اللاجئون الفلسطينيون في وثائق التفاوض
تحمل الوثائق التي بثتها قناة الجزيرة الفضائية كقنبلة ويكيليكس فلسطيني العديد من الاستفسارات التي قد تكون إجابتها واضحة من خلال ما عاشه الفلسطينيون في ظل مسيرة التسوية، وقد تبدو محاولات المفاوضين التنصل من هذا الشرك عبثاً طالما اعتادوه، وربما كانت بداية الخيبة لكبير المفاوضين الذي خرج على شاشة الجزيرة للإجابة على الوثائق فاعترف وهو في معرض الإنكار.
فأقر بمبدأ تبادل الأراضي واختلفت لديه النسبة فقط، وأكدّ وجود هذه المحاضر والخرائط وأنها ليست جديداً، ثم أكد عباس ما أكده عريقات بأنهم قد أطلعوا العرب على كل شيء تستراً خلف الرداء الذي لا يقي حر الصيف ولا برد الشتاء ولا فضائح هذه المحاضر والوثائق، ليأتي السؤال هنا هل إبلاغ العرب سيعني بالضرورة براءة فريق التسوية من هذه الوثائق، وهل العرب المبلغين أصحاب تمثيل ونيابة عن الشعب الفلسطيني ليكون تبليغهم غطاء عباس وفريقه للولوج في وحل التفريط بالحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني؟
أليس الشعب الفلسطيني من ينبغي أن يبلَّغ من قبل فريق التفاوض بمجريات الأحداث؟ أم أننا نتحدث عن حق عودة الهنود الحمر حتى يكون اللاجئ بعيداً ومغيباً؟ ثم ينبع سؤال الشرعية التمثيلية لفريق التفاوض من أين جاء؟ فلم يعلم الفلسطينيون في مخيمات اللجوء أو في غيرها من مناطق انتشارهم أية تجربة ديمقراطية لإفراز مؤسسات تمثيلهم، وحتى لو وجدت هذه المؤسسات فهل يحق لها أن تتصرف بحق طبيعي يكفله القانون الدولي، ويعتبره حقاً فردياً وجماعياً أصيلاً غير قابل للتصرف؟
قد تكون قضية التفويض مسألة مهمة، لكن الأهم أن التفويض لو حصل ليس مبرراً للتنازل وتصفية قضية سبعة ملايين لاجئ، وشطب معاناة أكثر من 62 سنة، نعم اثنان وستون عاماً من الانتظار في طوابير الأونروا، وتوقيف في مطارات العالم، وقهر وحرمان في مخيمات اللاجئين، وأجيال قضت نحبها على طريق العودة.
قد لا يبدو عرض السلطة بتصفية قضية اللاجئين التي وردت بالوثائق صادمة ومفاجئة لنا كشعب فلسطيني، لكنها برهنت ودللّت على ما اعتقدناه سابقاً لسنوات طويلة، لقد اتبعت السلطة وأركانها سيناريو اختراق الوعي الجمعي الفلسطيني على قاعدة الحبة .. حبة .. لسهولة البلع، والتمهيد لتسلل أفكار الهزيمة.
فقد قالها هاني الحسن في لندن عام 1989 في جوابه لماذا قاتلتم إسرائيل 20 عاماً؟ فقال كي يقبل شعبنا "السلام"، واستحضار مسيرة التسوية منذ بدايتها يؤكد صدقية هذه الوثائق، فبعد توقيع أوسلو بأقل من عام وقع أبو مازن وثيقة سرية مع يوسي بيلين وضعت فهماً فلسطينياً إسرائيلياً مشتركاً لقضايا الوضع النهائي، كانت فيها قضية اللاجئين وحق العودة خاضعة لحلول يقبلها الإسرائيلي.
فأشارت إلى حل يرتكز أساساً على التعويض والتوطين سواء في مكان الإقامة أو مكان آخر بديلاً عن حق العودة بعد تشكيل "اللجنة الدولية للاجئين الفلسطينيين" بل وتعهدت منظمة التحرير في الوثيقة بعدم المطالبة بأي مطالب تتعلق بقضية اللاجئين فيما بعد، وأن تعتبر هذا الحل نهائياً لقضية اللاجئين.
وأحيطت هذه الوثيقة بسرية تامة إلى أن سربها الإسرائيليون وأنكرها عباس، ولا أعتقد أن التسريب كان خطوة غير محسوبة لأن جس نبض الشارع تجاه هذا الموضوع مطلوب لإخراج مثل هذه الوثيقة إلى العلن، ولا يُعقل أن توَقع وثيقة لإيجاد حل لقضية اللاجئين لتخبئتها للأبد، واعتبرت السلطة فيما بعد أن هذه الوثيقة غير رسمية ولا تمثل الموقف الرسمي للسلطة مع أن الذي وقعها محمود عباس الذي كان يشغل منصب مسؤول دائرة العلاقات القومية والدولية في منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك.
ولكن في عام 2000 عندما قدم بيل كلينتون مبادرته للحل النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وجدنا أن المبادرة ترتكز أساساً على الوثيقة السابقة الموقعة بين أبو مازن وبيلين، وهذا ما فتح شهية شخصيات كثيرة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير لتوقيع ما هو أدنى وأكثر إغراءً للإسرائيليين فوقع سري نسيبة مسؤول ملف القدس في منظمة التحرير آنذاك وثيقة نسيبة آيالون في وزارة الخارجية اليونانية عام 2002، ثم جاءت الوثيقة الأخطر في نهاية 2003 والتي وقعها ياسر عبد ربه في جنيف بعد مفاوضات البحر الميت، وعرفت بوثيقة جنيف البحر الميت.
وخطورة الوثيقة الأخيرة أنها كانت علنية بخلاف سابقاتها وشارك فيها عدد كبير من أركان السلطة والمنظمة، الأمر الذي أعطاها بعداً رسمياً أكبر من وثيقة بيلين، وتحدثت جنيف عن رؤية للحل النهائي للصراع وكانت قضية اللاجئين وحق العودة المشترك الأساسي بين وثيقة أبو مازن وعبد ربه، وبعيداً عن حق العودة تم اقتراح الحل بتخيير اللاجئ بين الدولة الفلسطينية المزمعة وبين مكان إقامته الحالي (الدول المضيفة) وبين دولة طرف ثالث، وتعود أعداد رمزية إلى ما يسمى "إسرائيل" بعد أن يخضع ذلك للتفكير السيادي الإسرائيلي.
وصرفت ملايين الدولارات على الحملة الدعائية لترويج وثيقة جنيف كمسودة لاتفاقية الوضع الدائم، وسارت السلطة في هذه الحملة رسمياً وبأجهزتها الإعلامية، وكانت تحاول التقليل من أهمية هذه الوثيقة عندما تتعرض لردود فعل ترفض الوثيقة فتدعي أنها غير رسمية وتمثل وجهة نظر بعض النشطاء والأكاديميين الإسرائيليين والفلسطينيين (40 سياسيا وأكاديميا فلسطينيا) الذين يشغل أحدهم (ياسر عبد ربه) وزير إعلام السلطة (كناشط).
وبعد ذلك بخمس سنوات تقريباً في 2009 تحديداً دار الحديث وعلى لسان رام عمانويل عندما كان كبير موظفي البيت الأبيض في بداية ولاية الرئيس الأميركي أوباما حسب ما نقلت الصحافة الإسرائيلية حين قال إن إدارة أوباما تنظر إلى وثيقة جنيف على أنها تمثل أساساً مناسباً للحل الدائم بين الفلسطينيين والإسرائيليين.
وكانت نفس الصحيفة أشارت إلى اطلاع وزيرة الخارجية ومجلس الأمن القومي الأميركيين على الوثيقة واهتمامهما بها، وفي وثائق الجزيرة التي نشرتها حول العرض الفلسطيني فيما يتعلق بقضية اللاجئين نجد انسجاماً تاماً مع مضمون جنيف والرؤية الأميركية لهذا الموضوع، وهو ما يزيد في صدقية هذه الوثائق ويؤكد على أن وثيقة جنيف وثيقة رسمية بخلاف ما أعلنته السلطة سابقاً.
وهذا المشهد الذي يمثل قمة الانحدار السياسي للمفاوض الفلسطيني لن تكون نتائجه كارثية فيما لو تحقق فقط، وإنما سيؤثر سلباً من الآن وبمجرد وصول المفاوض إلى هذا القاع في مستوى مطالبه، لأن مثل هذه الاتفاقات والتفاهمات والعروض الخاصة بين فريق التسوية والإسرائيليين سيكون أهم اعتبار معياري للتعامل مع القضايا الفلسطينية عموماً وقضية اللاجئين خصوصاً على المستوى الدولي.
وقد يفسر هذا عدم تردد بعض الدول بالاعتراف بدولة محمود عباس التي قايضها بكل الثوابت، فما جرى ويجري في كواليس الفنادق والمنتجعات السرية داخل غرف التفاوض يمثل اختراقاً خطيراً لمعيار التعامل الدولي وغير الدولي معا فيما يتعلق بالحقوق الثابتة كحق العودة المكفول في كل المواثيق الدولية ذات الصلة والتي مثلت على مدار 62 عاماً أصعب وأعقد القضايا في وجه الاحتلال، فيما مثّلت وثائق عبد ربه وعباس السرية الاختراق المتسلسل لوعينا كفلسطينيين فبدأت سريةً ثم تسربت لجس النبض، ثم تبرأ منها أصحابها، ثم أعادوها مرة أخرى وأخرى لضرب جدار الإرادة الفلسطينية وقناعتها ووعيها بمستواها الشعبي.
ليس هذا فقط ما يؤكد على صحة وثائق الجزيرة، بل إن خطاب السلطة ومحمود عباس تبنى إزدواجية واضحة فيما يتعلق بالثوابت، الأول كان موجهاً للشارع الفلسطيني وكان محصوراً فقط في شاشات التلفزة العربية ووسائلها الإعلامية وفي المهرجانات والتصريحات الوظيفية التي تستخدم كاستهلاك محلي، وكان مضمون هذا الخطاب تمسكا بالثوابت وشعارات تتحدث عن العنوان والعموميات دون الآليات والتفاصيل، وكان هناك خطاب آخر موجه للغرب والمجتمع الدولي و"إسرائيل" لا يسمعه الشارع.
ففي تصريح لعباس في 7/2/2009 لصحيفة دير شبيغل الألمانية استهجن المطالبة بعودة اللاجئين وأن هذا الخيار غير منطقي وغير عملي، وقبل ذلك وفي مقابلته مع هآرتس العبرية في 22/8/2008 حين أعرب عن تفهمه للموقف الإسرائيلي وأنه لا يمكن المطالبة بعودة خمسة ملايين لاجئ (اللاجئون 7,4 ملايين طبعاً) إلى "إسرائيل" لأنها ستنهار، وأن كل مراده هو اعتراف إسرائيل "بمشكلة" اللاجئين، ثم يجري الحديث عن الأعداد المعقولة التي يمكن أن تستقبلها "إسرائيل".
وتكرر الأمر غداة انطلاق المفاوضات المباشرة فصرح في مقابلة مع التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ 18/2/2010 إلى استعداده التنازل عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني مقابل دولة في أراضي 1967، هذا الخطاب المزدوج كان أحد الإرهاصات التي تبرهن اليوم على أن وثائق الجزيرة ليست إلا حقائق دامغة تتطلب وقفة جادة من قبل كافة القوى الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
منذ العام 1948 لم يمر الوضع الفلسطيني بانحدار وانحطاط أخلاقي كما هو اليوم، ولم يسجل التاريخ الفلسطيني أعظم من الانهيار السياسي الذي تعيشه السلطة الفلسطينية في هذه المرحلة، لقد عاش الشعب الفلسطيني منذ بداية عملية التسوية واعتراف منظمة التحرير بحق "إسرائيل" في أرض اللاجئين عام 1948 ظرفاً نفسياً لم يعتد عليه من قبل اتسم بالقلق على حقوقه، والخوف من القادم في ظل وجود نهج سياسي غير سوي يخوض مفاوضات بدون أوراق أو تكافؤ، بل كان التخوف من حالة إجهاض مع كل محطة انتعاش للمقاومة والفكر الشعبي الفلسطيني المتمسك بثوابته.
ولكن مع كل ما تقدم يبقى سؤال مهم، وهو هل بمقدور فريق التسوية تحقيق ما عرضه على الإسرائيليين؟ مع صعود لافت للمقاومة في المنطقة، ومع تلاشي عصر تفرد حزب السلطة بالقرار نسبياً، وهل سيكون هناك قدرة على المتابعة في هذا الاتفاق ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين لا تزال تسمي شوارعها ودكاكينها بأسماء القرى الفلسطينية في أراضي الـ48.
لا شك أن التخوف قائم من نيّة المفاوض الفلسطيني واستعداده المطلق لبيع الأرض وأهلها، لكن لا يزال الرهان على إرادة الشعب الفلسطيني في إسقاط هذه الخيارات قائماً أيضاً، وما تهرّب السلطة ومحاولتها التبرير أمام هذه الفضائح إلا دليل، أما نحن اللاجئين فلن يكون بمقدورنا أن نسمي ما حصل بأقل من "خيانة".
المصدر: الجزيرة