دعوها فإنها منتنة
د. بدر عبد الحميد هميسه
نهى الإسلام عن العصبية بكل أشكالها وصورها , فقد جاء الدين الحنيف وجعل أولى أهدافه ومقاصده توحيد الخلق على عبادة الحق , وجمعهم تحت راية واحدة هي راية الإسلام , قال تعالى : " وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) سورة البقرة .
وقال تعالى : " قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) سورة البقرة .
وقال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) سورة آل عمران .
وقال تعالى : " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) سورة الحج.
فهذه الآيات وغيرها تؤكد على أن شعار المسلمين يجب أن يكون الإسلام ولا شيء غيره , يحيون عليه ويموتون عليه .
وأما العصبيات الزائفة للقبيلة أو الجنس أو اللون أو المذهب فهي من أعمال الجاهلية , ولا تساوي في ميزان الإسلام شيئا , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ : الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ. أخرجه أحمد2/377(8892) و"مسلم" 139 .
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ثَلاَثٌ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، لاَ يَتْرُكُهُنَّ أَهْلُ الإِسْلاَمِ : النِّيَاحَةُ ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ ، وَكَذَا.أخرجه أحمد 2/262(7550) وابن حِبَّان (3141) الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 411 .
وعَنِ الْمَعْرُورِ بْنَ سُوَيْدٍ ، قَالَ : لَقِيتُ أَبَا ذَرٍّ بِالرَّبَذَةِ ، وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ ، وَعَلَى غُلاَمِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ: إِنِّي سَابَبْتُ رَجُلاً ، فَعَيَّرْتُهُ بِأُمِّهِ ، فَقَالَ لِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَبَا ذَرٍّ ، أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ ، وَلاَ تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ. أخرجه أحمد5/158 (21738) و"البُخاري" 1/14(30) و"مسلم" 5/92(4326) .
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يغضب غضباً شديداً كلما ثارت هذه النعرات وتلك العصبيات , فيحذر أصحابه منها ,فعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ:كُنَّا فِي غَزَاةٍ ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنْصَارِ ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَا لَلْمُهَاجِرِينَ ، فَسَمَّعَهَا اللهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : مَا هَذَا ؟ فَقَالُوا : كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ : يَا لَلأَنْصَارِ ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ : يَالَلْمُهَاجِرِينَ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعُوهَا ، فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ . قَالَ جَابِرٌ : وَكَانَتِ الأَنْصَارُ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَكْثَرَ ، ثُمَّ كَثُرَ الْمُهَاجِرُونَ بَعْدُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيٍّ : أَوَ قَدْ فَعَلُوا ، وَاللهِ ، لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ : دَعْنِي ، يَا رَسُولَ اللهِ ، أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : دَعْهُ ، لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ.أخرجه "أحمد" 3/338(14686) و"البُخَارِي" 3518.
1- لا .. للعصبية القبلية :
الله تعالى كرم بني آدم وجعلهم قبائل وشعوباً، وامتن عليهم بهذه النعمة وهذا التكريم بقوله: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) سورة الإسراء.
قال الإمام علي رضي الله عنه :
الناس من جهة التمثيل أكفاء * * * أبوهم آدم، والأم حواء
فإن يكن لهم من بعد ذا نسب * * * يفاخرون به، فالطين والماء
أنزل الله تعالى سورة الحجرات لتعالج الفخر القبلي، حين يخرج عن طوره، قال تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) سورة الحجرات.
وعَنْ أَبِي مِجْلَزٍ ، عَنْ جُنْدَُبِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْبَجَلِيِّ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ.أخرجه مُسْلم 6/22(4820).
قال الشاعر :
لعمُركَ ما الإنسان إِلا بدينهِ * * * فلا تتركِ التقوى اتكالاً على النَّسَبْ
فقد رفعَ الإسلامُ سلمان فارسٍ * * * وقد وَضَعَ الشِّرْكُ الشريفَ أبا لهبْ
وقال آخر :
أبي الإسْلامُ لا أَبَ لِي سِوَاهُ * * * إِذَا هَتَفُوا بِبَكْرٍ أَو تَميمِ
بدعوى الجاهلية لم أجبهم * * * ولا يدعوا بها غير الأثيم
دَعيُّ القَوْمِ يَنْصُرُ مُدَّعِيهِ * * * فيُلْحقُهُ بذي النَّسَبَ الصَّميمِ
وما كَرَمٌ ولو شَرُفَتْ جُدُودٌ * * * ولكنَّ التَّقِيَّ هو الكَرِيمُ
فالعدالة الاجتماعية والمساواة بين الناس هي إحدى الأسس التي قامت عليها الدعوة الإسلاميّة، فساوى الرسول ً بين عبيد مكة وأشرافها، وأغنيائها وفقرائها، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين العرب ومواليهم من الأحباش والفرس والروم، ودروس السيرة النبوية في ذلك كثيرة، ويكفي حديث (سلمان منّا آل البيت).
2-لا .. للعصبية القومية :
وكما نهى الإسلام عن التعصب للقبيلة فقد نهى كذلك عن التعصب للقومية والجنس , وما ظهرت الشعوبية حين ظهرت إلا بسبب العصبية للجنس على حساب الدين والعقيدة , فبعد انتشار الإسلام واتساعه على يد العرب ، ومجئ العصر الأموي الذي كان يعتمد على سيوف العرب في فتوحاته وتوسعه، ظهر التمييز بين العرب والموالى، وفى أيسر تعريف للموالى أنهم المسلمون من غير العرب، وأحسّ العرب بتفوق جنسهم الذي كان منه الخلفاء والأمراء والكتاب والشعراء والفقهاء، وافتخر العرب بجنسهم ولم يساووا بينهم وبين الموالى في الحقوق والواجبات ؛ فبدأ الطرف الآخر في العصبية المضادة فظهرت الشعوبية في بدايات العصر العباسي. وهي حركة من يرون أن لا فضل للعرب على غيرهم من العجم. ووصلت إلى حد تفضيل العجم على العرب والانتقاص منهم.
وكان للشعوبية دور في إنشاء الفرق الباطنية كالقرامطة والنصيرية وغيرهم مما كان له أثره السيء على وحدة الدولة الإسلامية , وكان عائقاً في استمرار تقدمها , بل كان مدعاة لتكالب الأمم عليها , ونسي المسلمون قوله تعالى : " إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) سورة الأنبياء , وقوله سبحانه : " وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) سورة المؤمنون , وقوله تعالى : " إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) سورة الحجرات .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ ، مَثَلُ الْجَسَدِ ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ ، تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى. أخرجه أحمد4/268(18545) و"البُخَارِي" 8/11(6011) و"مسلم"8/20(6678) .
تناسى المسلمون ذلك وبدأوا يصنفون بعضهم على أساس القومية والعرق ثم على أساس القطر والوطن , ورأينا بعض الدول الإسلامية تعادي بعضها ربما من أجل مباراة في كرة القدم , ولم يفقهوا قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ ثُمَّ مَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِلْعَصَبَةِ وَيُقَاتِلُ لِلْعَصَبَةِ فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِى وَمَنْ خَرَجَ مِنْ أُمَّتِى عَلَى أُمَّتِى يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا لاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِى بِذِى عَهْدِهَا فَلَيْسَ مِنِّي.أخرجه أحمد 2/296(7931) و"مسلم" 6/20 و 21, الألباني حديث رقم : 6227 في صحيح الجامع .
وعَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ.أخرجه أبو داود (5121) الألباني حديث رقم : 4935 في ضعيف الجامع .
ونسي الناس أن الإسلام هو جامعهم الأكبر وجامعتهم التي يجب أن يتجهوا إليها .
قال الشاعر :
أنا مسلم وأقولها مِلء الورى * * * وعقيدتي نور الحياة وسؤددي
سلمان فيها مثل عمر لا ترى * * * جنساً على جنس يفوق بمحتدي
وبلال بالإيمان يشمخ عزة * * * ويدق تيجان العنيد الملحد
وخبيب أخمد في القنا أنفاسه * * * لكن صوت الحق ليس بمُخْمدِ
ورمى صهيب بكل مال للعدا * * * ولغير ربح عقيدة لم يقصد
إن العقيدة في قلوب رجالها* * * من ذرة أقوى وألف مهند
3-لا .. للعصبية المذهبية :
وكما حذر الإسلام من العصبية للقبيلة والجنس فقد حذر أيضا من العصبية المذهبية , والتي تعد أشد خطراً وأكثر تأثيرا من العصبية القبلية والقومية ؛ لأن العصبية المذهبية يلبسها أصحابها ثوب الدين , والدين الصحيح والفطرة السديدة والمحجة البيضاء التي تركنا النبي صلى الله عليه وسلم عليها أبعد ما تكون عن تلك العصبية الدينية ؛ لأنها تقوم على أسوأ خصلتين، وأقبح وأشنع رذيلتين، الخلق الأول: سوء الظن، والحكم على النيات، والخلق الثاني: هو تصور احتكار الحقيقة ونفي الآخر وازدرائه وتحقيره , عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لاَ تَنَاجَشُوا ، وَلاَ تَبَاغَضُوا ، وَلاَ تَدَابَرُوا ، وَلاَ تَحَاسَدُوا ، وَلاَ يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ، لاَ يَظْلِمُهُ ، وَلاَ يَحْقِرُهُ ، وَلاَ يَخْذُلُهُ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ دَمُهُ - قَالَ إِسْمَاعِيلُ فِي حَدِيثِهِ : وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ - التَّقْوَى هَا هُنَا ، التَّقْوَى هَا هُنَا ، التَّقْوَى هَا هُنَا ، يُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثًا ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. أخرجه أحمد 2/277(7713) و"مسلم" 6633.
قال على بن أبى طالب وقد قُتل طلحة والزبير فى الجيش الذي كان يقاتله: إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين. رواه الحاكم ح5613، والبيهقي في السنن ح16491.
يقول بعض السلف: ما رأيت أعقل من الشافعي , اختلفنا أنا وهو في مسألة، فلقيني بعد مره فأخذ بيدي، فقال لي: إذا كنا اختلفنا في مسألة، ألا يسعنا أن نبقى إخواناً متحابين؟ والشافعي هو القائل: ما ناظرت أحداً على الغلبة، ولا ناظرت أحداً إلا وتمنيت أن يكون الحق معه، ولا ناظرت أحداً فأحببت أن يخطأ، رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب. انظر : سير أعلام النبلاء 10/16-17.
فالإسلام لا يحب إكراه الناس على الدخول فيه , قال تعالى : " لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) سورة البقرة , وقال : " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) سورة يونس .
وقال : "وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29) سورة الكهف .
كما لا يحب إكراههم على العبادة ,والتشدد عليه فيها حتى تصبح فتنة لهم بدل أن يقبلوا عليها بحب وشغف , عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ:كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَؤُمُّ قَوْمَهُ ، فَدَخَلَ حَرَامٌ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَ نَخْلَهُ ، فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لَيُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا رَأَى مُعَاذًا طَوَّلَ ، تَجَوَّزَ فِي صَلاَتِهِ ، وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ ، فَلَمَّا قَضَى مُعَاذٌ الصَّلاَةَ ، قِيلَ لَهُ : إِنَّ حَرَامًا دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، فَلَمَّا رَآكَ طَوَّلْتَ تَجَوَّزَ فِي صَلاَتِهِ ، وَلَحِقَ بِنَخْلِهِ يَسْقِيهِ ، قَالَ : إِنَّهُ لَمُنَافِقٌ ، أَيَعْجَلُ عَنِ الصَّلاَةِ مِنْ أَجْلِ سَقْيِ نَخْلِهِ؟! قَالَ : فَجَاءَ حَرَامٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وَمُعَاذٌ عِنْدَهُ ، فَقَالَ : يَا نَبِيَّ اللهِ ، إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ أَسْقِيَ نَخْلاً لِي ، فَدَخَلْتُ الْمَسْجِدَ لأُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ ، فَلَمَّا طَوَّلَ تَجَوَّزْتُ فِي صَلاَتِي ، وَلَحِقْتُ بِنَخْلِي أَسْقِيهِ ، فَزَعَمَ أَنِّي مُنَافِقٌ ، فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى مُعَاذٍ ، فَقَالَ : أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ أَفَتَّانٌ أَنْتَ ؟ لاَ تُطَوِّلْ بِهِمْ ، اقْرَأْ بِـ : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى) ، (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) ، وَنَحْوِهِمَا. فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ ، وَالضَّعِيفُ ، وَذُو الْحَاجَةِ.أخرجه أحمد 3/101(12005) و3/124(12272) . والنَّسَائِي ، في "الكبرى" 11610الألباني( صحيح ) انظر حديث رقم : 7966 في صحيح الجامع .
وعَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ ، قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا مَسْعُودٍ يَقُولُ:جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنِّي لأَتَخَلَّفُ عَنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ مِمَّا يُطَوِّلُ بِنَا فُلاَنٌ ، قَالَ : فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم غَضِبَ فِي مَوْعِظَةٍ قَطُّ غَضَبَهُ يَوْمَئِذٍ ، ثُمَّ قَالَ : إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأَيُّكُمْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ ، فَإِنَّ فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالسَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ.أخرجه "أحمد" 4/118(17192) و"البُخَارِي" 90 و"مسلم" 977.
خفف أعرابي صلاته ، فقام إليه علي رضي الله عنه بالدرة، وقال: أعدها، فلما فرغ ، قال علي: أهذه خير أم الأولى؟! قال: بل الأولى، قال: لم؟! قال: لأن الأولى صليتها لله. وهذه خوفاً من الدرة. فضحك علي رضي الله عنه. التذكرة الحمدونية لابن حمدون 3/209.
وهناك بعض الناس الذين يحسبون على التدين والمتدينين لا هم لهم إلا البحث عن مواطن الخلافات وإشغال الناس بها , ولا يفرقون بين الخلاف السائغ وغيره , فالخلاف السائغ لا يكون في المسائل الأصولية في الدين، العقدية منها والفقهية، كالوحدانية وأصول الإيمان، وحجية السنة، وفرضية الصلاة أو فرضية الوضوء للصلاة. مثل هذه المسائل تضافرت الأدلة الصريحة على إثباتها.
قال الشاطبي الفرق بين الخلاف المسوغ وغيره : " وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق عليها عادة، فالظنيات عريقة في إمكان الاختلاف فيها، لكن في الفروع دون الأصول، وفي الجزئيات دون الكليات، فلذلك لا يضر هذا الاختلاف" . انظر : الاعتصام 2/168.
وهذا يخالف هدي الأئمة رضوان الله عليهم , قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "إذا صح الحديث فهو مذهبي" ، وقال: "إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله وخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي"، وقال أيضا: "حرام على من لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا".
وقال الإمام مالك – رحمه الله - : "إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه:، وقال: "ليس أحد بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي – صلى الله عليه وسلم.
وقال الإمام الشافعي – رحمه الله - :"إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقولوا بسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ودعوا قولي.
وقال الإمام أحمد – رحمه الله - : "لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا"، وقال: "رأي الأوزاعي ورأي مالك ورأي أبي حنيفة كله رأي وهو عندي سواء، وإنما الحجة في الآثار. إعلام الموقعين 1/75 وما بعدها .
ولقد كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يفقهون فقه الخلاف ويعرفون له آدابه وأخلاقه , روى عن عبدالله السلمي قال: تناجى أبو ذر وعثمان حتى ارتفعت أصواتهما، ثم انصرف أبو ذر متبسماً فقالوا: مالك ولأمير المؤمنين؟ قال: سامع مطيع، ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت".
وقال الشافعي: قال لي محمد بن الحسن: صاحبنا أعلم من صاحبكم - يريد أبا حنيفة ومالكاً- وما كان لصاحبكم أن يتكلم، وما كان لصاحبنا أن يسكت، فغضبت وقلت: نشدتك الله من أعلم بالسنة مالك أو صاحبكم؟ فقال: مالك لكن صاحبنا أقيس، فقلت: نعم. ومالك أعلم بكتاب الله وناسخه ومنسوخه وبسنة رسول الله من أبي حنيفة، ومن كان أعلم بالكتاب والسنة كان أولى بالكلام.
وقال الإمام أحمد في إسحاق بن راهويه: "لم يعبر الجسر على خراسان مثل إسحاق وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً".
وقال الذهبي في ترجمة محمد بن نصر المروزي: "ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاد في آحاد المسائل خطأً مغفوراً له قمنا عليه وبدعناه وهجرناه، لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن مندة، ولا من هو أكبر منهما. والله هو هادي الخلق إلى الحق وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة". الذهبي : سير أعلام النبلاء ( 14 / 40 ) .
وقال أيضاً: " ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده - مع صحة إيمانه وتوخيه لإتباع الحق - أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا، رحم الله الجميع بمنه وكرمه " . السير [14/376].
فكل هذه النصوص وغيره تؤكد بوضوح على فهم السابقين لفقه الخلاف والتزامهم آدابه وأخلاقه , لا كما نرى الآن من العصبية المذهبية وبخاصة بين الجماعات المختلفة , والتي لا تريد أن تتعاون فيما اتفقت عليه وأن يعذر بعضها بعضاً فيما اختلفت عليه .
ولقد رأيت في إحدى القرى وهي تضم مجموعة من الإخوان والسلفية والصوفية وبينها لون من ألوان التنافر والتباغض ما لا يحبه الله ولا يرضى عنه , حتى أنهم وفي يوم العيد الذي يجتمع فيه الناس يذهب كل منهم إلى خلاء خاص به يصلي فيه تأففا من أن يجمعه مع الآخر خلاء يصلي فيه معه , بل إذا توفي واحد من أهل هذه القرية تجد جل من يقف إلى جوار أهله في العزاء هم الذين من جماعته فقط , وكذا الأمر في الأعراس وغيرها , وقد سألتهم ذات يوم :إن بلوى المخدرات قد انتشرت بين شباب القرية فلماذا لا تتعاونون في مقاومة هذا المنكر والقضاء على تلك الظاهرة القاتلة والمدمرة ؟ . وقد لا تجد جواباً لأن كل واحد مشغول بنفسه وبتحقيق زعامة شخصية تنسب إليه هو ولا تنسب إلى غيره .
فهذه العصبية المذهبية كانت سبباً في تمزيق شمل الأمة وفي النيل من وحدتها وتماسكها ,وقد نهانا الله عن الفرقة والتحزب فقال في محكم تنزيله : " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) سورة آل عمران , وقال : " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) سورة الأنعام , وقال : " مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) سورة الروم .
بل إن التعصب المذهبي يؤدي إلى جمود الفكر وخموله، حيث إن المقلد المتعصب لمذهبه لا يفكر ولا يستنبط إلا وفق ما جرى عليه مذهبه وشيخه فلا يتعدى ذلك ولا يبحث عن الحجة والبرهان.