أوقفوا انتحار شبابنا

أوقفوا انتحار شبابنا!!

نوال السباعي *

[email protected]

عندما سمعت نبأ إقدام الشاب التونسي "محمد البوعزيزي" على الانتحار حرقاً ، أصبت بزلزلة ، كان أول مافكرت فيه إلى أين وصلنا؟ وماذا فعل حكامنا بنا ؟! وماذا فعلنا نحن بأنفسنا؟!، وماذا فعلنا بشبابنا؟ ، لقد هزني الحدث إلى درجة استغراب كل من حولي ، حتى ظن البعض أن علاقة ما تربطني بالبوعزيزي!!، بالفعل.. تربطني به علاقة ، علاقة لاتنفصل ، من الشعور بالقهر والعجز والإهانة ، كما الألم والإبداع والدهشة!، ثلاثة مشاعر مدمرة ، وثلاثة تبني ، فماذا فعل البوعزيزي بنفسه وبالأمة ؟ ومن حيث يدري أو لايدري؟!.. تلقى صفعة الإهانة تلك على صفحة روحه ، فلم يستطع ازدرادها ، وتلقت تونس احتراق البوعزيزي كما يتلقى المرء ألف صفعة على وجهه ، فيقف في وجه الطاغية غير آبه بالصفعات ، فهو يعرف أنها الصفعة الأخيرة ،وأن وقت القصاص قد حان ! .

الذي لم نكن نعرفه في تلك الأيام قبيل الرابع عشر من كانون الثاني مطلع العام 2011 ، أمران ، الأول : أن قدرة شعوبنا وشبابنا بشكل خاص على احتمال الإهانة وصلت حداً لايطاق ، والثاني أن الشعب التونسي أثبت أنه شعب حيّ يتمتع بالمروءة ومقتضاياتها من الانتصار للضعيف والانتفاض من أجل الكرامة ، إلى الدرجة التي جعلته يثور -بكل ماتعنيه كلمة "ثورة شعبية" في كل قواميس العلوم السياسية -، تجاوباً مع صرخات الألم التي رددها البوعزيزي في تلك الحادثة التي ستكون علامة فارقة في تاريخ الأمة والمنطقة.. حادثة لايمكن أن يتكرر ارتداد فعلها الزلزالي على الشعوب ، ولو تكرر حرق الشباب أنفسهم ، في محاولات مستميتة لتقليد الفعل ورد الفعل الذي حدث في تونس ، لأن انتحار البوعزيزي الذي لم يكن الأول ولم يكن الأخير من نوعه لافي تونس ولافي غيرها من الدول العربية ، ، كان الانتحار الذي جاء في اللحظة المناسبة للانفجار!. الفرق بين حادثة انتحار البوعزيزي ، ومن تبعه من الشباب الذين حاولوا تقليده ، هو الفرق وبالضبط بين ذلك اللاعب الذي يسجل فارق الجزء من الثانية ،مع الذي يليه في مسابقات الجري العالمية!، هذا الجزء من الثانية هو الذي يمنحه لقب البطولة ، ويسجل العلامة الفارقة في تاريخ الأمم والشعوب.

نخطيء ..وكثيرا جدا إذا نحن حرفنا الحدث عن مساره الصحيح ، ونخطيء أكثر إذا سمحنا بتفسيرات لاتمت للحدث بصلة ، ونخطيء ثالثة إذا روّجنا لمقولات عاطفية بعيدا عن العقل والمنطق والعقيدة . وهذا هو ماتقوم به بعض وسائل إعلامنا ، التي كانت قد لعبت دورا هائلا في إيصال صوت وصورة الثورة الشعبية التونسية إلى العالم ، وقامت بدور لاينبغي المرور عليه مرور الكرام ، بل ينبغي أن يكون محط درس واستقصاء وبحث لأهميته القصوى ، وينبغي على وسائل الإعلام هذه أن تكون لها رؤية منطقية مستقبلية ، وأن تقف عند الحدث كما هي ..وسائل إعلام وتثقيف وتوعية وتوجيه ، فلا تلعب دورا ليس من حقها أن تلعبه ، ولاتحسن أن تلعبه ، خاصة إذا كانت هي نفسها تمارس نوعا من الاستبداد الخفي الذي أصبح معروفا لدى الجميع.

ما تتناقله وسائل الإعلام العربية عن موضوع انتحار " محمد البوعزيزي" ، بهدف محاولات تأجيج الثورة في أنحاء المنطقة العربية ، يسير في منحى شديد الخطورة ، لأنه بدأ يأخذ شكل التحريض على قيام الشباب اليائس في أنحاء بلدان المنطقة بحرق أنفسهم ، ولقد ذهلت وأنا أتابع مقابلة أجرتها إحدى القنوات مع والدة وأخوات البوعزيزي ، كان المراسل يتحدث إلى المرأة ، وكأنها كانت على علم مسبق بنية ابنها في تأجيج نيران ثورة تونس الشعبية ، وكأنها أم بطل من أبطال فلسطين الذي يبذلون الدم والحياة في سبيل تحرير بلدهم ، كفاحاً ونضالاً وقتالاً!!، وكان يطرح على تلك الأم الممتحنة ، أسئلة تليق بأن تُطرح على مُنَظري الثورات الكبرى في العالم ، ثم تفاجئنا نفس القناة بخبر تحت عنوان " أم البوعزيزي :أنا فخورة بصنيع ابني" !! ، المفروض أن تكون هذه الأم الصابرة المحتسبة  فخورة بابنها مشفقة عليه وعلى فراقه وعل مصيره ، وليس أن تكون فخورة بقيامه بإحراق نفسه ، فخرها يجب أن ينطلق من أمومتها ، ومن وعيها برفض ابنها للظلم ، وليس من الفعل بحد ذاته ، لأن فعل الانتحار بنفسه ليس مدعاة للفخر ولا للتقليد، إنه الفرق بين لفظ إعلامي وآخر ،إنه الفرق بين عنوان إعلامي وآخر ، إنه الفرق بين تقديم الخبر توجيها وتربية وتوعية ، وبين التلاعب بعواطف الشعوب والذي يمكن أن يصبح جريمة في عصر صارت فيه الشعوب - خاصة التي لاتقرأ- رهناً بما يقدمه لها الإعلام من حقائق وقناعات وتصورات !. هناك فرق كبير بين الانتحار العسكري الكفاحي القتالي ، وبين الانتحار قهرا واعتراضا واحتجاجاً!، هناك فرق كبير بين الاستشهادي الذي ينتفض ضد العدوان والغزو بقرار عقلاني وتصميم وسبق إصرار ، وبين الانتحاري الذي يقدم على عمل من هذا النوع تحت ضغوط نفسية وعاطفية ساحقة ، بعدما سدت في وجهه طرق الحياة !.

بالضبط وكما شوه الإعلام العربي صورة أم "الشهيد" محمد الدرة في حينه ، يقوم اليوم بنفس الدور فيم يتعلق بأم "الشهيد" محمد البوعزيزي ، الأول "شهيد" الظلم ، والثاني "شهيد" القهر ، وكلاهما فجر ثورة وانتفاضة ، وكلاهما ضحية ، وكلاهما له أم احترق كبدها بفقد فلذة كبدها ، فلاتحرقوا صور هذه الأمهات من خلال تحميلهن مالايمكن حمله ولااحتماله.

كان البوعزيزي ضحية ، ضحية الظلم والقهر ، وتصرف بذكاء إبداعي في مواجهة انكساره ويأسه وشعوره بالعجز عن رد الظلم ، لم يكن البوعزيزي بطلاً ، الشعب التونسي هو الذي كان البطل ، الشعب كله كباره وصغاره ، نساؤه ورجاله ، ومن كل الاتجاهات السياسية والفكرية ، هذا الشعب هو البطل الحقيقي لهذه الحكاية المؤلمة التي انتهت نهاية مذهلة بالنسبة لنا جميعا ، نحن أبناء هذه المنطقة التي تمتد حدودها من القهر إلى القهر.

لقد قامت أخت "محمد البوعزيزي" بتصحيح كثير من ملابسات القضية ، عندما أكدت أن أخاها لم يشعل النار في نفسه عوزا ولافقرا ولاطلبا للمال أو الصوت ، ولكنه أشعل النار في نفسه اعتراضا عندما عجز عن إيصال صوت قهره إلى المسؤولين ، ولم نسمع حتى الساعة من يطالب بمحاكمة تلك الشرطية التي صفعت البوعزيزي ، كما لم نر بعد أي مسؤول أو مواطن  يطالب بالبحث عن رجل الأمن ذاك ، الذي تكرر كل القنوات الفضائية صوره ويومياً ، وهو يعتدي بضربة شبه قاضية على أحد المتظاهرين ، ضربه من وراء ركبته فأوقعه أرضا ، ثم قام بتوجيه ضربة إلى مكان قلبه بالضبط ، بينما انهال على الشاب المطروح أرضاً بقية الرفاق "الأشاوس" من رجال "نزع الأمن"  بهراواتهم ليُتموا العملية الوطنية التي كانوا يقومون بها !، إنني أطالب كل مسؤول أمني جديد في تونس بالبحث عن هؤلاء القتلة ، وتقديمهم إلى المحكمة ، وإن وجودهم في أجهزة أمن الطاغية لايبرر لهم المبالغة في الطغيان على هذه الشاكلة الإجرامية ، وإن ماقاله وزير الداخلية التونسي الجديد في خطابه بعيد تسلمه مهام حقيبته ، لايعدو تردادا لإرادة الطاغية في توظيف زبانيته لقهر الشعب وثورته المجيدة ، لم يستح الوزير الجديد وهو يلتمس العذر لهؤلاء القتلة عندما قال : " إنهم ينفذون الأوامر"!.

لاينبغي لأمة أن تفتخر بانتحار شبابها ، ولقد بلغ عدد المنتحرين في مصر وحدها هذا العام – كما جاء في تقرير لمركز المعلومات برئاسة الوزراء ، نشرته قناة العربية-  104000 مواطن ! ، وهذا شيء مخيف جدا ، لم يكن الرأي العام في المنطقة العربية ليطلع عليه لولا أحداث تونس ،  وماكان لحدث انتحار الشاب التونسي البوعزيزي أن يفعل فينا كل هذا الذي فعله ، لولا أن الجميع كانوا علي يقين من أن المنطقة كلها كانت تنتحر فعليا ، تنتحر تشظيا ، وتنتحر انفصالا ، وتنتحر سقوطا ، تنتحر بفعل حكام أعمتهم شهوة التمسك بالكراسي عن كل ماعدا ذلك ، فتركوا شعوبهم تتخبط غرقا في لجة الطغيان الاعمى ، وتنتحر بفعل شعوب لم تعرف كيف تقف في وجه الطغاة لأنها هي نفسها تمارس الطغيان بصورة فردية ، كل كما يشتهي وعندما يستطيع.

نخطيء وكثيرا إن نحن أسهمنا اليوم في تشجيع ثقافة الموت هذه ، ونخطيء مرتين إن نحن لم نفهم ملابسات الحدث بكل تفاصيل الصورة ، ونخطيء ثالثة إن كنا عاجزين عن تشجيع ثقافة الحياة ، ووقف الدفع بثقافة الموت إلى الواجهة.

إن ماقام به البوعزيزي في لحظة قهر استثنائية ، لايجب أن يتكرر ، وإنما خرج شعب كامل عن بكرة أبيه ثائرا كي لايتكرر ماوقع للبوعزيزي ، ويجب على إعلامنا أن يفهم هذه المعادلة الخطيرة والدقيقة ، لأن تهييج عواطف الشباب في الاتجاه الخطأ قد يؤدي بنا إلى المهالك من حيث لانحتسب.

رحم الله البوعزيزي الذي كان أباعِزَّة حقيقية أبت الإهانة ، وبوركت ثورة الشعب التونسي النظيفة الحرة الأبية ، التي فهمت أن انتحار البوعزيزي كان رفضا للمهانة ، فاطلقت شعارها المتألق ذاك : "أيها الطاغية الجبان..إن شعب تونس لا يهان " ، وتلك هي الرسالة التي فهمها الشعب التونسي عن ابنه الذي كان قد أشعل النار في نفسه ، وتلك هي الرسالة التي يجب أن نفهمها نحن جميعا عن هذا الشعب العظيم .

                

    *كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا