وانكسر جدار الخوف في بلاد الشام
الشيخ ابو النور قره علي
باحث شرعي ـ سورية
إن هؤلاء الذين خرجوا قد أيقنوا أن صدورهم المكشوفة تحمل قلوبا تردد، وهي ترشق بالموت: ألا فلا نامت أعين الجبناء، إنهم فئات ربّوا في قصر فرعون وظن الناس أنه قد انتهى أمرهم، وذابت قواهم، وترنحت عزائمهم، وتميّع سلوكهم، وتغربت ثقافتهم، فإذا بهم شباب يرددون: لو وضعوا الشمس في أيماننا إغراءً، والقمر في يسارنا رشوة على أن نترك هذا الرأي عزة وحرية لما تركناه حتى يحققه الله بجهدنا أو أن نموت دونه بكرامتنا..
جال ذهني في الأحكام الشرعية، عندما سُئلت عما يحدث في بلاد الشام، فوجدت نفسي ملزماً بمناهج الأحكام وقوانين الفتوى بثلاثة أمور:
1ـ فهم الحكم الشرعي لمثل هذه الحالة،
2ـ فهم واقع الحالة وأهدافها،
3ـ كيف أنزل هذا الحكم على هذه الحالة ضبطاً ودقة.
ثم رأيت في مقاصد الشريعة ما يدفعني إلى طلب آخر وهو فقه المآلات لهذه الحالة، وإلى أية نتائج ستمضي الحالة إليها، كما ألزمني علم المقاصد أن أتعرف إلى المصالح التي ستؤدي إليها هذه الحالة لأوازنها بما يحتمل أن تؤدي إليه.
وهكذا وجدت نفسي أمام أسئلة يحتاج المرء للإجابة عليها أن يحيط قبل الإجابة بأمور تستدعي زمانا كما تستدعي رجالا بتنوع اختصاصاتهم، يقدم كل منهم بدوره، ويقدم كل من خلال فنه من المعلومات ما يساعد على تكوين تصور جماعي يتفرع منه ما تقتضيه الحالة من إجابة شافية، لا يمكن صدورها مني لكوني فرداً، إضافة إلى كوني بعيداً عن الحدث مادياً وموقعاً، وإن كنت أغوص في بحاره معنوياً وشعورياً.
كما يمكن القول بأن هذا لن يتأتى لأي إنسان يعيش غمار هذه الأحداث وتلفه أمواجها، فيصبح في موقع ويمسي في آخر، وخاصة ونحن جميعا في مجتمع لم يتجهز أهله، وقاده فكره في وقت الرخاء، ولم يعملوا على تكوين المراجع وإقامة مؤسسات أهل الذكر ودوائر الخبرة التي ينتج عنها سداد الرأي ورشد المواقف المنقذة من غيّ التحير والتردد.
لذا رأيتني أتوجه نحو منحنى آخر وأسترشد بمنهج يختلف هديه عن المنهج السابق الذي يتعسر فهمه في كثير من جوانبه، وانتقلت من التعقيد إلى التبسيط، ومن الدروب الضيقة وعسرها إلى الشوارع العريضة ويسرها، وهذا أمر ضروري في مثل هذه المواقف، فإن فساد الرأي هو من أعظم بلايا الكون، ومن فساد الرأي أن تعتمد على مجهول لحل مشكلة واقع معلوم، وهو قلب للمنهج العلمي والفكري الذي يقرر بأنه لابد من ترتيب قضايا معلومة من أجل الوصول إلى قضية مجهولة…
وكان أن سلطت الضوء على ما هو معلوم، فكان منه ما يلي:
أن الشعب قد تحرك في هذا الظرف بتلقائية واضحة وتجمع بطريقة عفوية وخرج من قمقمه دون أوامر قيادية صادرة من تجمعات ذات مذهب أو لون أو إيديولوجية، وإن كل فرد من هؤلاء المتجمعين الوثابين رأى بجانبه أفرادا يتشحون بأكفانهم كما اتشح هو، ورفعوا أصواتهم يطالبون بما رفع هو صوته ويطالب، ولكن بدون موعد مسبق أو اتفاق مبرم أو مجلس حوار يعقد، ولقد قال أحد المفكرين: “ولو جلسوا للحوار لما خرجوا، ولو تباحثوا لما انطلقوا، ولو أرادوا اتخاذ قرار بالخروج لتفرقوا…”، وهذا ما قاله القرآن عن أمثالهم: {ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد}.
أي لم يكن هذا التحرك بزخمه وقوته نتيجة بحث بل نتيجة شعور، ولا نتيجة حوار واتفاق ولكن توافق أقدار بين مشاعر الفطرة وقهر الاضطرار، كما ينحسر الليل أمام زحف النهار، وها هو النظام بكل جهوده الإعلامية وتصرفاته الكيدية يحاول أن يلبس هؤلاء قبعة فئوية، أو يرمي عليهم ألوانا تميزهم بنوع من أنواع الإيديولوجية الحزبية ليفصلهم عن الأمة كجزء منها، أو أن يميزهم باتجاه يخالف بوصلة مشاعرها، ولم يستطع ولن يستطيع أن يجد لذلك سبيلا.
ثم رأيت ما يراه كل مخلوق مبصر، وسمعت ما يسمعه كل صاحب أذن واعية، سمعت هتافات تطالب بالحرية وبطريقة سلمية، ورأيت رايات تؤكد الهوية الوطنية وتناشد بوحدة تجمعها على إصلاحات
أهم القضايا الإنسانية، وتأكدت بأن ما يريده هذا الحشد المبارك هو نفسه ما يريده الطير في أجواء السماء، وما يناله السمك من طلاقة الحركة في عمق الماء، وما تتلألأ به نجوم السماء، وما يبشر به الرعد ويرسله البرق من إشارات الغيث والعطاء، وما تحكيه اختلافات الألوان من منهجية تناسق الأضداد وروعة الاتساق.
إن ما يريده هؤلاء هو ما صرخ به عيسى المسيح طفلا، فقال إني عبد الله، أظهر هوية تميّزه قبل أن يمنحه أحد هوية قبلية الانتماء، وهذا ما ارتسم على وجه موسى الرضيع من براءة أسلمتها الأم إلى
أمواج التوكل، فتزلزلت بها قصور الاستكبار، وهو نتاج الزمن الذي بلغ آنذاك ألف عام يرتجي من خلالها نوحُ الزمان رفعَ الأنام إلى معنى الأمن والسلام، هو صدى لأنين يعقوب وأيوب من ألم فراق الولد أو سقم البدن، فهذا يردد عسى أن يأتيني بهم جميعا، وذاك يدعو رب إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين.
إن ما أخرج هؤلاء هو ما أخرج سيدنا إبراهيم إلى ساحة الأصنام يريد تحطيم استكبارها بعد أن ذاق مرارة دجلها وعبثها، وقد ادّعى أربابها أنهم يملكون قضية الموت والحياة بصلف جاهل وحذلقة تلوي حقائق الوجود، لقد خرجوا وهم يعلمون علم اليقين بأن نار الغيظ تنتظرهم في الشارع العام، وأمام الملأ العالمي يحملون اليقين الإبراهيمي، بأن النار ستنقلب إلى برد وسلام، فهم قد أعدوا لجلاديهم صدورا تخفق قلوبها.
إن هؤلاء الذين خرجوا قد أيقنوا أن صدورهم المكشوفة تحمل قلوبا تردد، وهي ترشق بالموت: ألا فلا نامت أعين الجبناء، إنهم فئات ربّوا في قصر فرعون وظن الناس أنه قد انتهى أمرهم، وذابت قواهم، وترنحت عزائمهم، وتميّع سلوكهم، وتغربت ثقافتهم، فإذا بهم شباب يرددون: لو وضعوا الشمس في أيماننا إغراءً، والقمر في يسارنا رشوة على أن نترك هذا الرأي عزة وحرية لما تركناه حتى يحققه الله بجهدنا أو أن نموت دونه بكرامتنا.
وإنهن فتيات يصرخن (بنون النسوة) أمام (واو ونون) من توهموا بأنهم الفاعلون، أو (ياء ونون) المبطلين والجبارين، إنهم جمع لم يشدوا على أوساطهم زنانير التبعية، بل رفعوا الصوت من حناجرهم يقولون حرية، كرامة، حرية.
إنهم الذين اجتازوا الامتحان، ورفضوا عفونة المكان، وأدركوا حقيقة الإنسان، ومن نال شرف التقدم إلى الصفوف الأولى ينبغي أن تخجل الموعظة الباردة أن تدلي أمامه بكلمة، أو تحذره من مأزق قادم، فأصحاب النجاح المتميز أشد الناس حذرا من انزلاقة التراجع إلى الوراء، هذا ما ارتأيته يقينا وأصعب أن أتركه لمجرد تخمينات أو أوهام،
وأخيرا.. أختم بكلمات أرجو أن لا ننساها: لا تراهنوا في هذه الأحداث على غنائم المباني، بل راهنوا على انتصارات المعاني، واذكروا أيضا أن سيدنا عيسى عليه السلام لم يحطم عرش قيصر، ولكنه أزال من العقول وهم قيصر، فإذا لم يحقق شعبنا بسط الأمن وإزالة عروش الباطل، ولكن يكفيه حتى الآن أنه كسر جدار الخوف واخترق حصون الأوهام.