شيء عن واقع الديمقراطيين... وتونس..

عقاب يحيى

وكتبنا كثيراً في حكاية الديمقراطيين.. اليساريين والعلمانيين وأشباههم , في الأزمة المستعصية، وحالة النخبوية وتفريخاتها. في الهوّة الكبيرة مع الشارع، والناس العاديين. في فهم تركيبة مجتمعاتنا وموقع الإيمان على العموم فيها، والدين الإسلامي على وجه الخصوص بكل التفسيرات المنتشرة والمذاهب الشرعية  وتلك التي تشكل أحزاباً تاريخية : الطوائف ومسافات البعاد.. والخلاف..

ـ من وصل إلى السلطة باسمهم، وعلى رائحتهم، أو بالانتماء إليهم ولو شكلاً كان أكثر استبداداً وفاشية وأحادية مما عرفت مجتمعاتنا.. وقد عهّر هؤلاء الشعارات، وداسوا على المبادئ التي رفعت، ونخروا المجتمع في صميمه، ونجحوا، إلى درجات كبيرة، في إحداث اختراقات مهمة في صفوف النخب باحتواء كثيرها وتحويلها إلى ابواق ومرتزقة وحتى كتبة تقارير بينما لفّ الغياب، والعزلة، والتكوّر والاعتقال تلك القلة التي رفضت وأبت الخنوع والتدجين والسير في قطيعهم..

ـ أحزاب الانتماء للشيوعية كانوا الآباء الرسميين لإنتاج الدكتاتورية عبر الاستناد لمقولة دكتاتورية البروليتاريا وما عرفته من تشويهات وتعريفات حتى العظم، ناهيك عن تلك الكاريكورات التي انتسبت للمارسكية فيما يسمى"العالم الثالث" وضمن مجتمعات ينخرها التخلف، وعلاقات ما قبل الإقطاع أصلاً.. وتسود فيها القبلية والرعوية والأشكال المختلطة من البنى والعلاقات المفوّتة.. فتشرشحت الماركسية ولم يؤخذ منها سوى تبرير القمع الشمولي تحت رايات العنف الثوري.. بينما كانت" العسكرتاريا" هي المنتصب الأقوى، والمحرّك الحاكم..

ـ سقطت مشاريع النهوض تحت أقدام المرتدّين والخونة.. وتهاوى الاتحاد السوفياتي وحلّ خريف طويل كان يحتاج لمّ اوراقه الكثيرة المتساقطة وفحضها لمعرفة الأسباب، وباتجاه التجديد والمراجعة، بينما كانت الفرقة، والذاتية السمة العامة للمحسوبين على الاتجاه الديمقراطي واليساري.. وما يشبه العلماني بتفسيراته واتجاهاته المتعددة المتناقضة.. وانعكس ذلك على بقايا الأحزاب المصابة بالهَرم، وتصلب الشرايين والتحنيط وفي التحول لأحذية لدى نظم الاستبداد تنظّر لها، وتبصم على قراراتها.. وتسبّح بحمدها.. وكان المثال السوري صارخاً، وما يعرف ب"الجبهة الوطنية التقدمية" واحزابها التاريخية، وأحزابها اللملمة الأنموذج الفاقع لمستوى التهاوي.. ناهيك عن مترتبات تلك العلاقة في مزيد التفسخ، والانقسام، وتكريس التوريث بعضاً من محاكاة الطاغية الأكبر ونظامه الفئوي ...

***

ورغم الحضور الكثيف، والواسع على الساحات الإعلامية، وفي مجال الكتابة والظهور.. غلا أن معظم المحسوبين على تلك الاتجاهات كانوا أفراداً، أو شللاً مبعثرة، وبعض التواجدات الحزبية المحاصرة من داخلها، ومن قبل نظام الاغتيال المعمم...بينما نجح الإسلاميون، ولأسباب وشروط عديدة لصالحهم في البقاء أحياء، وفي مدّ شبكات اجتماعية متعددة توغل أعمق في قاع الأوطان، وتستفيد من قدرات مالية، ومن مساعدات كبيرة كانت تأتيها من دول الخليج : رسمياً أو عبر الجمعيات متعددة الأشكال فيها.. وأثر "الصحوة الإسلامية" وعودة الكثيرين إلى الدين بحثاً عن تعويض وملجأ، وحماية.. وبديل.. بينما كانت حواضن الآخرين من العلمانيين تضيق جداً، وتجيّر لحساب نظم الاستبداد والطائفية والمافيا التي تدّعي الانتساب إلى تلك الاتجاهات العلمانية ولو زوراً، ولو شكلياً.. بينما تنحرها بكل لؤم ونذالة.

***

اليوم والانتخابات التونسية لاختيار رئيس للجمهورية تفتح شهية التأمل في لوحة واقع الثورات العربية، ومراحل تحولها، خاصة في تونس التي نجحت في تخطي عنق الزجاجة.. فإن القوى الأكثر تأثيراً، وانتشاراً هي بقايا النظام القديم بكل شرشبات نفوذه وامتداداته وخبراته وتغلغله في الدولة والأجهزة، خاصة الأمنية منها والمؤثرة، وحتى القضاء، وعموم مفاصل الإدارة.. وكذا حزب النهضة باعتباره أكثر الأحزاب الدينية تمثيلاً 

بينما يتمرجّح المنصف المرزوقي المعارض القديم، المتنوّر على حبال ما سيحدث من تحالفات، والخوف كبير من أن تغلّب حركة النهضة مصالحها الخاصة على غيرها.. فينجح ممثل النظام القديم..وما يعنيه ذلك من احتمالات تطرح أسئلة كبرى حول الخيارات، وحول مصير الثورة ومستقبلها.. وقصة التعايش ورفض الإقصاء .. وجوهر العدالة الانتقالية التي لم تجد تجسيداتها، وأثر اصحاب المال والنفوذ والمافيا .. وقدراتها على ركوب جميع الأحصنة...بينما يتفرّق شمل الصفّ المحسوب على الديمقراطيين والعلمانيين، هم الذين يعانون أصلاً الاحتباس، والبعد عن القطاعات الشعبية العريضة ..