انسينا العزة أم أنا نحيا في زمن النسيان
انسينا العزة أم أنا نحيا في زمن النسيان ؟؟
الشيخ خالد مهنا *
أكثرنا ولا شك قدر له أن يزور دولة عربية كما قدر له أن يزور دولة أجنبية،لكن من منا لم ينبهر مما رأى في هاتين الحضارتين ولم توا كبه الذكريات التي رآها..
وأنا شخصياً تجولت في مرابع شتى من دول العالم، وأذكر أنني قبل أكثر من 15 عاماً زرت إحدى الدول العربية الأسطورية، وقال لي أحدهم حين عدت مكتئباً وحزيناً مما رأيت ودونت أنك رغم المقال الذي كتبت – حمل يوم ذاك عنوان.
"..عدت من أرض.... أحمل حقائب من المتاعب والهموم" – ستعود إليها مرات ومرات لأنك شربت من مائها ومن يشرب من ماء.... فحتماً سيظل في شوق لها.. ومع ذلك ورغم شوقي أن يكون الله غير أحوالها وأوضاع أهلها وتعاملهم لم أعد إليها زائراً إلا للمشاركة في مؤتمرات، وأصدقكم القول أنني رغم حلاوة تاريخها لم يصيبني الحنين إليها ذرة واحدة، ولقد وجدت فيها سحر الحضارة وبدائع التاريخ وافتقدت فيها للشيء الأهم.. أخلاقية التحضر والممارسة، وكثيرة هي ويلات مشرقنا الذي كان قد انتمى للإسلام والعروبة يوما فحقق بالأخلاقيات الرفيعة سُمواً إلى القمة والذؤابة ومكنته أن يكون متحضراً..ومنحته سيادة الأرض ولكن هذه الأمة بكمها البشري الهائل لن يكون بمقدورها استعادة دورها الريادي ما لم تسترجع أخلاقياتها الضائعة التي منحت لها..
في عام 1997 قمت بزيارة خاطفة لإحدى عواصم الدول العربية المجاورة، وبصفتي أشد المغرمين بمعرفة المستجد في عالم الكتب دخلت إحدى المكتبات التجارية ولو كنت أملك ذاك اليوم بنك عمان فلا محالة سأعلن إفلاسي وإفلاسه..
وبعد قضائي أكثر من نصف يوم بحثاً عن كل نافع في هذا العالم الرائع أخرجت من الرفوف أكثر من مائتي كتاب، وكلما كان يقع بصري على عنوان جديد كنت أحس أن الأرض بما رحبت لا تتسع لفرحتي، فآهٍ من تلك اللحظات لو دامت، ولو داومت لجا لدني عليها الملوك!! ويا فرحة ما تمت!!!
بدأ صاحب المكتبة وهو متجهمٍ الوجه ومقطب الجبين بتقييم سعرها الإجمالي ومدركاً في نفس الوقت أنني سائح قادم من الداخل الفلسطيني وبعد أن أخرجت له ثمنها بعملتهم طلب إليّ الانتظار في الخارج قليلاً فقبلت على مضض،فغاب فترة طويلة ثم عاد، وأنا أغلي مثل النار. فاستنكرت بشدة تصرفه !!! غير المقبول، فما كان منه إلا أن قال: أصابني الشك في أن تكون الدنانير مزيفة فخرجت إلى أحد محل المجوهرات للتأكد منها،فطالبته على الفور بإرجاع المال،وتركت له الكتب بعد أن أعطيته إكرامية!! وعبثاً !!! باءت كل محاولاته.
نحن أبناء أمة حضارية عظيمة لم نكافح أبداً من أجل بناء هذه الحضارة بل تسلمنا معطياتها كاملة من أجيال سابقة سهرت وضحت من أجل توريثها للأجيال اللاحقة كي نضيف عليها لمسات حضارية أخرى وننميها، ولكننا وللأسف لم نحسن التصرف بها فسقناها إلى الانكماش والتدهور والانحطاط وصرنا مضرب الأمثال في العقوق والتهاون..... وفي زمن نسيان وتغافل هذه القيم جاءت أمم أخرى ليس لها صلة قربى أو مصاهرة أو نسب لحضارتنا فعاشت قيمنا، وتعايشت معها حتى صارت مثلاً أعلى في أخلاقياتها الحضارية فسبقتنا مئات السنوات..
فلا عجب أن الكثير من شبابنا الذي زار وعايش سلوكيات هذه المجتمعات أن تناله الدهشة والإعجاب لما يبصر ويسمع في البيت والمدرسة والشارع والمؤسسة.. وأماكن اللهو والترفيه عن الذات..
***ولقد حكي أن شوهد ألماني يستقل زورقا بحارياً في إحدى البحيرات السويسرية، اشتهى أن يأكل برتقالة واحتفظ بالقشور دون أن يرميها في مياه البحيرة الواسعة، وعندما عاد الزورق لكي يستقر على الحافة هرع الرجل إلى أقرب سّلة للأوساخ فوضع القشور هناك.
وفي مقابل الكم الهائل من القصص والتصرفات الحضارية رأينا وسمعنا الكثير من القصص والحكايات في مدننا وعواصمنا العربية عن أصحاب سيارات فخمة فارهة يسحبون جيب الأوساخ من جرار مقودهم ويقلبونه وسط شوارع مزدحمة بالبشر ثم يمضون بسياراتهم الفارهة الأنيقة وبدلاتهم المستوردة الأكثر أناقة كأنهم لم يفعلوا شيئاً يخدش الذوق والحياء.
واتحدى كل صاحب سيارة أنيقة في عالمنا هذا – إلا ما ندر- لم يقم بهذا الفعل الشائن.
وماذا نحكي عنهم وعنا!!
****حكى أحد الدارسين في تلك الدول التي استوردت منا حضارتنا قال:
(اضطرت لإيقاف سيارتي في مكان مخصص لوقوف السيارات، أنجزت عملي وعدت بعد أكثر من ساعة لأمتطي سيارتي وأنطلق لإنجاز أعمال أخرى، فإذا بي أفاجأ بورقة ملصقة بالزجاج الأمامي، انزعجت قليلاً، وتوقعت أن أكون مارست مخالفة ما في إيقاف السيارة بهذا المكان ولكني عندما بدأت أقرأ الورقة تبين لي أنها شيء آخر تماماً.. اعتذار رقيق اللهجة.
يقول بالحرف الواحد آسف لأنني ارتكبت حقاً بحقك.
لقد كنت مسرعاً أكثر مما يجب وأنا أستدير لأوقف سيارتي إلى جوار سيارتك فتسببت في إلحاق الأذى بدعاماتها الخلفية، انتظرتك أكثر من نصف ساعة فلما لم ترجع وكنت مرتبطاً بعمل يتحتم إنجازه تركت لك هذه الرسالة، وإنني بانتظارك مساء اليوم على العنوان الذي تجده في نهاية رسالتي هذه... أتمنى أن تلبي طلبي لأتعرف عليك ولأقدم لك اعتذاري مرة أخرى،وإذا اقتضى الأمر تفرغت يوم غدٍ لإصلاح ما أفسدته بتسرعي...
محبتي وتمنياتي)..
ونحن صنعة الحضارة التي جمعت بين أهدابها الأخلاق والقيم والرفيعة ترى أين وصلت أوضاعنا؟
إننا وحدنا من سائر الشعوب والأمم كتب علينا لما وضعنا القيم الرفيعة وراء ظهورنا أن نتحمل مهمة حماية سياراتنا وركوبنا ومطايانا ودوابنا من العدوان، والذي يملك لساناً أطول ويداً أقدر على البطش وجسماً أصلب في المصارعة، ورجلاً أشد قدرة على الركل والرفس،هو الذي يخرج من معركة التصادم بين السيارات بأقل الخسائر..
***وماذا أحكي عن أخلاقيات التحضر وأين ضميرنا ونحن منها؟ قد يطول المقام!!
ولكن أتحدى لمن يسير في شوارع ألمانيا مدنها وأريافها أن يرى كلباً يسير مع صاحبه يقوم بعمل غير لائق في الشوارع العامة يضايق ويوسخ بها الحواشي والأطراف والمنتزهات، فكما يضع صاحب الكلب داخل حقيبته التي لا يخلو منها الكتاب والدفتر والقلم والمدونة ويتفقد قبل خروجه محتوياتها، فإن الحقيبة لا يمكن أن تخلو من أكياس سوداء أو أكياس فاقعة الألوان تكون تحت تصرف الكلب عند قضاء حاجته..
فماذا عنا نحن ونحن خير أمة أخرجت للناس؟
ماذا عنا نحن وقد زخرت حضارتنا بكم هائل من الدعوة لتنظيف الأفنيه، وتنظيف دواخلنا من الحقد والحسد والضغينة؟
لقد باتت شوارعنا وأفنيتنا التي ينفق على تنظيفها أكثر مما ينفق على تطورنا العلمي والصناعي والتكنولوجي مفخرة من مفاخرنا، وشوارعنا الملآى بصناديق النفاية والقاذورات تستغل اليوم كمستقر وادع لمن لا بيت له يؤويه من برد، بل وعلى بعضها توضع لافتة هذا المستقر مستأجر لفلان وآخر لعائلة علان.
****وماذا نحكي عن دقة مواعيدهم وصدقهم في المعاملات؟ مئات من الوقائع يلمسها الزائر بيديه ويراها بعينيه عبر أسابيع يقضيها هناك، فما كذب غربي يوماً في معاملة ولا أخلف موعداً..
أما نحن فقد أصبح خلف الموعد جزء من رفعتنا!!! والكذب خصلة من خصالنا!! والدقة صفة ضعف، والحلو مراً والعلقم عسلاً.. كل شيء من قيمنا الحضارية الرفيعة بات في غير محله.
إن الواحد منا لتنتظره الساعة الخامسة فلا يأتيك إلا في الساعة السابعة بعد إسبوع من الموعد المقرر ....وتبتاع ثلاثة كيلوات من الفاكهة فتضطر إلى رمي نصفها في الشارع العام، لا تجد سالماً من الحطب إلا فضائياتنا المهتمة بشؤون الرقص والرخص، وتتعامل مع الجهاز المصنع محلياً فإذا بها لا يدوم اسبوعا بسبب إهمال بسيط في تصنيع الفنيين والعمال له.. وإذا ما أخذت موعداً لدى طبيب الأسنان لمعاجلة التهاب بسيط لا يتم استقبالك لزحمة مواعيده إلا بعد إهتراء جميع أضراسك.
ماذا أحدثك وعم أحكي لك؟
***أقول وملامح المرارة تكسو وجهي إنهم هناك يضعون رزم الصحف والمجلات والكتب في الأكشاك المخصصة لها، ويجيء هذا الرجل أو تلك المرآة فيأخذ المجلة أو الصحيفة ليقرأ كل حرف فيها، وفي بلداننا التي لا تقرأ من الصحف والمجلات العلمية والبحثية والإستراتيجية إلا العناوين وقسم منا يقرؤها بالشقلوب لا يأمن أحد أن يبقى على منضدته حضنة من القطع الفقدية الصغيرة لأنه سيعود فلا يجدها،رغم أنّ سلوكاً كهذا يمثل تناقضاً صريحاً مع جوهر الإسلام،و مع واحدة من أشد قيمه وضوحاً وإلزاماً..
وإذا قُدر لك الدخول إلى إحدى المكتبات التجارية بحثاً عن كتاب أو مصدر أو مرجع فمحال أن لا يسحرك الموظف بحسن معاملته، وإن لم تجد فيها ضالتك فمحال أن لا ينطبع في ذهنك عنايتهم التي تفوق الخيال بما تبحث عنه، بل وفي غالبيتها فإن الأمر لا يكلفك سوى تقديم عنوان الكتب المنشوده، وخلال دقائق معدودة ستكون أمامك، وإن نفذ مخزونها لن تخرج من المكتبة إلا ويعطيك الموظف عنواناً آخر أكيداً تجد فيه المبتغى، أو يوصله إلى المكان الذي تنزل فيه بالساعة والدقيقة دون تأخير..
فماذا أحكي عن واقعنا المتأزم،كم واحداً منا قبل سفره إشترى العملة الأجنبية من أحد البنوك موقعة بختمه ثم بقدرة قادر يودع في سجن إحدى دول الجوار بحجة أن الدولارات التي يملكها مزيفة!! ثم لكي يخرج من ورطته يضطر أن يجمع ديوان عائلته كي تبعث مندوباً لها أن يجمع ديوان عائلته كي تبعث مندوباً لها الى البلد المقيم فيها ليدفع للضابط أو الشرطي خلو!! رجل لإسقاط التهمة عنه..
والحقيقة أننا لو عدنا إلى مفردات هذه الأخلاقيات وتطبيقاتها اليومية على أرض الواقع لوجدناها،- إلا قلة منها- لا تكاد تذكر،مما دعا إليه ديننا وحض عليه.
أن حس النظافة جزء من شيم العروبة وحس الذوق والتأنق وكراهية القذارة والجفاء وانعدام الذوق أو هبوطه، مما أكد عليه الإسلام لتحويله إلى ممارسة يومية وواقع معاش.
أنّ القرآن الكريم يدعونا مثلاً أن نأخذ زينتنا عند كل مسجد (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد).. والرسول العربي الكريم الذي هبط عليه الوحي وهو بين ظهراني العرب من بني عبد مناف وبني هاشم وعبد مناف كان لا يخرج من بيته إلا متعطراً، وكان يؤكد في أحاديثه على أن للطريقة العام حقوقاً،كما أن للإنسان حقوقاً، منها إماطة الأذى عن الطريق، بكل ما تتضمنه الكلمة من فحاوى ومعاني..
وهل "ايتيكيت" الطعام الذي لا نلقي له بالاً من غسل اليدين قبل المأكل.. والأكل مما يلي الإنسان..وشرب الحساء بالملاعق.. وعدم الشبع التام وأكل مقدار ما يوضع في الصحن وكيفية تناول الطعام من غير نهم أو إسراف ما عرفته حضارة الرجل الأبيض إلا حين قرأته في حواشي كتبنا فأخذت به جُملة واحدة.... فإذا كانت أخلاقياتهم المتحضرة مارست مفردات الأناقة والنظافة أو أيا من المفردات الحضارية الأخرى بدافع من التقليد الصحيح أو الاستمرارية أو التعود،"فإن الإسلام يمضي خطوة أبعد لكي يركزها في آفاق الإنسان ويربطها بإيمانه ومعتقده"..
وإذا كنا اليوم وقد تعودنا على فوضويتنا فلم نعد قادرين على تنزيلها في واقعنا ،أدركنا أن استيرادهم لقيمنا هو الذي رجّح كفتهم علينا فإستعضنا عنها بإستيراد مكننتهم وتقنيتهم، ونصبها في بلادنا كحلٍ لاسترداد جزء يسير مما أهدرنا...ومع ذلك فإن استيراد قيمهم الصناعية والتكنولوجية والطبية في بلادنا لن يكون حلاً إن لم يرافقه التحقق بأخلاقية التحضر ومعايشتها،بل إن لم ترافقها هذه الأخلاقيات فستكون مصدر شقوة ونقمة علينا..فإذا ما قدر لأحدكم أن يذهب إلى دولة من دول مشرقنا الحبيب ليزور مريضاً عاد إلى المستشفى بعد عناء وبعد أن خضع مرة أخرى لجراحة طبية بسبب نسيان أطباءنا إحدى المقصات داخل معدته،ثم قدر له أن يجد حضارة المكننّة الطبية في أبهى صورها داخل ذلك المستشفى فهمس: لقد رأيت الحضارة الغربية هناك في أبهى صورها ولم أر أخلاقياتهم.. فإنه ليحق لي أن أردد تلك العبارة التي قالها أحد العلماء المسلمين في أعقاب عودته من الغرب! لقد رأيت الإسلام هناك ولم أر مسلمين!!
إنه ليؤلمني ويؤلم كل حرٍ سؤال الدهر أين المسلمون؟
أين أخلاقيات العربي؟ أين خطاويهم الحضارية؟
ترى هل يرجع الماضي فإني أذوب لذلك الماضي حنيناً!!
ترى ألسنا نحن من سلالة تلك الأمة التي ملكت الدنيا قروناً وأزمانا، وسطرنا صحائف من ضياء لم ينسها الزمان وما نسيناها ..
ولكنها فرحة لم تكتمل!! إذ ما فتئ الزمان أن دار حتى مضى بالركب قوم آخرون.... مسلمون إسماً وشكلاً،ولكنهم بلا فحوى ولا مضمون.... فلا عجب أن هذه الأمة صارت اليوم في ذيل القافلة وضيعت هويتها وغرقت في بحر أحلامها متلاطم الأمواج.
* رئيس الحركة الإسلامية في ام الفحم وضواحيها..
رئيس الدائرة الإعلامية في الحركة الإسلامية القطرية-الداخل الفلسطيني.