من وراء صمت "حلب" وتأخر لحاقها
أربعة عوامل
من وراء صمت "حلب" وتأخر لحاقها
بركب الثورة ؟!!
محمد العلي – دمشق
تقلدت ( درعا ) القريبة من دمشق شرف قيادة الثورة السورية ضد نظام الأسد ، ولبست تاج العز والكرامة ، وكانت أحق به ، ودفعت ثمنه باهظاً ، أكثر من مئتي شهيد وآلاف الجرحى والمعتقلين لكن إرهاصات الثورة الأولى ، نبعت من الجامع الأموي التاريخي الشهير ، ومن سوق الحميدية ومن الحريقة ، وهذا له رمزيته ودلالاته التاريخية والسياسية التي لا تخفى على فَطِن ، ثم رجعت الثورة إلى دمشق نفسها رغم الحصار الأمني المشدد ، وشهد مسجد الشيخ عبد الكريم الرفاعي احتجاجات كبيرة قُمعت بشدة ، وفي جمعة الإصرار الأخيرة ، اتخذت الاحتجاجات مساراً جديداً بعد أن التحمت مظاهرة دوما بمظاهرة حرستا في مشهد مهيب عجيب يهز الوجدان ، لم أملك عينيَّ حتى انهمرتا بالدموع ، ولم تتوقف المسيرة هناك بل تابع البحر الزخار سيره ، لتنضم إليه روافد من عربين وزملكا ثم قصدت تلك الأمواج المتلاطمة ساحة العباسيين في دمشق ، ليلتقي الفرع بالمركز ، لكن قوات الأمن حالت بينها وبين اقتحام الساحة والاعتصام فيها ، وقبل ذلك بثلاثة دخلت الاحتجاجات أيضاً حرم الجامعات السورية لأول مرة ، في دمشق و" حلب " ( الاثنين والثلاثاء 11- 12/4/2011 م ) ، وما يزال لهيب الثورة يمتد الآن في جميع المدن والقرى ، طولاً وعرضاً ، شرقاً وغرباً ، ولا يقتصر على درعا عاصمة الثورة السورية ومركزها ، ومع هذا الامتداد الأفقي تشهد الثورة تطوراً مطلبياً حيث ارتفع سقف المطالب من إصلاحات وحريات إلى ( الشعب يريد إسقاط النظام ) ، لكن التساؤل الذي يطرحه السوريون اليوم بحيرة وقلق : ما بال مدينة " حلب " الشهباء صامتة ، لا تحرك ساكناً ؟!. ولماذا لم تلحق بركب الثورة بعد ؟! أليس " عبد الرحمن الكواكبي " صاحب ( طبائع الاستبداد ) ابن حلب ؟. " حلب " كبرى مدن سورية ، بعد دمشق ، و" حلب " ربع سوريا ، إذ يبلغ عدد سكانها أزيد من ثلاثة ملايين نسمة ، و" حلب " عاصمة التجارة والاقتصاد ، و" حلب " النسيج الاجتماعي المتناغم الذي يسقط فزَّاعة الطائفية التي تحاول السلطة إيقاظها أو صناعتها ، فـ " حلب " مدينة مختلفة الأديان والقوميات ، ترى فيها كل فسيفساء النسيج السوري من الكرد والمسيحيين والعرب والأرمن والشركس والتركمان والآشوريين والكلدان والسريان .....إلخ . و" حلب " الحضارة والتاريخ ، و" حلب " الثورة والبطولات والتضحيات ، فهي المدينة الوحيدة التي آزرت حماة في محنتها المؤسفة في الثمانينات ، وتصدت للنظام البعثي القمعي ، ودفعت فاتورة باهظة من فلذات أكبادها بينما خذلتها سائر المدن السورية وقتذاك !. ألا ترشحها هذه الخلفية التاريخية ، لتتصدر الثورة الشعبية ضد نظام الأسد الابن كما تصدت للأسد الأب !.
وهذا التساؤل الأخير في رأيي يحمل في طياته جزءاً من الإجابة ، فقد شكلت النهاية المؤلمة لثورة الثمانينات حاجزاً نفسياً ضخماً من الخوف والرعب واليأس والارتياب المزمن ، في الذاكرة التاريخية لـ " حلب " الشهباء وفي نفوس أهلها ، وهذا هو العامل الأول من وراء صمت " حلب " وتأخر لحاقها بركب الثورة ؟!!.. ولعل هذه الخلفية التاريخية وأسباباً أخرى تركت أثرها على النظام أيضاً ، واضطره إلى تكثيف الوجود الأمني في " حلب " خاصة والاستعداد المبكر الذي استبق حركة الاحتجاجات ، والقيام ببعض الإصلاحات الشكلية وإغداق الوعود السخية ، ومحاولة امتصاص غضب الشارع الحلبي ، من خلال زيارة الرئيس السوري بشار الأسد المفاجئة إلى مدينة حلب ، واستغرقت هذه الزيارة 4 أيام ، تمَّ فيه إقالة وسجن رئيس مجلس المدينة وما يقارب 60 موظفاً ، حيث سميت هذه العملية بتطهير الفساد في المدينة . وهذا كله جرى إبان موجة الثورات في الساحة العربية ، خشية انتقالها إلى سورية ، وهذا هو العامل الثاني الذي يفسر صمت حلب !!.
وبعض المراقبين والمحللين يزعم أن تأخر " حلب " يرجع إلى كونها مدينة تجارية ، وأهلها في سعة ورخاء يؤدي إلى مثل هذا التثاقل ، إضافة إلى تخوفهم على تجاراتهم وأموالهم وأعمالهم من حدوث حالة من الفوضى والفراغ والفتن التي قد تعرضها للنهب والسلب والتدمير!. وهذه المخاوف التي تساورهم إبان الثورة التي قد تمتد وتطول كما هو الحال في ليبيا . وهناك مخاوف أخرى من انتقام السلطة منها فيما لو أخفقت الثورةكما فعلت خلال الثمانيات من القرن الماضي ، وهذا هو العامل الثالث من وراء صمت " حلب " وتأخر لحاقها بركب الثورة ؟!!.. وأنا أقلل من أثر هذا العامل الأخير ، فـ " حلب " عاصمة التجارة والمال والاقتصاد من قديم ، ومع ذلك فقد كان لها القدح المعلى إلى جانب أختها " حماة " !. ثم إن الثورة اليوم ستصب في مصالح أصحاب المال ورجال الأعمال والتجار قبل غيرهم ، فالثورة ضد الفساد وضد احتكار السلطة وضد احتكار الثروة من قبل الدائرة القريبة والمحيطة بالرئيس !. أما إخفاق الثورة فهو احتمال بعيد بل هو مضاد للسنن والقوانين التاريخية والاجتماعية التي تحكم حركة التغيير !.
ويزعم بعضهم – وهذا هو العامل الرابع والأخير - أنه ربما خدَّر " حلب " الخطاب الديني ( المضلل ) لظروف خاصة بها ، فـ" حلب " من المدن التي تزدهر فيها الجماعات الصوفية ، ومن أقطاب مرتزقة الصوفية فيها : مفتي حلب الشيخ صهيب الشامي ، ومفتي الرئيس الشيخ الدكتور أحمد بدر الدين الحسون ، والدكتور الشيخ محمود عكام ، والشيخ محمود الحوت مدير معهد الكلتاوية في حلب وأضرابهم ، ومن المعروف المشتهر أن المنهج الصوفي في السياسة والحكم يقوم على الاستسلامُ للجبابرة والطواغيت ومداهنتهم ومصانعة الحكام الظلمة وأعوانهم ، لأن الله - في زعمهم - أقام العباد فيما أراد ، وعدوا مقاومتهم مغالبة للقدر ومعاندة للخالق . ولذلك رأينا المستعمرين والمستبدين ، يغدقون على فريق من مرتزقة الصوفية الجاه والمال ، ويقربونهم نجياً ، وقد يدسون في صفوفهم من يكون صنيعة لهم ، ويعمل بوحيهم ، لتمرير خططهم وتنفيذ مآربهم ! . وهنا يليق بالمقام والمقال أن أستشهد بكلام المصلح الحلبي المستنير " عبد الرحمن الكواكبي " الذي عرَّى المستبد وشرَّح مكوناته وطبائعه وخصائصه ، وكشف سوءاته ، وفضح عوراته ، قال – رحمه الله - وقوله ينطبق على مشايخ السوء هؤلاء ، قال : (…ما من مستبدّ سياسيّ إلا ويتخذ صفة قدسيّة يشارك فيها الله ، وله بطانة من أهل الدين يعينونه على ظلم الناس ، والمستبدّ لا يخاف من العلماء المنافقين ، ومن يدري من أين جاء فقهاء الاستبداد بتقديس الحكام حتى أوجبوا لهم الحمد ، وأوجبوا الصبر عليهم إذا ظلموا , وعدّوا كل معارضة لهم بغياً ، يبيح دماء المعارضين ؟!!. " . وأجدني قد استطردت في الكلام عن الفكر السياسي للتصوف الإسلامي ، وأعود لأقول : إن العامل الديني المخدر رغم أثره السلبي في تثبيط همم الناس وتخديرهم لكنه لن يكون عائقاً يحول دون تحرك الناس في " حلب " فإنه وإن كان للتيارات الصوفية والخرافية الدينية دورها ومكانتها هناك وهي التي حلت محل العلماء الأحرار الشرفاء الذين تخلص منهم النظام بعد أحداث حماة ؛ إما بالقتل والإبادة أو بالسجن والنفي والتهجير القسري ، لكن هذا لم يقتصر على " حلب " وحدها فقد مارس النظام هذه السياسة نفسها في كل أرجاء سوريا ، وحاول صناعة مشايخ على طريقته ، وأتاح لكوادر حزب البعث العربي الاشتراكي الانتظام في كلية الشريعة بجامعة دمشق ، دون قيد أو شرط ، والدراسة على حساب الحزب وبإشرافه ، بحيث ينحصر ولاؤهم له ، وليقوموا بتشويه تعاليم الإسلام وقلب حقائقه ومسخ المناهج والمقررات الدراسية ومسخ الجيل لكن جهودهم في هذا المجال ذهبت سدى ، فقد نبت جيل - لا كما يشتهون - جيل خضع لنظام الطلائع وشبيبة الثورة ومعسكرات غسيل المخ ومسخ العقول وتشويه التاريخ ، نرى الآن هذا الجيل الذي صنعه حافظ الأسد ونظام البعث على عينه ، وغذاه بفكره الفاسد وثقافته الضحلة وسقاه ، وكنا قد فقدنا ثقتنا به ، نراه الآن – ويا للعجب - يجوب الطرقات ويعتصم بالساحات ؛ يحمل روحه على كفه - كما يقول السوريون - ، ويحرك المظاهرات ، ويشعل نار الثورة ضد الاستبداد ، ويواجه جلاوزة النظام وعصابات الشبيحة والبلطجية بصدور عارية إلا من الإيمان والثقة واليقين بحتمية التغيير .
إن " حلب " الشهباء الآن يستصرخها الجميع ، وينتظرها الجميع ، ويراقبها أيضاً النظام بخوف وقلق بالغين ، وتجثم على صدرها قواته الأمنية ، خشية تحركها ، لكنها ستتحرك وتثور حتماً ، وقد تحركت فعلاً جامعة " حلب " لأول مرة ، وشهدت جمعة الإصرار بعض التجمعات الاحتجاجية ، ولن تخذل " حلب " أهلها في درعا وبانياس وغيرها من المدن السورية التي تنتظر بلهفة نجدتها ، وآخر من ناداهم باسمهم امرأة مسنّة ( ختيارة ) حرّة – تمنيت يشهد الله أن تكون أمي - من بانياس نادت ، وقد خرجت من بلدتها المنكوبة قرب بانياس مع جماعة النساء في الطرقات تستغيث ، وتطلب نصرة أهل حلب !!! . و" الحلبية " هم – والله - أهل النخوة والرجولة والحمية والمروءة ، وحلب الكواكبي لن تقف مكتوفة الأيدي ، وليس هذا من شيمها وأخلاقها ، فهي حتماً لن تخذل أهلها ، وسيزول أثر ( أفيون الشعوب ) [i] قريباً جداً ، وهي كالبركان الذي لا يلبث أن يثور ، ويقذف بحممه في وجه الظلم والاستبداد بل أقول أنها هي التي ستحسم المواجهة مع النظام ، من قريب ، بعون الحق العدل وتوفيقه !.
- ليس الإسلام طبعاً ، فهو دين الحرية والكرامة ومقاومة الظلم ، وسيد الشهداء من يقتل في مواجهة الحاكم المستبد !