الانتهازية وانتفاضة العراق الكبرى

أمير المفرجي

لا شك بأن إنتفاضة يوم 25 شباط هي بمثابة بداية إنطلاقة ثورة شعبية على الفساد والفاسدين للنظام الحاكم في العراق، فهي وكما تراها غالبية العراقيين على إنها  ثورة بكل معنى الكلمة من خلال محتواها الوطني والإنساني والتحرري، حيث تقف خلفها جميع مكونات الشعب من شباب ومنظمات المجتمع المدني, ناهيك عن الملايين من مناهضي الاحتلال والكادحين والعاطلين عن العمل. ولأول مرة ومنذ عام 2003 فقد أصبحت أهداف هذا التجمع الشعبي الكبير هو إنقاذ العراق من هذا الوضع المتردي والمزري الذي جلبه الاحتلال وأعوانه عن طريق حكوماته الخمسة التي ساهمت وأدت في يصل هذا البلد المهم إلى هذه الدرجة من الانحطاط الوطني والبؤس الاجتماعي. حيث وفي غيبة المرجعية الوطنية وتَغَوُّل الاستبداد الشخصي والمذهبي المـُتُخلف, قامت هذه الحكومات بالعبث بكرامة الناس وحياتهم وحرمتهم من حقوقهم، وأضحت وظيفة المؤسساتِ الأمنية والقانونية المرتبطة مذهبيا برجال الدين الفاسدين هي ملاحقةَ معارضي الاستبداد والطغيان من الوطنيين ومعارضي الاحتلال، بدلاً من العمل على جمع العراقيين وبناء الوطن وتحقيقِ مصالحِ الأمة ومن ثم ملاحقةِ المفسدين ومتابعةِ عصاباتِ الإجرامِ والقتل والفساد. إذن هي بداية ثورة تنطلق من مبدأ الإحساس بالمسئولية تمدُّ يدها لكل القوى المخلصة علمانية أو دينية دون استثناء، وان هدفها هو توحيد الرؤى وتكامل الجهود حتى تـُنهض الوطن من كبوته، وتتبوأ المكانة التي يستحقها بلدنا العزيز علينا جميعا بين بقية أمم الأرض

ونظرا لأتساع قاعدة الثورة  الشعبية, فقد تحاول بعض التيارات الدينية المذهبية والعلمانية الانتهازية المعروفة بمواقفها تاريخياً من التسلل وركوب الموجة بعد أن كُشفت أحداث العراق الأخيرة عن كل أوراقها, وأزالت تملقاتهم ومباركاتهم لحكومة المالكي وجوقته الطائفية أخر وريقات التوت التي حاولوا التستر بها. ولا غريب في أن نشاهدهم في وقت بدأ انطلاق الثورة الشعبية جنبا إلى جنب مع باقي المنافقين الذين تلطخت أيديهم بالدم العراقي ليركبوا موجة المطالبة الشعبية سوية.

فهم نفسهم من بارك الاحتلال ورضا بتدمير البلاد, وبوجودهم غـُيبت المرجعية الوطنية وازداد الظلم والاعتقال لمن يطالب بحقه، وإمتلئت زنزانات السجون بذوي الكفاءاتِ والكادحين من الوطنيين لمجرد أنهم يرفعون أصواتَهم ضد العبودية والفسادِ والاستبداد والتزوير، وهم نفسهم من أخلى الساحة السياسية لضعاف العقول والنفوس والسراق الذين يفضلون مصالحهم الخاصة على مصالح الوطن والأمة، لتنفرد من خلال ذلك الأنانيات الفردية، ويتمزق نسيج المجتمع وتهتزُ قيمة العدلِ في نفوس المواطنين. وبوجود هؤلاء الفاسدين والعملاء من أصحاب العمائم الذين ساندوا المُحتل الأمريكي وجعلوا من إيران مركزا مكملاً في وأد الحس الوطني المُستقل, اضطر العديد من رجال الدين الشرفاء في مدن العراق المقدسة من ترك العراق واللجوء في دول الجوار بعد أن ضاقت بهم الأمور جراء المضايقات بل والتهديدات التي مارستها عليهم قوى المذهبية والخنوع العميلة من طلاب المال ولذات الدنيا الحرام التي رعاها النظام السياسي الذي أتى به الاحتلال في 2003.

ولم تكن حالة هذه العمائم الفاسدة وسياسي العراق الجدد بأفضل من أمثالهم من بعض الانتهازيين والمشعوذين المتلونين ممن يدعون بالعلمانية في الخارج . حيث وجد البعض في ظهور الطائفية وأهمية وجودها في المشهد العراقي الحالي مناسبة لانتهاز الفرص وبالتالي التلون بلونها والتأقلم بآدابها بالتطاول على العراق وتاريخه التحرري الوطني المشرف متناسين ما كتب ونشر في هذا الموضوع في مراجع كبار مؤرخي الحركة الوطنية العراقية ككتاب (الثورة العراقية الكبرى) لمؤلفه عبد الرزاق الحسني و مجموعة (تاريخ العراق الحديث) للدكتور علي الوردي. فلا غرابة من أن نقرأ بين الحين والأخر في أرائهم في ما يتعلق بالانتفاضة الشعبية القادمة هذه المهزلة الكبيرة الناتجة من التباين في تأييدهم تارة للوضع السياسي في العراق المُحتل ومقابلة المالكي والمدح به, وتارة شجبهم للنظام العراقي وللمالكي نفسه واصطفافهم الانتهازي خلف الشعب في انتفاضته القادمة. ففي الوقت الذي يُهجر المناضل الحقيقي وتـُُمنع نقاط التقاءه في العراق , ينتهز هؤلاء الفرص في التقرب من النظام الفاسد عن طريق ازدواجية اللعب على الحبلين بممارسة لعبة المؤيد والمعارض في نفس الوقت, ولا يتمادون لحظة واحدة من ركوب الموجة الوطنية بعد تهميش هذا والكذب على ذاك، والبيع من هنا والمساومة من هناك.

ولا يخفى على أحد أن النفاق الديني المذهبي والعلماني هما وجهان لعملة واحدة تتمثل بالانتهازية. فالانتهازي يضمر من وراء تظاهره تفضيل مصلحته الذاتية غير المشروعة على مصلحة الوطن, والإبقاء عليها بإتباعه أساليب تتلون بألوانها وتتفصل على مقاساتها, ليتغلغل في النهاية بين صفوف المؤمنين والثوار مظهراً ولائه وإيمانه متحيناً للفرص, وركوب الموجة القادمة. فهم أقوياء ومؤيدين لحكومة المالكي بجبروت قوتها وزهد مؤسساتها, ثائرون ضدها ومعارضون لها في حالة فشلها واقتراب نهايتها وكأنهم قادة يمثلون حركة الشعب الوطنية. حيث إنهم يرون في وضع البلد الطائفي وغياب السيادة الوطنية فرصة العمر في التلون والازدواجية طالما سُمح لهم بأن يكونوا في الموقع الأمن والأمين الذي اختارته القوى النافذة والمستفيدة منهم, في الوقت الذي تتعرض النخبة الشريفة من الوطنيين ورجال الدين المناهضين للاحتلال والطائفية لشتى أنواع المحاربة والتهميش بل حتى الاعتداء عليهم شخصيا وقتلهم أو إجبارهم على ترك العراق.

لقد ساهمت فترة الثمانية سنوات من عمر الاحتلال وتعاقب حكوماته الخمسة في رسم بصمات خارطة الأحداث العراقية ومشهدها السياسي المثير للجدل. إنها فترة مظلمة من تاريخ العراق المـُحتل سجلت فيها هذه الأحداث الكثير من الوثائق المهمة المتعلقة بجرائم الطائفية والفساد والسرقة التي يتحمل مسؤوليتها النظام القائم في العراق. فشتَّان بين عراق اليوم، عراق يضيعُ فيه الحقوق، ويشيعُ فيه الإحساس بالظلم والتفرقة, وبين عراق الغد عراق الدولةٍ الوطنية التي تحكمُ بشعبها ونخبتها. فلم تعد تنفع انتهازية عمائم الاحتلال ووطنيي العراق المزيفين في هذا الوقت المتأخر فحين تندلع الثورة, فسيكون من الفائت لأوانه من اللحاق بها.