مذبحة الجامع الأموي للتاريخ
يحيى البشيري
يقال إن مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا في نهضتها الشامخة زار سورية عام 1956 م فأعجب بها و قال لمن حوله : متى نرى ماليزيا تصل إلى ما وصل إليه هذا البلد ؟!!
أما الأديب السعودي عبد الله بن خميس الذي زار سورية عام 1955 م فقد أدهشه ما كانت عليه سورية آنذاك في عهد الدستور و الحرية و سيادة القانون و تكافؤ الفرص و احترام المواطنة !
فقال في مقدمة كتابه ( شهر في سورية ) يخاطب شباب الجزيرة العربية : ( إلى شباب يجدون في أعمال الأمم الحية ما يلهب شعورهم ، و يحفز هممهم ، و يذكي فيهم روح التضحية و العمل ، و يلهمهم أن هذ الأمجاد من صنع بشر مثلهم آمنوا بأن الحياة كفاح و تضحية و عمل ، فراحوا يصارعون الأهوال ، و يتخطون المصاعب حتى خلقوا العجائب ، و قهروا الأحداث .
إلى شباب الجزيرة العربية أهدي هذا الكتاب ، ليشاهدوا فيه ما صنعته أيدي إخوان لهم في اللغة و الدين و الجوار و الآمال
، و الآلام ...
عسى أن يكون لهم في هؤلاء أسوة ، و أن يكونوا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) .
و قد ضم الكتاب فصولا عديدة ، رأينا أن نقف عند فصل ( الجامع الأموي) فقد تحدث الكاتب عن بناء الوليد بن عبد الملك له ، و أطنب في وصف جماله ، و أنه أعجوبة من عجائب الدنيا !! هذا المسجد الذي لم يتجرأ المحتلون على أن يمسوه بأذى ، حتى جاء نظام البعث بعد سيطرة عساكره على الحكم ، فلقي منهم الأذى بعلمائه و مصليه و بنائه ... و من المناسب هنا أن نعرج على ما كتبه الدكتور عبد الرحمن بن حسن حبنكة الميداني في كتابه ( الوالد الداعية المربي ) عن المجزرة التي أقامها صبيان النظام و عساكره للمسجد و المصلين في عام 1965 م يقول الشيخ ( و كانت السلطة قد انتدبت كتيبة عسكرية مدججة بالأسلحة النارية ، سريعة الطلقات بقيادة سليم حاطوم ، و معه أسلحة مدرعة ، لتطويق جامع بني أمية الكبير ، بغية الإيهام أن الموجودين في الجامع قد اجتمعوا للقيام بفتنة مسلحة في البلاد ، ثم الانقضاض عليهم بالأسلحة النارية حصدا ، دون تمييز بين مشارك في المظاهرة و مصل ٍ، و شيخ
عجوز عاكف في المسجد يتلو كتاب الله ... و في الساعة التي ظن فيها مدبرو المكيدة أن النصاب المقصود تجميعه في الفخ ، قد اكتمل هجم الجنود بأسلحتهم ، و تقدمت دبابة فكسرت باب المسجد ، و دخله الجنود بغارة وحشية يقتلون المسلمين فيه تقتيلا حاقدا برصاص الأسلحة النارية سريعة الطلقات و كانت مذبحة رهيبة حقا ، داخل رابع مسجد عظيم من مساجد العالم الإسلامي ، قتل فيها خلق كثير ، و فيهم شيوخ عجزة من ملازمي الجامع الأموي للصلاة و تلاوة القرآن. و هذه المذبحة الشنيعة لم يحدث نظيرها في كل عهود الاستعمار الغربي .
و إن يكن حدث نظيرها في هجمات المغول على الديار الإسلامية ، و هجمات القرامطة صنائع اليهود على البيت الحرام و حجاج المسلمين ، فكم من راكع في صلاته و ساجد سقط صريعا برصاص هؤلاء الجنود الذين دخلوا كالوحوش الضواري الجياع على زريبة أغنام ؟!!!
و استاق جنود الكتيبة الطاغية من بقي حيا إلى السيارات العسكرية الشاحنة تحت ضربات البنادق و التعذيب الوحشي الشنيع القذر الدنيء إلى سجن المزة من ملحقات دمشق الحالية .
و تم في الوقت نفسه تشكيل محكمة عسكرية تحكم بسرعة و تنفذ أحكامها دون مراجعة ولا استئناف ، فحكمت بالقتل على فريق ممن استاقتهم إلى السجن ، و أصدرت أحكام سجن على آخرين .
و قد تبين فيما بعد أن السلطة نفسها هي التي أوحت بهذا الاجتماع و دبرته ، و اشتركت بعض أجهزتها السرية بالدعوة إليه ، ليكون بمثابة فخ تحصد فيه قادة المعارضة لها من علماء المسلمين ، بتهمة قيامهم بثورة مسلحة ، و أنهم سقطوا ضمن المقاومة ، فلا مسؤولية على الدولة في مقتلهم ؟!
و تحققت فراسة الوالد الإمام عليه رحمة الله و رضوانه ( أي : الشيخ حسن حبنكة ) فقد كان الأمر كما قدر ؟!
و يضيف الشيخ عبد الرحمن : كانت الاتصالات الهاتفية من الجامع الأموي تتوالى تستحثه للحضور هو و من عنده من العلماء ، و كان المستحث رجلا متعمما محسوبا على طلاب العلم ، و هو في الحقيقة من مخابرات الدولة .
و أنجى الله قادة الدعوة يومئذ من المكيدة الدنيئة بعنايته و حفظه
)) و لكنهم ظلوا يتعرضون للمضايقات و الاستدعاء إلى المحاكمات المتعنتة الوقحة ، و انقلب جو المحاكمة إلى محاكمة للنظام وأزلامه على تصرفاته ، و كان مما قاله الشيخ حسن حبنكة لهم : كم بريء قتلتم ظلما؟! و كم إنسان حكمتم عليه بالإعدام بغير حق ؟!!!
و أما الشاعر العربي انتماء ، و السوري مولدا الأستاذ بدوي الجبل فيصف هؤلاء المتسلقين على الحكم ، و المتسلطين على رقاب الشعب ، و ليس لهم أهلية سوى الإجرام و سفك الدماء ، و معاداة الله و رسوله و المؤمنين فيصف اشتراكيتهم و سلوكهم في الحكم :
اشتراكية تعاليمها الإثرا ء و الظلم و الخنا و الفجور
و ينتقل إلى ما فعلوه في المساجد و المصلين في وقت مبكر
عام 1965 م ، و ما قاموا به من أعمال ، سبقوا بها غيرهم من الجزارين و الطغاة :
هتكوا حرمة المسا جد لا جنكيز باراهم و لا تيمور
قحموها على المصلين بالنا ر فشلو يعلو و شلو يغور
أمعنوا في مصاحف الله تمزيـ قا ويبدو على الوجوه السرور
فقئت أعين المصلين تعذيـ با و ديست مناكب و صدور
و كان القتل عن عمد لا خطأ و لا دفاعا عن النفس ، بل تنفيذ لمخطط إجرامي حاقد موتور ؟! أين منه سفاحو التتار و مجرمو الحروب الصليبية :
المصلون في حمى الله يرديـ هم مدل بجند مغرور
وأما الجامع فهو جامع بني أمية الكبير الذي عقدت فيه رايات الفتح ، و دوت في جنابته دعوات الجهاد ! و كأن هؤلاء جاؤوا للثأر منه بعد هذا التاريخ الحافل المجيد ، و قد عجز عن ذلك التتار و الإفرنج ، فأتى هؤلاء و لهم ألسنة العرب و قلوب الفرنجة :
جامع شاده على النور فحل أموي معرق منصور
لم ترع فيه قبل حكم الطوا غيت طيور و لا استبيحت وكور
و صدق قول الله تعالى فيهم و في أمثالهم (( و من أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ، و سعى في خرابها ،أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين ، لهم في الدنيا خزي ، و لهم في الآخرة عذاب عظيم))
1- كتاب الوالد الداعية المربي " الشيخ حسن حبنكة الميداني " ص 234 و ما بعد.
2- قصيدة من وحي الهزيمة للشاعر (بدوي الجبل )/ رابطة أدباء الشام .
3 - سورة البقرة الأية 114 .
-4 للتعرف على مكانة هذا الجامع يراجع كتاب الشيخ علي الطنطاوي ( الجامع الأموي)