حذار من القوة
ناديا مظفر سلطان
الحياة هي القوة والقوة هي الحياة .
هكذا جاء في كتاب (هذا هو الإنسان) ،حيث يبشّر مؤلفه فيلسوف القوة (نيتشه) بالإنسان الجديد (السوبرمان) الذي يتجاوز بقدراته الإنسان العادي ويفوقه من حيث القوة والقسوة وتتحد فيه إرادة الحياة مع إرادة القوة بحيث يصيران شيئا واحدا.
إن القوة هي الفضيلة الأساسية في نظر الفيلسوف الملحد (فريدريك نيتشه).
والحقيقة أن القرآن أيضا قد ذكر الإنسان (السوبرمان) أو الرجل ذو القدرات و المعطيات الأكثر من عادية.
والأنبياء كما جاء ذكرهم في كتاب الله العزيز هم أناس معززون بقدرات أكثر من تلك التي يملكها سواهم من البشر.
وقصص الأنبياء التي حدثنا عنها القرآن ما كانت حديثا مفترى غايته التسلية بل هي عبرة وفائدة.
والقرآن الكريم يذكر بعضا من الأنبياء وقدراتهم( السوبر) واصطفاءاتهم المتميزة ومعجزاتهم الخارقة .... حتى تأتي المفاجأة.
أن الامتحان والابتلاء من الله هو في مصدر القوة ذاتها التي أمد الله بها عباده حتى ولو كانوا من الأنبياء والرسل المصطفين الأخيار وما هم في النهاية إلا بشر ممن خلق.
وفي الامتحان يكرم المرء أو يهان .
وهكذا فمنهم من فاز، ومنهم من فشل.
ولكن الفشل في النهاية ليس حسرة ونهاية بل هو بداية تبزغ مع كل استغفار وتوبة واعتراف بالخطأ.
والنبي آدم أبو البشر منحه الله (هو وزوجه ) ميزات عظيمة منذ بداية خلقه فالملائكة أمرت بالسجود له تكريما لعلمه ومعرفته ،والجنة موطنه حيث العيش الرغيد، فهو لا يتعرض فيها لذل الجوع والظمأ ،ولا لذل العري والتعب .
و إبليس تسلل من موطن ضعف هذا المخلوق الجديد آدم.
فسأله: هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى؟أليس من المؤسف أن تفقد هذا النعيم؟؟؟
وآدم كان لديه ملكا ولكن أشفق أن يزول عنه ملكه أو أن يغادر هو ما فيه من ملك
فاقترب من الشجرة المحرمة وفشل في الامتحان، وكانت عقوبة الله على فشله (عريا)!!
وعقوبة العري وكشف السوأة لآدم وزوجه، هي الطريق للإنجاب والنسل وهو نوع من أنواع الخلود الذي سعى إليه آدم وأسقطه في الامتحان، وسوف تسعى إليه ذريته من بعد وتتعرض له امتحانا، ما يفتؤ يتكرر منذ خلق الأب آدم وحتى قيام الساعة.
"واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة "28-8
"وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى"121-20
وهكذا تبقى عبارات التوبة والاستغفار طريقا للإصلاح في رحلة الحياة و ما فيها من نصب.
وداوود كانت مهنته القضاء والحكم بين العباد وابتلاءه جاء في مصدر قوته وصلب مهنته، عندما أرسل له ربه ملكين على صورة مختصمين ، لكنه قد تسرع في إطلاق الحكم فأخذ بحجة أحدهما وأغفل الآخر... ولكنه سرعان ما أدرك خطأه ف خر راكعا طالبا العفو والمغفرة من الله.
والنبي سليمان كان ملكا عظيما قد وهبه ربه من عناصر المجد وأساليب القوة ما لم يؤت أحد من قبله ولا من بعده .فالريح مسخرة له والنحاس يخرج من الأرض ينابيع سائلة، والجن تبني له القصور الشامخة ،وتنحت التماثيل الرائعة، وترص قصاع الطعام الهائلة ... و لا يمكن أن يخطر على بال بشر أمام هذه القوة العظيمة أن تكون نهاية( النبي الملك) بصمت وبساطة متناهية لم يعرف بها كل من حوله
حتى سخر الله حشرة صغيرة أخذت تقضم عصاه فسقط على الأرض فعلمت الجن أن النبي قد مات منذ زمن دون أن يعلموا.
والمفارقة رهيبة وساخرة من رب العزة، بين الجن التي يستعين بها بعض البشر ويظنون أنهم يعلمون الغيب وأنهم يملكون( القوة الخارقة) لتنفيذ مآربهم، وبين الموت الصامت للنبي الملك- ذو المجد والقوة -الذي كشفته تلك الحشرة الضئيلة .
ويوسف الشاب الذي أذهل نسوة المدينة بجمال طلعته وبهاء محياه حتى هتفن بنفس واحد (ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم)، قد جاءه الابتلاء من موطن تميزه
ف حسنه كان سبب عذابه وشقائه.
فراودته امرأة العزيز -التي شغفها حبا- عن نفسه ، فأبى واستعصم ونجا من الغواية ، ولكن انتهى به المقام إلى السجن وظلمته وصقيعه عوضا عن النوم الهانئ في أحضان الحسناوات من علية القوم آنذاك، "كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء".
وإبراهيم الأواه الحليم انتظر طويلا حتى بلغ من العمر عتيا ثم منّ الله عليه بولد من صلبه ،ولكن ما إن أصبح هذا الولد غلاما يافعا ،حتى أتاه الأمر الإلهي أن يذبح فلذة كبده وقرة عينه ....فامتثل صاغرا دون تلكؤ، ولكن رحمة الله تدركه في اللحظة الأخيرة وتنقذ ابنه وتفديه بكبش عظيم .
لقد فاز في الابتلاء فوزا عظيما
ومحمد بن عبد الله النبي الأمي قد أعلن اصطفاءه"إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل ، واصطفى قريشا من كنانة ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم "
ورسالته السماوية كانت خطرا محدقا بكبرياء قريش، زعزع سطوتها وهدد نفوذها ودمر كبرياءها، وهكذا ليس من الغريب محاولات قومه المستميتة لإغرائه بالمال تارة وبتسلم زمام الزعامة بينهم تارة أخرى حتى يترك ما يدعو إليه
وفي سورة الإسراء " وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذا لاتخذوك خليلا * ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا"
والآية تنفي عن الرسول صلى الله عليه وسلم الوقوع في فتنة قومه بعد أن كاد.
و هي عصمة الله لرسوله ، لأن الانحراف الطفيف في أول الطريق لابد أن ينتهي إلى الضياع الكامل لطريق الحق في آخره، وإلى عنصرية تامة.
لقد فاز محمد كذلك.
وعيسى كان خلقه معجزة (إنه كلمة من الله فحسب)....
وقدراته الخارقة التي اصطفاه الله سبحانه بها تكاد تقارب الصفات الإلهية والله سبحانه، هو الخالق ، وهو المحيي وهو الشافي وهو الذي يعلم الغيب .
والمسيح عليه السلام كانت لديه أيضا هذه القدرات الهائلة فكان يحيي الموتى ويشفي الأبرص والأكمه ويخبر الناس ما يدخرون في بيوتهم.... وكل ذلك بإذن الله .والحقيقة أن امتحانه كان صعبا ، استجوابا مباشرا من رب العالمين
"وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟؟؟؟
وإجابة عيسى عليه السلام"ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم"
كانت أيضا نجاحا عظيما جزاؤه الجنة عندما أبلغه ربه:
"قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا"
وفي المفهوم الإسلامي أن الشرك بالله من الكبائر التي لا تغتفر "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء"
وكما عصم الله عيسى عليه السلام من الشرك كذلك عصم محمدا صلى الله عليه وسلم من العنصرية، ويوسف عليه السلام من فاحشة (الزنا)، وإبراهيم عليه السلام من فتنة الولد( المنفعة )
وفي الفلسفة الغربية القائمة على الفكر الأبيقوري، والميكافيللي ،والنيتشوي، أن الأخلاق مبنية على أسس أربعة هي: المنفعة، واللذة الجنسية عند(فرويد)،والعنصرية ،والقوة .
واليوم تنادي أمريكا ب(القوة الذكية)، عبارة كررتها وزيرة الخارجية (هيلاري كلينتون) أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ،وهي فلسفة جديدة في العهد الجديد من الحكم مع سياسة بارك أوباما.
والحقيقة أن( القوة الذكية) هي دراسة عكف عليها باحثون من الحزبين الجمهوري والديمقراطي وتصدر الدراسة وزير الخارجية السابق ريتشارد ارميتاج وأستاذ جامعة هارفرد الديمقراطي جوزيف ناي.
وقد جاء تعريف الدراسة للقوة الذكية (هي لا صلبة ولا ناعمة بل مزيج من الاثنين)
والقوة الصلبة تكمن في القوة الحربية لأمريكا إذ أن موازنة وزارة الدفاع للعام2008 تجاوزت 650 مليار دولار أي ما يوازي مجموع وزارات الدفاع لدول العالم بأكملها، وكذلك القوة الاقتصادية ف ثلث أكبر 500 شركة في الكون هي شركات أمريكية .
أما القوة الناعمة فهي الدبلوماسية والمساعدات الاقتصادية والإنسانية التي تقدمها أمريكا للعالم مثل إنفاق أموالا طائلة على إعادة إعمار أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية وكذلك إغلاق معتقل غوانتانامو ،واستئناف دور أمريكا التقليدي كراع للسلام في الشرق الأوسط.
وأمريكا اليوم تنتهج في سياستها الجديدة(القوة الذكية).... والإسلام منذ أربعة عشر قرنا وجّه إلى (القوة الأمينة).
وفي القرآن (خير من استأجرت القوي الأمين) فالقوة في المنظور الإسلامي طاقة صمامها الأمانة واحترام الإنسان بغض النظر عن عرقه ولونه ومذهبه.
وتذكر كتب السيرة النبوية كيف مر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل شاب قوي، يسرع في طريقه، فقال أصحاب رسول الله :لو كان هذا في سبيل الله - يقصدون الفتى وشبابه وسرعته- فأخبرهم الرسول بالميزان الصحيح للقوة حيث قال : إن كان قد خرج يسعى على أبوين كبيرين،فهو في سبيل الله، وإن كان قد خرج يسعى على نفسه ليعفها عن المسألة فهو في سبيل الله، وأن كان قد خرج بطرا ورياءا فهو في سبيل الشيطان.
فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، ولكن هي قوة مع الأمانة.
هذه هي الفضيلة في التوجيه الإسلامي وليس كما ادعاها يوما نيتشه في مؤلفاته
أن القوة المطلقة هي الفضيلة و التي كانت النواة الأساسية لعقائد النازية في التفوق العرقي والتي تبناها هتلر وجرت العالم إلى كوارث الحرب
وفلسفة القوة المطلقة هي التي دفعت أمريكا فيما مضى لإلقاء القنبلة النووية في اليابان وكذلك لقتل ثلاثة ملايين فييتنامي . وإبادة الهنود الحمر واحتلال أراضيهم .
وفلسفة القوة المطلقة هي التي دفعت فرنسا لإبادات جماعية في الجزائر.
ولابد في الختام من الإشارة إلى أن فيلسوف القوة(فريدريك نيتشه)الذي حض على قتل الضعفاء حتى لا يصبحوا عالة تعيق مسيرة الأقوياء، أمضى الإحدى عشر سنة الأخيرة من حياته ،عليلا يعاني من آلام حادة في الرأس والمعدة والعينين ،حتى أصبح مشلولا و شبه أعمى ،وعالة على أخته.
أيها القارئ كن قويا ولكن أمينا وأنت تنظر إلى نفسك لترى ما أنعم الله عليك من مظاهر نعمة وعناصر قوة ،و لتراها بعين التواضع وليس الكبر، واتق الله في مواطن القوة التي أمدك الله بها... اتق الله في نفسك ،وفي حقوق العباد ممن حولك من الأنام فقد تأتيك الفتنة فيها.
ولاتكن كصاحب الجنتين في سورة الكهف عندما دخلها مباهيا وأعلن بفخر ما أظن أن تبيد هذه أبدا فإذ به بعد حين يقلب كفيه حسرة على ما أنفق فيها.
هي قصص للاعتبار والتذكر" فهل من مدّكر"15-54
وقديما قالوا:
ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار!!!