الوقاحة السياسية بعد نصف الثورة المصرية

د. ماهر الجعبري-الخليل-فلسطين

[email protected]

ضمن سياق التغطية الإخبارية لتبرئة الرئيس المصري المخلوع، ذكرت العربية نت (30/11/2014) "عندما قضت محكمة جنايات القاهرة برئاسة المستشار محمود كامل الرشيدي، والمسماة إعلاميا باسم محكمة القرن، بعدم جواز نظر الدعوى الجنائية تجاه الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في قضية قتل المتظاهرين، ارتسمت علامات الدهشة على وجه الجميع، وتساءلوا: على أي اتهامات كان يحاكم مبارك؟ ثم اتسعت علامات الدهشة أكثر بعد قرار القاضي بسقوط الاتهامات الأخرى".

***

إن التساؤل الاشد وقعا وألما هو: لماذا ثار أهل مصر إن لم يكن ثمة من جرم لأركان النظام المصري يحاكمون عليه بعد الثورة؟ ولعل النتيجة الطبيعة لهذه المحاكمة أن يحاكم الثوار على قيامهم بالثورة، لأنها أدّت إلى إسقاط حاكم "بريء"!

إن هذه السخرية السياسية جديرة بأن تفتح الباب لتحليل فكري لواقع "نصف الثورة المصرية"، خصوصا أن وسائل الإعلام قد انشغلت بالتحليل القانوني والتعليق السياسي عن التشخيص الفكري لمآلات الثورة.

لقد أخفقت القيادات الميدانية والحركية في مصر في تحديد معادلة التغيير بأنها فكرة ظاهرة تستند إلى قوة ناصرة، وهي حقيقة تاريخية تشهد لها نماذج بناء الدول عبر التاريخ، حيث ظل إقامة الدول على أنقاض سابقاتها مستندا إلى تأمين قوة غالبة تحتضن نشأتها، وتحميها من الارتداد عليها داخليا، أو من القضاء عليها عبر العدوان والغزو والاحتلال.

وبالتالي فشلت تلك القيادات في تطبيق تلك المعادلة السياسية (والتاريخية) ميدانيا، فغابت عن الثورة المحددات الأساسية التي تفضي إلى تغيير جذري يخلع النظام (بأبعاده المعنوية والمادية) من جذوره، وهي محددات تتمثل في:

(1) تفجر كفاح سياسي لا يتوقف حتى يتم إسقاط كل رموز النظام وأجهزته وتطهير مؤسسات الدولة من حرّاسه والمنتفعين منه. وهو نضال يقوم على أساس المفاصلة، لا المهادنة والقبول بأنصاف الحلول.

(2) وضوح فكري يؤثر في المجتمع فيتمخض عنه وعي عام حول طبيعة النظام الذي يجب أن يطبق بعد الثورة، وهو نظام لا يمكن أن يقبل بالأسس الفكرية التي نشأ عليها النظام الساقط، ولا أن يشارك رموزه في صياغته أو بلورته.

(3) انحياز عسكري من قبل الضباط المخلصين في الجيش، والذين يضمنون بتأييدهم للثورة وللتغيير الجذري تطهير العسكر من كل الجنرالات والضبّاط العملاء للغرب ومن حراس النظام السابق، وذلك عبر عملية عسكرية مُحكمة (يمكن أن تكون دموية).

ولذلك فإن ما حصل في مصر هو نصف ثورة قبلت بتبديل الطرابيش مع الحفاظ على الرؤوس وما تحمل من خَبَث فكري وخُبث سياسي، وزاغت أبصار القائمين عليها بطلاء الجدران بألوان الدهان، فتغافلت عن الشيطان، الذي بقي خلفها يسرح ويمرح.

إن مقتل الثورة كان في استدبار الحقيقة القرآنية:

﴿ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ

فكانت لحظة مهادنة سياسية وفكرية سمحت لجذور النظام بالتغلغل من جديد، وحصلت فيها القوة المتربصة بالثورة على فرصة ذهبية لإعادة النمو وإطلاق فروع جديدة، وتجديد أشواك الاستبداد بل خوازيقه.

وهذا الوقفة الفكرية جديرة بأن تلفت نظر الغاضبين مما آلت إليه الثورة إلى ما يجب أن يكون عليه مسار الثورة المتجددة، لتحمل شعار: الشعب يريد إسقاط النظام واستعادة السلطان، وتطبيق القرآن.