي العام العربي في الإعلان عن تأييدها للشعب السوري وحركته. ولكن قطاعاً ملموساً من هؤلاء سارع إلى الدفاع عن نظام الحكم، أو لجأ إلى الصمت وتجاهل المسألة السورية كلية. ما أسس لهذا الموقف الغريب من الحركة الشعبية السورية، الذي لم نر مثيلاً له في رد الفعل العربي على الثورتين التونسية والمصرية، هو بالطبع مقولة الاستثناء السوري. سورية مختلفة، يقول هؤلاء، والنظام السوري يختلف عن النظامين التونسي والمصري، وربما أيضاً عن نظامي اليمن وليبيا. سورية دولة مقاومة وممانعة، وقفت وتقف ضد النفوذ الأمريكي والسياسة العدوانية الإسرائيلية، ووقفت وتقف إلى جانب المقاومة العربية والإسلامية في لبنان وفلسطين. فكيف نسمح بزعزعة النظام السورية ودفع سورية إلى هاوية الاضطراب؟
لتوفير شيء من المنطق والمصداقية، ثمة عدد من المسائل الهامة التي يتطلب الاستثناء السوري نسيانها أو غض النظر عنها. يتطلب الاستثناء السوري تجاهل حقائق الاتصال والترابط الوثيق بين الشعوب العربية، حالة الوعي العربي المشتركة، التي جعلت من حركة الثورة في المجال العربي خلال الشهور الستة الماضية تياراً متصلاً من حلقات التغيير والثورة، يبدو أن دولة عربية واحدة لن تستطيع أن تعزل نفسها وشعبها عنه بأي حال من الأحوال. ويتطلب الاستثناء السوري تجاهل طموحات وآمال السوريين في بناء دولة تكفل الحقوق الأساسية لمواطنيها، حقوق الحياة الحرة والكريمة ومساواة المواطنين أمام القانون، والقول بأن ليس من حق السوريين أن تكون لهم طموحات التونسيين والمصريين واليمنيين والليبيين، وغيرهم من الشعوب العربية الشقيقة التي ترفع صوتها اليوم مطالبة بالتغيير والإصلاح. ويتطلب الاستثناء السوري اللجوء إلى مقايضة حقوق السوريين السياسية الأولية بسياسات النظام العربية، والتغاضي الشرير عن إهانة كرامة السوريين واعتقالهم وتعذيبهم وقتلهم بالمئات مقابل بقاء الحكم السوري مستقراً وممانعاً. بل وحتى ما هو أكثر من ذلك؛ فالخوف على سورية النظام من سورية الشعب، يستبطن الخوف على سياسات سورية ومواقفها العربية من الشعب السوري نفسه، وبالتالي فقدان الثقة في الشعب السوري وقدرته على تحمل مسؤولياته العربية التي تحملها بلا شكوى ولا انقطاع منذ ولادة سورية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الأولى والانهيار العثماني.
الحقيقة، بالطبع، أن العرب، والعرب على وجه الخصوص، لا يستطيعون، لا سياسياً ولا أخلاقياً، اتخاذ مثل هذا الموقف من المسألة السورية. نظام يواجه مطالب شعبه في الإصلاح بمثل هذا العنف، وبهذا القدر من القتل والاعتقال والتعذيب، نظام لا يتورع عن الانتقام من فتى في الثالثة عشرة من عمره لأنه شارك في مظاهرة ما، أو اشتبه في مشاركته، لا يستحق الاعتذار له، أو الوقوف إلى جانبه، ولا الصمت عن جرائمه. وعلينا جميعاً في النهاية أن نسأل السؤال الأولي حول ما إن كان باستطاعة مثل هذا النظام أن يلتزم فعلاً سياسة ممانعة.
بالطبع، لا يمكن لاحد ان يتجاهل أهمية سورية، أهمية موقعها والدور الذي تتطلعه في تقرير مصير ومستقبل العرب والمشرق العربي. وفوق أن الثورة ليست هواية ولا حدثاً طبيعياً في حياة الأمم والشعوب، فإن حماية وحدة سورية واستقرارها ومقدراتها لابد أن يكون شأناً عربياً بالغ الأهمية. ولكن العمل من أجل حماية سورية ومقدراتها، العمل من أجل الحفاظ على دور سورية وموقعها، يتحقق الآن بالوقوف إلى جانب الشعب السوري ومطالبه، وتعزيز حركته، والحرص على أن تصل هذه الحركة، كما يحددها الشعب السوري نفسه، إلى أهدافها بأسرع وقت ممكن؛ وليس التصرف وكأن بعض العرب ينوب عن السوريين أو أنهم أقدر من الشعب السوري في تقدير مصلحة بلاده. لحماية سورية، باختصار، لا بد من وضع نهاية لأوهام الاستثناء السوري.