ليس دفاعا عن سعيد عقل
فراس حج محمد /فلسطين
توفي الشاعر اللبناني سعيد عقل، صاحب التراث الشعري الكبير والمتنوع الذي أثرى الثقافة العربية المعاصرة، وعلى الرغم من دعواته (غير الثقافية) وغير البريئة ربما في دعوته لاجتراح لغة لبنانية خاصة، إلا أنه صاحب اتجاه في هذا الدعوة اشترك فيها مع كثيرين ممن يتربعون عرش الثقافة العربية المعاصرة، وخاصة بعض المفكرين المصريين، وهم أول من دعا إلى ما دعا إليه سعيد عقل، وعلى الرغم من أن هذه الدعوة، لم تكن بريئة ولن تكون، إلا أنها أنتجت حركة ثقافية خصبة، وحركت المياه الراكدة في بحر الثقافة العريية التي تتماوج بهدوء دون أن تتمخض عن حركة ديناميكية إلا بدعوى الشعور بخطر يهدد العربية أمة وثقافة أو ينوشهما بشيء من عيب، وكأن اللغة أو الثقافة أو الأمة شيء عابر لتنهار أمام دعوة مثل هذه الدعوة!
ربما لن يكون الحديث ذا بال ونحن نتحدث عن دعوة اندثر دعاتها وتراجعوا عمليا عما دعوا إليه، دون أن يُحْدِثوا ضجيجا في انسحابهم كما أحدثوا ضجيجا في دعوتهم، واقتنعوا إبداعيا أن اللغة العربية الفصيحة حضارة وتاريخ طويل لن يهتز أمام دعوة عابرة، فكلهم دعوا إلى ما دعوا إليه، وهم يكتبون بالعربية العالية المستوى، إنه لتناقض واضح، لا بد من أنه أشعرهم بضرورة التوقف والتأمل والمحاسبة!
رحل الشاعر سعيد عقل وهو علامة بارزة في الثقافة العربية، وإن اعتد بأصوله الفينيقية الراسخة وقوميته اللبنانية، وهذا ليس حكرا عليه وحده فالفلسطينيون الذين هاجموه وانتقدوه ونبشوا ماضيه يعتزون بكنعانيتهم، ويرددون بأنهم "شعب الجبارين"، كما اعتز المصريون، وما زالوا، بفرعونيتهم، والسوريون والعراقيون بأشوريتهم، ولعله رجوع وارتاد في الثقافة العربية، تلك التي أخذ أهلها وسدنتها يعودون إلى ما قبل التاريخ ليثبتوا أصالتهم، بعيدا عن التشكل الديني والمعرفة اليقينية، وهو ارتداد صاحبته ظروف ليست فكرية فقط، بل أراه نابع من أزمة حضارية كبرى، ما زالت تشعر العربي بأنه متخلف عن ركب الحضارة الحديثة!
وأما ثالث ما أقف عليه فيما يدور في فلك الساعر الراحل سعيد عقل، موقفه من الفلسطينيين في لبنان عام 1982 عندما هاجم الإسرائيليون المعتدون لبنان للقضاء على المقاتلين الفلسطينيين، فصرح الشاعر بما صرح به، وهذا يندرج ضمن توجه عام كان سائدا في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية، ليس عند سعيد عقل وحده بل عند كثير من السياسيين العرب وليس اللبنانيين فقط، كما شاهدنا ذلك في مواقف اللبنانيين أنفسهم ضد حزب الله في حروبه مع الإسرائيليين، ومعهم كثير من العرب، فهذا نابع من قناعاتهم السياسية، على الرغم من أنني هنا لست في معرض التصحيح والتخطئة، بل هي مواقف مشهودة ومعروفة ولا ينكرها أحد، وتتجدد مع كل أزمة يقع فيها الفلسطينيون وفي كل حرب، ألم نعشها بكل تفاصيلها المحزنة في حرب غزة الأخيرة وتصريحات بعض المصريين من إعلاميين وغيرهم ممن شدوا على أيدي الجيش الإسرائيلي، ودعوهم لتحطيم المقاومة في غزة؟ ثم ألم يأتِ إعلامنا الرسمي الفلسطيني ويستضيف "توفيق عكاشة"، دون خجل أو وخزة ضمير أو مراعاة لعذابات متطاولة لشعب يرزح تحت نير الاحتلال وحصار الإخوة!
رحل الشاعر سعيد عقل، فأثيرت ضده هذه الموجة من الغبار، ونسي الفلسطينيون المثيرون للعاصفة أن السياسة الفلسطينية اليوم وباتفاقيات دولية قد حققت للإسرائليين ما عجزت عنه الجيوش والحروب، وبتنا نحن الفلسطينيين حماة للأمن الإسرائيلي، ونفتخر بأن الضفة لن تثور ولن يسمح لها أن تثور، نصرة لغزة أو القدس، فقد تحققت فينا الشرذمة المقيتة؛ فصارت كل مدينة تقاوم وحدها، دون السماح لهبة الشعب لنصرة نفسه في القدس أو غزة، إنه لمصير أفظع من تصريح لشاعر كان يرى لبنان على كف عفريت بسبب المقاومة التي وضعت في سياقٍ ناشز ونشاز، كما وضعت من قبلُ في الأردن فأنتجت أيلول الأسود، وحدث ما حدث!
تذكروا الشاعر سعيد عقل وما خلفه من تراث أدبي وشعري جميل، ولا تنسوا أن بعض رموز الشعب الفلسطيني الثقافية قد دعت للتطبيع مع المحتلين وقبولهم كآخر محتمل وقدر لا رادّ له، فنحن جميعا (فلسطينيين وإسرائيليين) وقعنا ضمن (سيناريو جاهز) فما علينا سوى أن نتعايش معا.
تذكروا كل الأعداء الأوفياء والأصدقاء الألداء، وحاكموا بعدها الشاعر الراحل الذي نقش روحه في صوت ملائكي لتشدو به فيروز كل صباح، بتراتيل روحية لن تنسى من مثل "زهرة المدائن" و"يارا" و"أمي يا ملاكي"، وغيرها الكثير الكثير!