الفجوة الفاصلة بين الأغنياء والفقراء في سورية
الفجوة الفاصلة
بين الأغنياء والفقراء في سورية
في حديث لنائب رئيس مجلس الوزراء السوري السابق عبد الله الدردري في ربيع العام 2008، قال ان الاغنياء يزدادون غنى، والفقراء يتحسن وضعهم، وأن ظاهرة التفاوت بين الطبقات باتت أكثر بروزاً. ويبدو ان هذه الحقيقة لم تتغير بعد مرور ثلاث سنوات على ما قاله الدردري حينها، ذلك أن الهوة بين الأغنياء والفقراء ازاددت وتعمقت، وهيتسير بسرعة في هذا الاتجاه رغم كل ما يقال عن السياسات الحكومية الهادفة الى إعادة توزيع الدخل وتحقيق العدالة الضريبية، وتضييق الهوامش بين الأغنياء والفقراء، والتقدم على جبهة مكافحة الفقر والحد منه
إن الاستدلال عن حقيقة الفجوة القائمة بين الفقراء والأغنياء يكمن في تلمس صورة كل منهما وموقعه في الحياة السورية. ففي صورة الفقراء السوريين وفق تقرير الفقر وعدالة التوزيع في سورية الذي أعدته هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة في سورية عام 2008، أن الفقر الإجمالي (نسبة السكان تحت خط الفقر الأعلى) واسع الانتشار نسبياً في سورية، إذ هو يشمل 33.6% من السكان، مما يعني أن حوالي 6.7 ملايين من السوريين يعتبرون فقراء، ومن هذه المجموعة الكبيرة فان 12.3% من السكان، يمثلون حوالي 2.4 مليوناً، يصنفون على أنهم يعيشون في فقر شديد، أي أنهم تحت خط الفقر الأدنى
وأوضح التقرير الأبعاد الجغرافية للفقر في سورية، حيث ظهرت المنطقة الشمالية الشرقية بأعتبارها الأكثر فقراً. إذ يصل معدل الفقر الشديد فيها إلى 15,4%، أما المنطقة الساحلية فهي الأقل فقراً، حيث ان 7,68% فقط من سكانها الفقراء، يرزحون تحت وطأة الفقر الشديد، وعند أخذ معدل الفقر الإجمالي بعين الاعتبار، يؤكد التقرير أن حالة الفقر الأعلى حاضرة بصورة متساوية بين المنطقة الشمالية الشرقية والمنطقة الجنوبية. وهذا يعود بصورة أساسية إلى الهجرة الواسعة، التي تمت من المناطق الشمالية الشرقية الى المنطقة الجنوبية بداية السنوات الخمس الماضية
ويشير التقرير إلى تمركز الفقر في سورية في المناطق الريفية. إذ أن فقراء الريف شكلوا 56% من الواقعين في دائرة الفقر الشديد و50% من المجموع العام للفقراء من اجمالي السكان، مما يعني زيادة واضحة للفقر في الريف مقارنة بما هو عليه الحال في المدن، وتبين النتائج أيضاً أن أكبر تركيز للفقراء يقع في المنطقة الشمالية الشرقية، وخاصة ريف تلك المنطقة الذي يتوزع الفقراء فيها إلى 37% منهم في عداد الفقر الشديد، و28,8% من المصنفين في إطار الفقر الإجمالي، وهذا يفوق كثيراً نسبة سكان هذه المنطقة من عدد سكان البلاد، الذي لا تتجاوز مانسبته 23,3%. غير أن وضوح ملامح فقراء سورية، لا يوازيه وضوح في صورة الأغنياء الذين يميلون الى التواري. ليس فقط بحكم أبعاد تقليدية وتاريخية، بل أيضاً باعتبار التواري له بعد قانوني وعملي في الأوضاع السورية الراهنة، وهو ما يمكن أن تشير إليه معطيات، تحيط ببعض الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها رجال مال وأعمال في سورية، التي تسجل فيها الشركات والمؤسسات العائلية حضوراً كبيراً، ولا يخضع تسجيل الشركات فيها للشفافية، ويسعى فيها رجال الأعمال، أن لا تكون جميع شركاتهم بأسمائهم الصريحة، والمصدرون لا يصدرون منتجاتهم وبضائعهم بأسماء شركاتهم أو بأسمائهم الحقيقية، وهناك تداخل وعدم استقرار اضافة الى عدم تخصص في الأنشطة الاقتصادية، ومنها التنقل بين الصناعة والتجارة والزراعة، ويميل كثير من رجال المال والأعمال إلى أنشطة الظل تهرباً من الضرائب ومن الظهور في الصورة الحقيقية تجنباً للاتاوات والمشاركات غير المرغوب فيها من قبل أشخاص نافذين، اعتادوا فرض أنفسهم شركاء وحماة على رجال المال والأعمال، وبطبيعة الحال فان استشراء الفساد والرشوة، وتواطؤ دوائر وزارة المالية، يساعدان في استمرار أنشطة اقتصاد الظل، وتغييب صورة الاغنياء في اللوحة العامة السورية
ورغم ضبابية الصورة، فان ثمة معطيات توضح بعضاً من تفاصيل صورة الاغنياء السوريين، ولعل من اهم تلك المعطيات أن الخطة الخمسية الحادية عشرة (2010-2015)، قامت على إشراك القطاع الخاص في العملية التنموية باستثمارات في مجالات الطاقة والبنى التحتية للطرق والمرافىء ومعالجة المياه، تصل قيمتها التقديرية إلى نحو 1000 مليار ليرة سورية، (أكثر من 22 مليار دولار) مما يعني مساهمة القطاع الخاص في الخطة بنحو 200 مليار ليرة سورية كل عام مستفيدين من مزايا تقدمها الحكومة لهم منها إعطاء القطاع الخاص مزيد من التسهيلات الاستثمارية، وإزالة المعوقات من أمامه، من أجل توطين استثماراته ومشروعاته، الأمر الذي يحقق لرجال المال والأعمال فرص تحقيق مكاسب وأرباح كبيرة، غالباً ما يحيط بها تهرب ضريبي حسبما أشار إليه وزير المالية، وجزء منه يمثله التهرب من ضرائب دخل الاغنياء، التي لوحظ أن قرابة 60 بالمائة منها لاتخضع لضريبة الدخل، وهو أمر أكدته معطيات رسمية
إن الاعفاءات الضريبية من جهة، والتهرب الضريبي، يجعل من الأغنياء مساهمين بأقل قدر في الموازنة العامة للدولة، التي تقوم أساساً على موارد محلية، تشكل الضرائب قسما كبيراً منها حسب تأكيدات رئيس الوزراء، غير أن هذا الواقع لا يتناسب مع استهلاك الأغنياء من إجمالي الانفاق العام، وطبقاً للأرقام الرسمية، فان الـ 20% الأكثر ثراء استهلكوا 45% من إجمالي الإنفاق، في حين أن الـ 20% من السكان الأفقر استهلكوا فقط 7% من إجمالي الإنفاق في سورية، وكانت حصة الـ 10% الأكثر ثراء إلى 29.9% من إجمالي الإنفاق، في حين لم تتجاوز حصة الـ 50% من المواطنين في الشرائح الدنيا 25.3% من إجمالي الإنفاق
إن التمايز في صورة الفقراء والأغنياء وموقع كل منهما في الحياة السورية، تعكس حقيقة الفجوة التي تفصل بينهما في قضايا كثيرة كالملكية وطريقة العيش والاستهلاك والتعليم والصحة وأنماط الحياة وغيرها من مجالات تعكس عمق الفجوة القائمة بينهما، ومما لاشك فيه أن الفجوة القائمة ليست قدراً رسم ذلك التمايز، وإنما هي نتيجة سياسة الحكومات المتعاقبة في سورية، والتي دفعت فئات باتجاه الفقر وأعطت فئات أخرى فرصة الغنى، وغالباً ما تم ذلك بطرق مواربة في خلال العقود الخمسة الماضية، ومنها الأربعة الأولى، التي تميزت بـ "اقتصاد مغلق" واحتكاري مازالت ملامحه قائمة، والذي لم يكن يسمح بمراكمة المال بصورة عامة إلا عبر طرق غير مشروعة وغير قانونية ومنها شيوع اقتصاد الظل، والاعتداء على المال العام ونهبه، وكسب المال عبر طرق غير مشروعة من خلال عمليات تهريب الاسلحة والمخدرات والبضائع، وقبض الرشاوي والعمولات، وممارسة الفساد الذي تحول إلى نهج وطريقة للحياة
إن المؤشرات الاقتصادية، لا تمثل سوى مثال عن الفجوة العميقة القائمة بين الأغنياء والفقراء السوريين، وثمة مؤشرات في المجالات كافة عن تلك الفجوة، ومنها الحضور السياسي والاجتماعي المختلف للطرفين في الحياة العامة السورية، حيث للأغنياء قدرتهم العالية في التأثير على توجهات وقرارات السلطة مقارنة بما هو عليه حال الفقراء الذين يحتلون موقع المتلقي بالنسبة لتوجهات وقرارات الحكومة. وبطبيعة الحال إن يحصل الأغنياء على الخدمات المتاحة من تعليم وصحة وسكن وثقافة وغيرها أفضل مما يحصل عليه الفقراء الذين لا يستطيع كثير منهم الوصول بيسر إلى تلك الخدمات، وعندما يحصلون عليها تكون نوعيتها أقل بكثير من تلك التي يحصل عليها الأغنياء
إن الفقر بما يمثله من هوة بين الأغنياء والفقراء، يجعل لكل منهما هوية ومكانة مختلفة عن الآخر ودورا مختلفاً في الحياة العامة، مما يعني أن أية طريقة من أجل المساواة ومشاركة المواطنين في الحياة العامة لابد وأن تبدأ من محاربة الفقر الذي يمنع الواقعين فيه من أن يكونوا بنفس القدر من المكتنة التي يحتلها مواطنيهم الاغنياء.