لماذا الرجوع إلى المستقبل
سلمان عبد الأعلى
لا يتطلب اكتشاف الخطأ الموجود في العنوان لمجهود كبير أو لمهارة لغوية فائقة، لأن من لديه أدنى معرفة باللغة يدرك هذا الخطأ الفادح، إذ كيف يصح الرجوع إلى المستقبل؟! فلقد تعودنا أن يكون الرجوع للخلف لا للأمام، ولهذا تكون العبارة صحيحة فيما لو قلنا: لماذا الرجوع إلى الماضي؟ بدلاً من لماذا الرجوع إلى المستقبل؟ غير أن هذا الخطأ هو خطأ مقصود ومتعمد لغاية في نفسي، ولهذا نرجو التماس العذر من أرباب اللغة ومناصروها، وإن كان خطئونا هذا عن سبق إصرار وترصد!
في الحقيقة، إنني أود أن أشير في تساؤلي هذا إلى أولئك الذين لا يزالوا يعيشون بعقلية القرون الماضية، إذ يعيشون في الماضي بتفاصيله الدقيقة وبمشاكله الكثيرة وكأنهم يعاصرونه الآن، لأن كل أحاسيسهم ومشاعرهم وآمالهم مرتبطةً به وموجه نحوه، فهم يولونه النصيب الأكبر من اهتماماتهم وتفكيرهم، ولذلك لم يستطيعوا التكيف مع هذا العصر، لأنه يتطلب منهم العمل والتفكير بطريقة أخرى.
ولهذا نراهم يرون الخلاص لجميع المشاكل التي يعايشونها هم أو يعايشها غيرهم في الرجوع للماضي، فهم يهربون من واقعهم الحالي خوفاً منه ويلجئون للماضي ليسلوا به أنفسهم.. وإذا كانوا عاجزون عن العبور للزمن الحاضر، فكيف يرجى منهم يا ترى أن يتطلعوا لآمال المستقبل؟ !
للأسف بأن أولئك ليسوا قليلاً في مجتمعاتنا، وإن حاول البعض أن يلمع صورهم ويخفي بعض ملامحهم، غير أن اكتشافهم ليس مستعصياً، لأنهم منا وغير بعيدين عنا، وربما نشاركهم في بعض تصرفاتهم من حيث ندري ولا ندري !
فالكثير منا لا يزال يعيش في الماضي في فكره وسلوكه وأحاسيسه، فلا هم له (ولا يحلو له) إلا أن يتكلم عن أحداثه وكأنها لم تنتهي بعد، ولهذا نجده يتصرف وكأنه يخطط لمواصلة أمجاد الماضين وكأنه قادراً على الإضافة إليها، فهو لا يمل من تكرار التغني بأمجادهم بمناسبة وبغير مناسبة، مهملاً وربما مقللاً لما يحقق الآن من إنجازات عالمية جبارة.
ويا ليت الأمر يقتصر فقط على هذا النحو، فالبعض يهمل الواقع وهمومه لا لكي يتسلى بأمجاد الماضي، بل لكي يعيش همومه ومآسيه أيضاً، فهو يهرب من هم ويلتجئ إلى هم آخر، يهرب من هم يستطيع أن يغير من واقعه، ويلتجئ إلى هم لا يستطيع أن يغير منه شيئاً، وخير مثال على ذلك، هو ما يقع الآن في الساحة الإسلامية بين أصحاب المذاهب المختلفة، من مجادلات وتبادل اتهامات حول قضايا تاريخية حدثت وانتهت في العهود السالفة.
فبدلاً من مناقشة الأوضاع والمشاكل الحالية للأمة الإسلامية، يتجادل في قضايا وأمور نحن في غنى عنها، وبدلاً من مناقشة أمور تفيدنا وتسهم في تغير واقعنا للأفضل، نناقش في أمور تضرنا وتفرقنا أكثر، وكل ذلك تحت ذريعة الدفاع عن العقيدة أو الدين أو ما شابه.
وحتى وإن فكر البعض من هؤلاء قليلاً في الحاضر وهمومه ومآسيه، وأرادوا أن يقدموا لنا حلولاً ومعالجات لمشاكلنا الحالية، رأيناهم يحصرون الحل في الرجوع للماضي، إذ يرجعون للماضي ليأخذوا الحل جاهزاً من هناك، فليست هناك مشكلة مستعصية على وجه الكرة الأرضية تحتاج لتفكير عميق -في نظرهم طبعاً- فما علينا إلى الرجوع إلى عصرنا الذهبي كما يعبرون عادةً وأخذ كل شيء منه!
البعض هكذا يتكلم أو هكذا يفكر، ناسياً أن الكثير من الحلول التي يقدمونها لا يمكن تنفيذها في الوقت الراهن على أرض الواقع، لأن الدهر أكل عليها وشرب، ومن ثم نام كما نامت عقول من يفكر بهذه الطريقة !
فهل اتضح الآن مقصونا من الذين يرجعون إلى المستقبل؟!
نعم، هم أولئك الذين لا يفكروا إلا في الماضي، سواءً بأمجاده وانجازاته أو بهمومه وآلامه، بحيث يمنعهم هذا من التقدم في حياتهم لتحقيق الإنجازات أو لحل المشكلات، وهؤلاء لا يمكن أن يحصروا في فئة معينة أو في مستوى معين، فمن الممكن أن يكون من يفكر بهذه الطريقة شخص وقد يكون مجتمع أو جماعة، وهؤلاء يرجعون إلى المستقبل، لأن مستقبلهم سيكون خلفهم وليس أمامهم.
هناك مقولة جميلة منسوبة لـدينس جابور يقول فيها: ((إن أفضل طريقة للتنبؤ بالمستقبل هي أن تخترعه)).
وهذا يطرح علينا إشكالاً كبيراً حول مستقبلنا كأفراد وكمجتمع، فكيف سيكون حال مستقبلنا يا ترى ونحن لم نوله العناية الكافية ولم نخطط له بشكل فعلي؟! فمستقبلنا إذا لم نفكر إلا بالماضي أو في الماضي سيكون خلفنا (في الاتجاه المعاكس) بدلاً من أن يكون أمامنا، لأننا مجتمعات يحكمها ويديرها من في القبور، وكيف لهؤلاء أن يفكروا في أمور لم يعاصروها ؟ !
ولهذا نقول: بأن مستقبلنا أمامنا لكي نخطط له وليس خلفنا لكي نعود إليه !