لمن الحكم اليوم

لمن الحكم اليوم

سيناريوهات المرحلة القادمة


د. رمضان عمر

[email protected]

رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين

ظل الخطاب الإسلامي السياسي- طيلة القرن العشرين- يراوح مكانه من خلال الجدل النظري الذي قدمته الأحزاب الإسلامية ذات الاتجاهات المختلفة -من إخوان وسلفية وتحرير- حول طريقة التعامل مع الواقع السياسي المتشكل تحت عين الوصاية الغربية،وفق نظم وتصورات أقل ما يقال عنها أنها تعادي الإسلام وتحاربه، وتحرص على عزل المنطقة عن تاريخها، وسلخها من هويتها.

وبقيت أسئلة المشاركة الحزبية في الواقع السياسي مثار جدل في الوسط الفكري الإسلامي، حيث تراوحت أراء المنظرين للمشروع الإسلامي- فيما يخص المشاركة  في الحكم-  بين رافض لأصل الفكرة على اعتبار أن الإسلام كل لا يتجزأ، ولا يقبل الانخراط في أي واقع سياسي لا ينبثق من تعاليم الشريعة؛ومن هنا، فلا  يمكن- لدى هذا الفريق- القبول بفكرة العمل   تحت أي مظلة غير شرعية.

وقد ترتب على ذلك رفض هذا الفريق  فكرة دخول البرلمانات، والمشاركة الحزبية في عمل سياسي تحت قبة هذه النظم أو التمثيل النيابي في الحكم- وفق نسبة نيابية تفرزها الانتخابات الديمقراطية- ما دامت الدساتير والأحكام والقوانين لا تنطلق من المنهج الإسلامي الواضح.

  بينما رأى فريق آخر أن هناك إمكانية للاستفادة من المساحة الضيقة المتاحة للخطاب الإسلامي لتقديم وجهة النظر الإسلامية بما لا يخالف  التعاليم الشرعية الواضحة.فقبلوا بفكرة الانتخابات الديمقراطية، والتمثيل النسبي تحت قبة البرلمان، ورضوا بما يرضاه الشعب، وزاولوا السياسة  وفق هذا المنطق، ليلعبوا دور المعارض في أي لعبة سياسية يخوضون غمارها، ظنا منهم أن وجودهم داخل اللعبة السياسية أضمن لنتائج العمل الدعوي من التغييب خارج الإطار السياسي الذي تتمناه النظم وتسعى إليه.

غير أن برامج هذه الحركات- على المستوى التنظيري-بقيت مثالية تدور في فلك المصطلح الفقهي المستقى من تعاليم ديننا الحنيف،دون أن تصل إلى نقطة الحسم التي تمكنها من تحقيق هذه الرؤية من خلال برنامج  سياسي  متكامل"عصري وفاعل ومناسب لمقتضيات المرحلة، ولعل نظرة سريعة إلى أهم النماذج التي حاولت أن تصل إلى موقعية سياسية متقدمة في الحكم ستحيلنا إلى ساحتين هامتين تميزتا بتحقيق نوع من  الانخراط الفعلي في التمثيل السياسي:إحداهما عربية ذات خصوصية نوعية، وأخرى إسلامية شاب تجربتها كثير من الجدل حول طبيعة التمثيل الإسلامي لهذا الحكم،واعني بهاتين الساحتين ما حصل في فلسطين ووصول حماس للسلطة من خلال منهج المقاومة بشقيها العسكري والسياسي، وما حصل في تركيا ووصول حزب العدالة إلى سدة الحكم من خلال التجربة الديمقراطية والتمثيل النسبي.

  وتكمن الخصوصية في الحالة الفلسطينية في أن حماس لم تكن تسعى لإقامة دولة إسلامية في فلسطين وفق المفهوم الإسلامي للدولة،بل  انخرطت  في العمل الجهادي لتحرير ارض مغتصبة وفق قاعدة فرضية الجهاد، وصد الصائل،والدفاع عن الأرض،ولما كانت حالة الجهاد تستدعي واقعا تمثيليا للشعب المقاوم؛ قررت أن تعزز موقعها الجهادي من خلال  دخول العملية السياسية،بل إن  هذه  المشاركة  السياسية تأخرت إلى العام  2006،حينما قررت الحركة المشاركة في الانتخابات التشريعية والبلدية بعد أن قاطعتها طيلة العهد السابق؛ حيث تأسست الحركة مع انطلاقة الانتفاضة الأولى عام 1987، وانخرطت في العمل المقاوم  وكان لها موقف واضح من عملية السلام، واتفاق (اسلو) الذي افرز الحالة السياسية الجديدة على ارض فلسطين، ومع دخولها في العملية السياسية واجهت حماس جملة من المضايقات تمثلت في حصار غزة، وملاحقات  صارمة لأبناء الحركة في الضفة أدت إلى تعطيل أدائها السياسي المتمثل في نواب الحركة،ومجالسها البلدية،لكن الحركة بقيت تعلن أن هذا الدخول يمثل تكتيكا مرحليا بغية استكمال مشروعها الجهادي،القاضي إلى دحر المحتل   وتحرير الأرض.

وربما تكون حماس قد وجدت نفسها مضطرة لمزاولة العمل السياسي   تحت سقف اسلوا بعد أن ضاقت الخيارات أمامها؛ فما كان من قياداتها إلا  أن اجتهدت وقررت دخول العملية السياسية حماية للمشروع الوطني كما يقول منظروها.

ولعل مناقشة نجاح الحركة في تحقيق أهدافها سابق لأوانه ما دامت حالة الصراع قائمة،وما دام العمل الذي تزاوله الحركة-على أرض الواقع -ينتمي للعمل الجهادي المقاوم أكثر من انتمائه لإدارة الحكم والعمل  السياسي الخالص.

أما في الحالة التركية؛ فإن تغلغل العلمانية في مفاصل الدولة، وفرض حظر على النشاط الإسلامي بكل  تمفصلاته جعل الحركة تجترح طرقا  مختلفة لتشكيل موقعية لها؛فكان اللجوء لتشكيل أحزاب مدنية -لا يشكل الإسلام لافتة براقة لها- واحدا من الأدوات الفاعلة للوصول إلى الحكم.

ويمكن الإشارة إلى أول تشكل إسلامي ذي صبغة سياسية، وذلك في تجربة المفكر الإسلامي نجم الدين اربكان -رحمه الله- حينما شكل حزب "النظام الوطني"، ثم حل هذا الحزب ليشكل بعده  حزب "السلامة الوطني " الذي حلته المحكمة الدستورية عام 1980، لكن اربكان  مضى قدما  ليشكل حزب الرفاه عام 1983م، ويصل من خلاله إلى سدة الحكم، لكن تربص العلمانيين به حال دون استمراره،فصدرت عام 1997م جملة قرارات صارمة ضد الإسلاميين عموماً، من بينها وضع "أربكان" في العزل السياسي لمدة خمس سنوات قبل أن يحظر الحزب كلياً عام 1998م

.لكن تتويج التجربة الإسلامية في تركيا كان على يد تلامذة اربكان الذين انشقوا عنه  وشكلوا حزب "العدالة والتنمية" إلى أن رشّح "عبد الله جول" رئيساً للبلاد عام 2007م،مما أثار غضب الجيش الذي أعاق العملية الديمقراطية في مجلس النوّاب، فما كان من"أردوجان" إلا أن تحدّاه، من خلال انتخابات مبكّرة حقّق فيها انتصاراً كاسحاً، سمح بإيصال "عبد الله جول" إلى رئاسة الجمهورية.

هذه التجارب المجتزأة -بصورتها الوصفية كمحاولات ناجحة نسبيا- لم تستطع- في رأيي- حسم الخيارات الإستراتيجية للمشروع الإسلامي  الكبير، ولا يمكن وصفها بأنها نهاية الأرب في طموح العرب، لكنها وظفت–هنا- باعتبارها-أمثلة واقعية في سعي الفكر الإسلامي للتمثيل السياسي وفق منطلقات فكرية إسلامية، فعند العودة لخطاب الحركات الإسلامية- منذ أوائل القرن الماضي حتى اللحظة- يجد المتابع لفكر هذه الحركات تقلبات في هذا الخطاب، واقتراب أكثر إلى ما يمكن تسميته  الواقعية الإسلامية، التي كانت أكثر استجابة لمشروعات التحرر والاندماج في تجارب  التغيير التي أحدثتها الثورات الأخيرة من الخطاب الجامد الذي قدمته النظريات الصارمة في طريقة الوصول إلى الحكم عبر عشرات  السنين.

وهذا يجعلنا نطرح جملة من التساؤلات حول رؤية الحركات الإسلامية  لما تشهده الساحة العربية من  ثورات  شعبية  إصلاحية:هل الخطاب  الإسلامي جاهز لمواكبة هذه التطورات ؟ وهل هذا التغير الشعبي سيتبعه تغير في أبجديات الخطاب الإسلامي؛بحيث تقبل هذه الحركات بمنطق احكم ثم قنن،أو شارك  في الحكم ثم غير؟ وهل وصول الإسلاميين إلى الحكم سيسقط من حساباتهم فكرة المطالبة بالخلافة الإسلامية؟ أم أن هذا الحكم سيكون مرحليا  للانتقال بعدها إلى المشروع الإسلامي العالمي. 

لقد بادرت كل من حركة النهضة في تونس والإخوان في مصر  في إعادة تشكيل الجماعة سياسيا ليلائم هذا التشكيل الطبيعة المرحلية التي فرضتها الثورات الشعبية الأخيرة،مما يمكنهما من الانخراط في حالة سياسية جديدة فرضتها الثورتان المصرية والتونسية. فهل سيعني ذلك تحول المشروع الإسلامي إلى مواكبات إقليمية للتفاعل  مع حالة التغير  والانخراط في العملية السياسية القائمة والوصول إلى سدة الحكم من خلال  صندوق الاقتراع؟ وهل الوصول إلى سدة الحكم هو نهاية المطاف في برنامج الحركات الإسلامية  ؟أي ماذا بعد....؟

 تلك أسئلة  جدية تواجه الخطاب الإسلامية الفاعل الباحث عن أفق عملي للتمثيل السياسي من خلال  رؤية إسلامية.

 إن الواقع السياسي معقد إلى درجة استحالة انفراد حزب أو جماعة في إقامة نظام سياسي  مستقل – على المدى القريب – وأن أية حالة سياسية  متشكلة لا يمكن أن تنعزل عن محيطها العالمي، وعلاقاتها الدولية،أي أن أبجديات التصور الإسلامي الحديث لا  يمكن أن تغفل الوقع التكنولوجي الجديد، الذي جعل العالم كرة صغيرة. والواقع الاقتصادي الحديث الذي جعل العالم سوقا مشتركة، ومن هنا؛ فإن أية  مشاركة سياسية في ظل المتغيرات  يجب  أن  لا تغفل –أيضا- التصور الواقعي الجديد القائل بأن المشاركة الفاعلة في إي أفق سياسي لا  تعدو إن تكون مرحلية في توصيفها، وان الأهداف الكلية لن تتحقق إلا  بتحقق ذلك الهدف الإسلامي الكبير.

 لكن ما أفرزته الثورات الحديثة في تونس ومصر يؤكد على أن  طاقة الأمة فيها من الحيوية ما لا يجوز إغفالها، ولذا يجب الاستفادة من هذه الطاقة ولا يجوز أن يبقى جهد الحركات منصبا على الجهد الحزبي كما كان سابقا. مع ضرورة الإشارة إلى نقطتين:

أولا-أن هذه الطاقة الشبابية غير مؤطرة فكريا، إلا أن السواد الأعظم منها  لن يرفض الإسلام فكرا وعقيدة ومنهاج حياة.لذا لا بد من  الاستفادة من  حيوة هذه الفائدة وحملها  برفق على تبني التفكير الإسلامي .

ثانيا- إن الواقع السياسي لا يسمح بقفزة واحدة في تحقيق الأهداف الكبرى؛لذا فإن مرحلية التطبيق تعد ضرورة من ضرورات العمل  الايجابي الفاعل في مشروع الصحوة الإسلامية.

 ومن هنا- أيضا- فإن نزول الأحزاب الإسلامية إلى القاعدة الشعبية سيفسح المجال للبدء في تنفيذ التصورات  الكبرى تدريجيا؛ وذلك من  خلال  المشاركة الفاعلة في نظام مؤسساتي، يسمح بتشكيل أحزاب  سياسية ،يكون من أبجدياتها إيصال صوت الحق للناس، وعندما تكون القاعدة الجماهرية جاهزة لتبني الإسلام فكرا  وسلوكا وعقيدة  ومنهاج حياة ،فإن نظام الحكم سيتحول مباشرة إلى ذلك النمط الإسلامي المنشود، دون أن نقارع الزمان والمكان وننحت في صخر الأخر بمعاولنا كمعارضة لم يصل صوتها الصافي للشعب بعد.