قضيتنا المتنحية كيف نتقدم بها 3
قضيتنا المتنحية كيف نتقدم بها؟!
(3)
دعوا الملفات تتكلم
زهير سالم*
أكدنا في مقال سابق أن القضية التي نتحدث عنها هي قضية وطنية بأبعادها العامة وليست قضية حزب أو فئة. و نؤكد هنا أن من شرط الهم العام لكي يكون عاما أن يتحوّى كل هم خاص، ويوليه ما يستحق من أهمية..
وحين نتحدث عن قضية وطنية، ومشروع إصلاح وطني عام، من الضروري أن نوضح أن مثل هذا المشروع لا يمكن أن ينطلق من موقع النقمة، أو التحيز، أو الشنآن الذي يمنع أو يدفع..
تحدثنا في مقال سابق عن (اهتمام، وقدرة) في صفات العاملين، لفتنا إلى أن من القدرة، القدرة على رؤية الذات بما لها وعليها، والقدرة على الإقرار للآخر بقوته كما بضعفه، بصوابه كما بخطئه، بنجاحه كما بإخفاقه، بجرأته كما بفشله... والقوامة بالشهادة على النفس أو للخصم بالعدل حالة من الاستواء العقلي والنفسي لابد منها لإدراك النجاح على طريق الإصلاح.
وحقيقة أن الإصلاح لا يكون بمجرد استبدال الأشخاص أو الهيئات لا يجوز أن تغيب عن أذهان المصلحين. تعج الساحة العربية والإسلامية الرسمية والشعبية بنماذج كثيرة للمفرطين، وإذا شئت للفاسدين والمفسدين، مع اختلاف العناوين والهويات. ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ).
مشروع الإصلاح في حقيقته مشروع مضامين وليس مشروع شعارات و عناوين فقط. يتلمس المواطنون السوريون الذين هم - هدف مشروع الإصلاح وأداته - مفاصل مشروع عام يعملون عليه لنصرة وطن معنّى؛ إنسانه، وأرضه وسماؤه، وماؤه وهواؤه. مهمة محامي الدفاع تحضير ملف البراءة، ليعين القاضي على اتخاذ القرار. يحتاج هذا القاضي من يشبّك خيوط المعاناة التي يعيشها بين يديه، المقام لا يحتمل ألفاظ العموم، والصياغات البلاغية يتفنن البعض في حياكتها، ويبدئون فيها ويعيدون..!! هل ينفعنا الحديث عن جريمة قتل دون قتيل؟!! كيف نتحدث عن جوع إن لم يكن الجائعون يتضاغون...؟!!
في عصر المعلومة المنظمة، والدراسة المنضبطة بقواعد البحث العلمي ومناهجه وآلياته؛ لا تزال ملفاتنا الوطنية الراعفة والمثخنة غارقة تحت ألفاظ العموم، وبريق الصيغ البلاغية التي، بغض النظر عن مصداقية أصحابها، تظل إلى الدعوى أقرب منها إلى الوثيقة أو الشهادة المدعمة بكل ما يحتاجه الباحث أو القاضي من إسناد وتوثيق..
نؤشر في وطننا على خلل كبير؛ نتحدث عن استبداد، وظلم ، وتمييز، واستئثار بالثروة والفرصة، وفساد إداري وآخر مالي، نشكو من تماهي سلطات الدولة في سلطة حزب أو جهاز، نندد بحالة الطوارئ وتجاوز القانون ؛ دعاوى وادعاءات كثيرة يغيب عنا أنها محتاجة إلى توثيق..بحاجة إلى ملف الدعوى ، يعد على قاعدة العدل، وتجاوز الشنآن، ويدعم بالدليل والبرهان، ويصاغ بلغة المواطن الصالح الداعي إلى الخير والحريص عليه..
لا شك أن غيابَ الشفافية، وضيقَ مساحة الحرية ، وضعفَ الإمكانات الذاتية عوائقُ حقيقية تجعل التقدم على هذا الطريق صعبا، ولكن مشروع إصلاح عام لا يمتلك مداخله الوطنية إلى مواطن الخلل العام لن يكون أكثر من ظاهرة صوتية تبرق خلّبا وترعد صخبا..
الملف السياسي، كالملف الثقافي، كالملف الاقتصادي، والزراعي كالصناعي، وملفات الوزير، كرجل عام، كملف عضو مجلس الشعب، وقوائم البعثات التعليمية من الطلاب، مثل كوادر العاملين في الوزارات والسفارات والهيئات، وأسس الاختيار وطرائقه وآلياته مدخلاته ومخرجاته، وملفات الصفقات والمناقصات والمزايدات والإدارات و النقابات، كلها مشروعات عمل تشخص الداء وتحاصره وترسم الطريق إلى الخلاص..
الوصول إلى الحقائق ورصفها ناطقة معبرة عن ذاتها هو مطلب أساس لفرض الأجندة على المستويات كافة والتقدم بها كمطلب ناجز على طريق الإصلاح..
هو مطلب ذاتي يدرك القائمون على مشروع الإصلاح من خلاله مواطن الخلل، وحجم العبء، ويبدؤون من خلالها الإعداد لتصورات الإصلاح ومداخله ومدخلاته..
وهو مطلب لصاحب القرار القائم على أمر السلطة، يضع الصورة الصارخة أمام عينيه، ويعين البقية من إرادة الخير في نفس الإنسان، وتفرض عليه المبادرة إلى تدارك الخلل قناعة أو حرجا وعلى الحالين سيكون قد تحقق المقصود..
وهو مطلب للرأي العام الوطني الذي يعول عليه في مشروع التغيير، ليدرك يوما بعد يوم، وملفا بعد ملف الأسباب المختفية وراء أزماته المتعانقة. وحقيقة السياسات التي تفقره وتجيعه، وتستبد بفرصته وتهدد هويته وتدخل الضيم على سيادة وطنه ومكانته..
وهو مطلب للرأي العام العربي ولإسلامي والإنساني. مطلب لإحراج المتواطئ أو تنبيه المغرور، أو التوضيح للمخدوع. وحين تتحدث الحقائق والأرقام والوقائع من موقع العدل والنَّصَف وإرادة الإصلاح وليس من موقع الشنآن سنختصر على أنفسنا الكثير من الجهد غير المجدي..
ونتمنى لمدرسة ( أوسعتهم سبا وأودوا بالإبل ) أن تغلق أبوابها. ونأمل أن تجد همم الشباب وآلياتهم الفرصة للعمل الجاد. لنجرب الصمت ولندع الملفات تتحدث، فهي أقدر وأبلغ..
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية