مصر بعد الاستفتاء بحاجة للبناء
حسام مقلد *
أزعم أن جموع المصريين الغفيرة قد استبشرت خيرا بالاتصال الهاتفي الذي جرى بين قداسة الأنبا شنودة وبين فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمد بديع، وأحسب أن هذه الجموع قد سعدت بتلك المكالمة سعادة غامرة، كما سعِدَتْ من قبل عندما رأت وسمعت أصحاب الفضيلة العلماء وهم يتحدثون عن وجوب حماية وحدتنا الوطنية، ويقفون يدا واحدة مع آباء الكنيسة القبطية من أجل حفظ مصر وتحقيق مصلحة شعبها العظيم أثناء الأزمة العابرة التي افتُعلت في قرية صول، والتي ما كانت والله إلا شرارة أراد أعداء مصر أن يشعلوا بها حريقا هائلا، لكن خيب الله سعيهم وأخلف ظنهم وانتهت هذه الأزمة على خير ولله الحمد والمنة، وأكد علماؤنا الأفاضل أن المصريين جميعا نسيج واحد، وأن مصر ستبقى بإذن الله تعالى عزيزة أبية عصية على المؤامرات الخبيثة التي تريد تمزيق وحدتها وبث الصراعات والفرقة بين أبنائها، وقد أثلج صدورنا جميعا أن كان على رأس هؤلاء العلماء الأجلاء فضيلة شيخ الأزهر وفضيلة مفتي الجمهورية وفضيلة الشيخ محمد حسان... وغيرهم، وهذا كله يؤكد أنه مهما بذل أعداء مصر من محاولات لإثارة الخلاف والنزاع والشقاق بيننا فلن ينجحوا أبدا بإذن الله تعالى، وسيرد الله كيدهم دائما في نحورهم، ويفشلهم ويذهب ريحهم، ويعيدهم خائبين خاسرين!!
لقد حاول المؤيدون للتعديلات الدستورية إقناع الناس بالتصويت بنعم، وحاول المعارضون لها إقناعهم بالتصويت بلا، ولا ضير في ذلك مطلقا فهذه هي الحرية وهذه هي الديمقراطية: أن يدعو كل فريق الناس لنصرته وتأييد رأيه في المعركة الانتخابية، ثم يُتْرَكُون للاختيار بحرية كاملة وعن قناعة شخصية تامة، وبعون الله تعالى وتوفيقه نجح المصريون نجاحا باهرا في أول اختبار للديمقراطية، وأثبتوا للعالم أنهم شعب أبيٌّ عريق يستحق كل الاحترام والتقدير، ويجب أن يُمنَح فورا حقَه في اختيار ما يريده لنفسه دون أدنى وصاية من أحد أيا كان لا في الداخل ولا في الخارج.
لكن فئاما من الناس في المجتمع أبَوْا إلا أن يشيعوا قالة السوء بين المواطنين، وسعوا إلى الإرجاف في الأرض وبث الذعر والخوف في قلوب المصريين من عدو وهمي اسمه (الإسلاميون) تارة بالتخويف من الإخوان المسلمين ورفع فزاعتهم في وجوه الناس، وأخرى بالتخويف والتفزيع من السلفيين والجماعات الدينية المختلفة، وللأسف الشديد تظاهر على ذلك أغلب الصحفيين والإعلاميين وجل الفضائيات المصرية بما فيها حتى التلفزيون المصري الرسمي، وراح هؤلاء يحذرون المصريين من هذا الوحش الأسطوري المسمى الإخوان المسلمين، وأخذوا يثيرون في النفوس الهلع والرعب من الدولة الدينية الثيوقراطية التي توشك أن تنشأ في مصر وتنقض على شعبها!! ويظن من يشاهد هؤلاء ويستمع إليهم أو يقرأ لهم أن الأمور توشك بحسب مزاعمهم أن تتوطأ في مصر للإخوان المسلمين والجماعات الدينية الأخرى، ويتخيل أن الفتن ستطل برؤوسها سريعا مع إمكانية تأسيس الأحزاب على أسس دينية، وأن الصراعات الدامية لن تلبث أن تنشب في المجتمع بسبب هذه الأحزاب الدينية الوشيكة...!! ولا أدري حقا كيف يجرؤ هؤلاء القوم على تصوير المصريين وكأنهم قطعان من الأغنام يسلس قيادتها ويمكن السيطرة عليها وعلى أفكارها وتوجهاتها بمثل هذا اليسر، وتسهل إثارة الفتن والنزاعات فيما بينها بمثل هذه الطريقة الرخيصة أو الساذجة!!
وعلى الجانب الآخر تجري عمليات آثمة لشحن قطاعات واسعة من الشباب المسلم شحنا عاطفيا عنيفا واستثارة حميته وغضبه لدينه وهويته، من خلال العزف على وتر المادة الثانية من الدستور، وبث الشائعات المغرضة التي تروِّج لحذف أو تغيير هذه المادة من الدستور الجديد المزمع وضعه لمصر، والتي تقر بأن الإسلام هو دين الدولة المصرية الرسمي، وأنه المصدر الرئيسي للتشريع، والمؤسف أن يتم تأجيج هذه الفكرة الخبيثة من قِبَلِ البعض باسم المواطنة والدولة المدنية والإلحاح عليها بين الفينة والأخرى؛ لاستثارة غضب الشباب لاسيما السلفيين... !! ودفع الأغرار حديثي السن وقليلي الخبرة منهم إلى التصرفات الرعناء، وجرهم للانزلاق إلى بعض أعمال العنف الهوجاء التي ستثير حتما حمية إخوانهم الأقباط، وبذلك تقع الفتنة وينجر المصريون لا قدر الله لفوضى عارمة لا خير فيها لا لمصر ولا للإسلام ولا للمسيحية، وسيكون الخاسر الوحيد جراء ذلك هو الشعب المصري كله بمسلميه وأقباطه، وسيكون الرابحون هم أعداء مصر وأعداء إسلامها وكنيستها، وأعداء أمتيها العربية والإسلامية!!
والآن وبعد عرس الحرية والديمقراطية الذي عاشته مصر، وبعد نجاح المصريين في الاستفتاء يجب على الجميع أن يفرقوا بين شئون السياسة وما فيها من مخاتلة ومناورة ومداورة وبين مصلحة مصر العليا؛ فمن البدهيات أن السياسة لا تعرف الثبات ولا الاستقرار، وأن الساسة لهم حساباتهم الخاصة فيما يتعلق بأمور الحكم والسلطة، ومن ركب السياسة فقد ركب من ظَهْرٍ إلى ظهرٍ كما يقولون، وما أمر الأحزاب وأمر رجالها وبرامجها إلا جزء من أمر السياسة فهي وسيلتها وبعض سلاحها وفيها من الألاعيب والمراوغة ما فيها، ووسائل الإعلام على اختلاف أنواعها جزء من لعبة السياسة وأقوى أسلحتها وأشدها فتكا؛ وهذا يفرض علينا جميعا مسئولية جسيمة، وتعظم أمانة هذه المسئولية وتزداد خطورتها على أهل الإعلام وأصحاب الكلمة، فلا ينبغي أبدا أن تستخدم في إثارة الفرقة والنزاع والإحن والأحقاد والضغائن بين المصريين أيا كانت توجهاتهم السياسية أو مشاربهم وانتماءاتهم الفكرية!!
وفي هذه المرحلة التاريخية الحاسمة بالغة الدقة والحساسية ينبغي ألا يقصى أحد من المصريين أو يهمش دوره، مهما كانت رؤيته السياسية ومرجعياته الفكرية أو الديينية، وينبغي أن يسود التسامح وحسن القصد والنية، وعلى الجميع إخلاص العمل، وشحذ الهمة، وتعبئة الطاقات ،واستفراغ الجهد والوسع، فمصر الآن في مسيس الحاجة إلى جهود جميع أبنائها المخلصين مسلمين وأقباط من كل التوجهات ومن كافة الأحزاب فمسيرة البناء طويلة جدا، وميراث الفساد الذي ورثناه عن العصر البائد طيلة العقود السابقة ميراث كثيف مضن، وكل مجال من مجالات الحياة في مصر وكل شبر من أرضها بحاجة إلى عزيمة أبنائها الأشداء، وعقولهم المبدعة وجهودهم الجبارة، ونفوسهم الصافية الزكية، وقلوبهم النقية الخالية من الأحقاد والمطامع التي لا تعرف الدسائس ولا تسمح أبدا بتدبير المكائد وحياكة المؤامرات ضد مصر وأهلها البررة الأوفياء.
علينا جميعا مهما كانت أحزابنا، ومهما تباعدت رؤانا أن نتحد ونتعاون معا من أجل مصر وإعادة بنائها، وينبغي أن نبدأ مسيرة الإصلاح والنهضة على أسس متينة ودعائم راسخة قوية دون فرقة أو تنازع، قال تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ" [الأنفال:46] وقال عز وجل: "وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا" [النحل:92] حفظ الله مصر وأهلها من كل سوء، ووحد كلمتهم، وأعلى رايتهم، وألف بين قلوبهم، وأعانهم على بنائها وإعادتها درة للشرق وحصنا منيعا له "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" [آل عمران:200] "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [يوسف:21].
* كاتب إسلامي مصري