وقفة مع الديمقراطية
د.عدنان علي رضا النحوي
دفعني إلى هذه الوقفة الصدمة التي صُدِمْتُها حين قرأت تقرير مؤسسة راند الذي يدور كله حول كيفية إِقامة إسلام حضاريّ ديمقراطي يلائم قيم الحضارة الغربية ، بالتخلّي عن نصوص القرآن الكريم وعن نصوص السنّة النبوية ، وعن أسس الإيمان والتوحيد ، أي بالتخلّي عن الإسلام الربّاني وباختراع إسلام بشريٍّ جديد . ثمّ يضع ملامح خطة عملية لتحقيق ذلك بتقسيم المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام إلى فئات متعدّدة : الأصوليون الذين يجب محاربتهم بلا هوادة ، الرجعيون الذين يمكن استغلالهم بإثارة العداء بينهم وبين الأصوليين ، التقدّميون المجددون الذين يمكن تشجيعهم ودعمهم بالإعلام والمال ، وكذلك المعتدلون والعلمانيون الذين يُدعمون بكل الوسائـل لإبراز فكرهم الجديـد ومؤلفاتهم ونشاطهم ... الخ .
لقد كانت الظاهرة البارزة في هذا التقرير هي الجرأة في محاربة الإسلام وإعلان الحرب عليه ، كل ذلك تحت شعار الديمقراطية التي يدعون إليها ، والتي خدعت الكثيرين من دعاة الإسلام وعلمائه ، حتى أصبح هؤلاء المخدوعون هم الدعاة إلى ديمقراطية الغرب المجرمة نيابة عن أجهزة الغرب أو تابعين لها .
لقد كانت وقفتي الأولى مع الديمقراطية وإجرامها في كتابي : " الشورى لا الديمقراطية " قبل أكثر من ستٍّ وعشرين سنة في طبعته الأولى ، وقبل أكثر من عشر سنين في طبعته الخامسة . ولكن مدى صوتي شيء ومدى صوت مؤسسة راند وأعوانها شيء آخر .
لقد انتشرت دعاوى الغرب في العالم الإسلامي انتشاراً كبيراً بسبب الجهود الضخمة ، والجهود المنظّمة والتخطيط الشيطاني الذي يبذله الغرب في معركته التي أصبحت مكشوفة ضد الإسلام ، والمسلمون ممزّقون غافلون !
وكانت كلمتي الثانية أو وقفتي الثانية في كتابي : إسلام ربّاني لا إسلام ديمقراطي ، لتكون ردّاً مباشراً على تقرير مؤسسة راند .
ولا تزال كلمات برنادرشو عن الديمقراطية تمثل رأيَ من رأى الديمقراطية في الواقع ورأى ما فيها من خلل واضطراب وإفساد . وهذه هي كلماته :
" الديمقراطية هي السماح لكل المسافرين بقيادة القطار لتكون النتيجة المحتومة الاصطدام والكارثة " ([1])
لقد بذلتْ أمريكا جهوداً ضخمة من أجل الدعوة إلى " الديمقراطية " ، جهوداً سياسيّة وإعلامية ومؤسساتية وعسكرية . ولقد حقَّقت اختراقات واضحة في صفوف المسلمين ، وكوّنت لها أتباعاً منهم يردِّدون نعيقها . ولكن مع كل هذا النشاط والنجاح النسبي الذي حققوه ، فإن الديمقراطية التي وعدوا بها لم يظهر لها وجود إلا في المجازر التي أقاموها ، والتدمير المروّع ، والإبادة الجماعية ، كل ذلك في العالم الإسلامي . فإن كانت هذه هي الديمقراطية التي يدعون لها فليطبّقوها في ديارهم أولاً لنرى الأشلاء والتدمير والإبادة هناك عندهم .
إن كل وسائل الغرب في العالم الإسلامي تحاول إخفاء حقيقة المعركة التي يريدونها ويديرونها في أرض الإسلام . إن النية معقودة لديهم على تدمير العالم الإسلامي ، مهما طال الزمن بهم ، ذلك لأنهم وجدوا أن الإسلام الذي جاء به محمد r لا يمكن أن يسمح لهم بنهب الثروات وإفشاء الظلم في الأرض ، فلم يَبْق أمامهم بعد تاريخ طويل وتجارب طويلة إلا أن يزيحوا هذا الإسلام من أمامهم ، ليمضوا في نهب ثروات الشعوب وسحقها والسيطرة عليها هنا وهناك .
مهما اختلفت قوى الغرب فيما بينها ، فإنها متحدة صفّاً واحداً في حربهم ضد الإسلام . ولا أدل على ذلك من أن مخططاتهم مجتمعة أدت إلى إسقاط الخلافة الإِسلامية ، بعد أن أوهنوا العالم الإسلامي بالفتن والفساد ، والتمزيق ، ونشر الخمور ، والمخدرات ، ونشر الفاحشة ، حتى أوهنوا القوى واخترقوا الصفوف ، وأوجدوا لهم أتباعاً يدينون بدينهم من المسلمين .
وهـؤلاء الأَتْباع الذين سقطوا في شرك الديمقراطية وما تبعها من فتن وفساد ، قـد بُحّتْ أَصواتهم بالصراخ بالديمقراطية والدعوة إليها نيابة عن أسيادهم ، وكَثُرتْ أقلامهم ومقالاتهم بالدفاع عنها والدعوة إليها ، تاركين الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإسلام لتكون خطـوة جانبية للدعاية فحسب ، ولكسب الدنيا . إلى هؤلاء وهؤلاء أوجه هذا السؤال : أبعد طول المدّة بالدعوة إلى الديمقراطية بكل وسائلهم وتبعيتهم ، ودعم أمريكا لهم كما جاء في تقرير مؤسسة راند ، وكما جاء في كتاب نيكسون : " الفرصة الأخيرة " ، بعد هذا كله ماذا حقّقوا للمسلمين من خير أو نصر أو تقدم : هل حرّروا وأعادوا فلسطين ، هل نصروا أفغانستان ومنعوا تدميرها ، هل بنوا للأمة قوة وأعدوا نهجاً وعدة تعز الأمة وتحمي حياضها ، هل منعوا تدمير العراق وتقسيمه شيعاً وأحزاباً متناحرة ، هل نصروا الصومال ، هل ... هل ... ؟! مازالت المآسي والفواجع تتزايد وتتوالى !
أساس الديمقراطية ومحورها عزل الدنيا عن الآخرة ، والانصراف كلية إلى الدنيا ، كأن الـدار الآخرة هي مسؤولية الفرد وحده ليست مسؤولية الأمة كلها ، والإنسانية كلها . وأساس الإسلام هو الدار الآخرة وإيثارها على الدنيا ، لتكون هذه القضية هي القضية الرئيسة في حياة البشرية ، ولتكون قضية الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو هي الحقيقة الكبرى في الكون كله والحياة كلها ، وفي حياة الإنسان والبشرية كلها ، وهي مسؤولية الأمة كلها لتصوغ نظامها ومواقفها من الإسلام !
إنه فرق كبير واسع بين الإسلام والديمقراطية ، فرق يجب أن لا يخفى على من يتلو كتاب الله ويدرس سنة محمد r ، ولا يجوز أن يغيب عن بال العلماء المسلمين والدعاة المسلمين !
إن الخسارة التي يُبتلى بها المسلمون بالدعوة إلى خدعة الديمقراطية هي خسارة الدنيا والآخرة . خسارة الدنيا لأَن هذه الدعوة لم تحقّقْ أيّ عزّة أو كرامة أو تقدم أو نصر للمسلمين ، وخسارة الآخرة لأنها تنبذ الدار الآخرة التي هي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة .
نادوا بالديمقراطية لإنقاذ فلسطين وجعلوا لها عُرْساً ، فضاعت فلسطين وضاعت كل جهود لإنقاذها ، وأصبحت الجهود شعارات تدوّي لا نهج فيها ولا خطة ، إلا الانقسامات والصراع على الدنيا ! ضاعت الأعراس وحلّت المآسي والأحزان ، نادوا بالديمقراطية لإصلاح العراق ، فدُمرت العراق وقُسّمت وتمزّقت شيعاً وأحزاباً ، وفتناً وصراعاً ! وقِسْ على ذلك سائر بقاع المسلمين كالصومال والسودان وغيرهما !
ومع كلّ هذه المآسي الممتدة ، والمصائب المتتالية ، والأخطار المتلاحقة فلا زالت " الديمقراطية " موضوع حديث قطاع واسع من الإعلام ، من الصحف والمجلات والندوات . وعلى الرغم من وضوح الفرق الواسع بين الديمقراطية بجميع معانيها والإسلام ، فمازالت هنالك من يحاول أن يزيد الخدعة ويموّه الحقائق بربط الديمقراطية بالشورى ، علماً أن الفرق بينهما أوسع من أن يُخفى كما بيّنّا في كتابنا : " الشورى لا الديمقراطية "
ولكني أخشى أن يكون أهم عامل في تبعيّة بعض المسلمين للديمقراطية وللغرب بعامة ، هو عامل نفسيّ أكثر منه عامل علميٌّ وبحث وتدقيق . إنه الشعور العميق في النفوس بالتبعية للغرب ، وبالإحباط الشديد من واقع المسلمين الذي يزداد سوءاً ، حتى ظنّ بعضهم في وهمه أن الديمقراطية قد تُصلح واقع المسلمين ، فإذا هي تزيد المآسي والفتن والهوان والإذلال الساحق .
ولم يكن شعار الديمقراطية هو الشعار الوحيد الذي اخترق واقع المسلمين ، ولكن كان معه شعارات أُخرى كثيرة طغت في الساحة الإسلامية حتى تضاعف خطر كل واحد من هذه الشعارات : فشعار الاشتراكية ، والشيوعية ، والمادية التاريخية ، والمادية الجدلية ، والقومية ، والعروبة ، والبعث العربي ، والوطنية والمواطنة ، والإقليمية ، والعائلية ، والحزبيّة بشعاراتها المختلفة ، والحداثة ، والبنيوية ، والتفكيكية ، والأسلوبية ، كلها تموج مع أنواع الفتن من خمور ومخدرات وزنا وفاحشة ، كل ذلك يتسلَّل في واقع المسلمين شيئاً فشَيْئاً حتى يطغى ويعم في بلاء واسع . وشعار الديمقراطية يغطّي ذلك كله ، وينطلق شعار حرّية الرأي دون أيّ ضوابط ، ليوفر المسوّغ لهذا الحشد الهائل من الشعارات المتزاحمة .
أصبحت الساحة الإسلامية تموج بالآراء المتفلّتة ، والمبادئ المتصارعة في أجواء من الجهل والعصبيات الجاهلية ، وأصبحت تمس صميم المجتمع الإسلامي بانتشار الفتاوى المتفلّتة غير المنضبطة !
بحثت طويلاً عن إِيجابيات الديمقراطية ، بحثت منذ شبابي وشيخوختي فما وجدت لها إلا شعارات لا نهج لها ولا خطة ، سواء في العالم الإسلامي أم العالم الغربي نفسه .
ولكن رأيت أن لها صورتين عمليّتين : صورة في واقعنا الإسلامي تكشف عن جرائـم العدوان والتدمير والإبادة في وحشيّة فاقت وحشية الحروب السابقة كلها ، وصورة في العالم الغربي نفسه تكشف عن عملية التخدير الواسعة التي تقوم بها الديمقراطية حيث تقدّم من خلال الإدارة والتنظيم فُتَاتَ الحقوق للناس تخدرهم بها ، الأموال والثروات للأغنياء الرأسماليين الذين يعيشون بأجواء لا تسمح لهم بأن يشعروا بأنات الفقراء المسحوقين .
بحثتُ عن الديمقراطية فما وجدت شعاراتها إلا شعارات تدوي وتخدع ، شعارات العدالة والحرّية والمساواة والأمن ، حيث تظل شعارات لا رصيد لها في واقع الإنسان وفي جوهره ، إلا من حيث الزخارف والفتن ، التي تغطي حقيقة السياسة التي تسعى لها الديمقراطية الغربية ودعاتها الكبار ، السياسة التي تهدف إلى نهب الشعوب وإذلالها في تاريخ طويل جداً شهد المآسي بأقبح صورها ، ولا من حيث ما تقدّمه للناس من مذاهب ونظم!
كأنّ الناس قد نسوا التاريخ . فلنأخذ الحاضر والعهد القريب . ولنسأل أسئلة بسيطة : أين الديمقراطية التي جاء " بوش " بها إلى العراق لينشرها ؟ فما وجدناها إلا مليون قتيل عراقي ، وتفتَّت العراق قطعاً ، وأحزاباً وصراعاً هائلاً لا يتوقف . أين الديمقراطية في العراق ؟!
أين الديمقراطية في أفغانستان ؟! تدمير ومئات آلاف الضحايا ، وشراء ضمائر الناس بالدولارات ؟! أين هي أفغانستان ؟! بقايا منها تكاد تبدو ! كأنها دمّرت تدميراً كاملاً !
أين الديمقراطية في أكبر عملية سرقة يشهدها التاريخ ، سرقة فلسطين من أهلها المسلمين وإعطائها لليهود ، وطرد شعبها منها ليُشتّت في الأرض !
لو تابعنا الأسئلة لوجدنا أن الديمقراطية ودعاتها لم تخرج عن كونها فساداً وظلماً في الأرض ، وحروباً لا تكاد تقف حتى تقوم حروب أخرى أهلكت الناس !
أين الديمقراطية ؟ أفي الفساد الذي نشرته وغرسته في النفوس ، أفي شراء الضمائر بالدولارات ، وشراء الأتباع والعملاء الذين ماتت ضمائرهم ونفوسهم ، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاًَ !
إنها محنة شديدة ، وابتلاء من الله سبحانه وتعالى يُمَحِّصُ الله بها عباده حتى تقوم الحجة يوم القيامة لهم أو عليهم .
إن جميع الشعارات التي يتغنّى بها عملاء الديمقراطية من حرية وعدالة ومساواة وغيرها ، هي في الديمقراطية شعارات فحسب . وأما في الإسلام فإنها قواعد ربانية ونهج رباني ، فما بال بعض المسلمين وبعض الدعاة تخلّوا عن حقائق الإسلام وعدالته وربّانيّته ، وتحولوا إلى شعارات جوفاء للديمقراطية .
إذا كان في بعض بلاد المسلمين ظلم وعدم حرية وعدم أمن وعدم مساواة ، فإنها ظلم الإنسان لا علاقة للإسلام بذلك . ولكن المسلمين بدلاً من أن يجاهدوا لتطبيق الإسلام كله بعدالته الشاملة وحرّيته المنضبطة ، ومساواته الحقيقية ، ذهبوا إلى زيف الديمقراطية وخداعها ، الديمقراطية التي لم تفلح حتى الآن أن تحمي الحق والعدل والمساواة ، ولا أن تقيمها في الأرض ، بدلاً من صراع المصالح والأهواء الطاغي والسياسة الميكيافيلية !
فُتن الكثيرون في العالم بما تسير عليه الديمقراطية من " انتخابات " ! وأخذوا يقلّدونها شبراً بشبر وذراعاً بذراع . الانتخابات من حيث المبدأ عمل سليم إِذا خضعت لنظام حق . أما ما يطبّق في الديمقراطية فإنه يجعل الانتخابات صراعاً بين أحزاب تتنافس الدنيا ، وتقودها وتسيرها الشركات الكبرى بأموالها الواسعة لتغطي نفقات الدعاية لهذا أو ذاك مِمَّن تختاره الشركة . فلا يمكن أن يدخل ميدان الانتخابات إلا مَن توافر له هذا الدعم المخفي أو المعلن ! إنه النظام الرأسمالي الذي يجعل الأمور كلها خاضعة للرأسماليين ، وتأتي الديمقراطية لتُغطّي هذا الخضوع وتحاول إخفاءه ، ولتقدّم الخدر للشعوب ، يصفّقون ويهتفون لما يرضعونه من دعاوة الرأسمالية والديمقراطية بأساليب ماكرة نافذة . وفي عالمنا العربي والإسلامي لا تـدور انتخابات إلا يعقبها اتهامات وخلافات وصراع . وهذه العراق اليوم مثل واضح .
وانتشر مبدأ الانتخابات على النسق الغربي بكل آفاته وأمراضه ، ولم يحدث أن أحداً من الشعوب أو الناس أقام انتخابات على أسس غير أسس الرأسمالية والديمقراطية .
ولكننا نعتب على أنفسنا نحن المسلمين ، حيث لم نقدّم للعالم صورة جديدة مشرقة للانتخابات ، صورة نابعة من منهاج الله ، من الكتاب والسنة ، تدفعها القلوب المؤمنة المليئة بالعلم من منهاج الله ، تدفعها المواهب القوية ، لتبيّن للعالم أن منهاج الله صالح لكل زمان ومكان ، وأنه يظل يقدّم للناس الحلول والنظم والمشاريع المتجددة مع الأحداث وتطورها ! ومن المضحك المبكي انتشار قول أحد المفتونين بالغرب : " إننا تجد في الغرب إسلاماً ولكن لا نجد مسلمين .. " ! غفر الله لهم ! أين هو الإسلام الذي يجدونه في الغرب ؟! أفي الظلم الذي ينشرونه في الأرض ، أم في الفاحشة ، أم في الخمور ، أم في انحلال الأسرة وتفكك روابطها :
( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) [ محمد :22]
إن واقع المسلمين اليوم يكشف عن صورة مؤلمة حيث جَفّت المواهب ، وماتت القدرات ، حتى أصبح بعض المسلمين تبعاً يقلّد كلّ ناعق ! وأصبح معنى التجديد والتطور هو مفارقة الإسلام ، وعدم تطبيق شرع الله ، وأصبح هذا شعاراً يدوّي بين المسلمين حين عجزوا عن أن يقدّموا الصورة الربانيّة للتجديد والنمو والتطور . وأنى لهم أن يفعلوا هذا وقد ماتت القدرات والمواهب في صراعات حزبيّة تتنافس الدنيا ، وتكاد تنسى الآخرة .
إن الإسلام لا يقف عند حدود الأركان الخمسة : الشهادتان والشعائر من صلاة وصيام وحج وزكاة . فالأركان الخمسة هي الأساس المتين الذي تقوم عليه التكاليف الربانيّة ، ليصبح الإسلام بناءً متيناً يؤخذ كله معاً ، ولا يؤخذ بعضه ويترك بعضه . ففي حديث رسول الله r يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنه :
" بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان "
[ أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه ] ([2])
فالحديث الشريف يبيّن لنا في نصّه : " بُني الإسلام ... " ! فالإسلام بناء متين يتألف من أساس يقوم عليه باقي البناء . ولقد اكتفى كثير من المسلمين اليوم بالأساس أو ببعضه ، بالشعائر كلها أو بعضها ، ولا علاقة لهم بعد ذلك بسائر التكاليف الربانيَّة التي سيحاسَبون عليها بين يدي الله يوم القيامة ، ولقد بيّنا رأينا بمعنى التجديد في الإسلام في كتابنا :
" التجديد في الفكر الإسلامي مفهومه وضوابطه وغايته "
وذلك من خلال الكتاب والسنّة ، وقدمنا نماذج من التجديد في الفكر الإسلامي : في الدعوة الإسلامية ونهجها وأسسها ووسائلها وأهدافها ، وفي الأدب الملتزم بالإسلام ، في التربية والبناء ، والسياسة ، والواقع و.. ، وغير ذلك ، من خلال ما أسميناه : " نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن " ، الذي يقوم كله على أربعة مصادر : أسس الإيمان والتوحيد ، المنهاج الرباني ، مدرسة النبوة الخاتمة ، وعي الواقع من خلال منهاج الله .
ومن أهم التكاليف الربانية التي تقوم على الأركان الخمسة هي تبليغ رسالة الله كما أنزلت على محمد r إلى الناس كافّة تبليغاً منهجياً ، وتعهدهم عليها تعهداً منهجياً حتى تكون كلمة الله هي العليا . وهذه من أهم المفارقات بين الإسلام الرباني وبين الديمقراطية والعلمانية وغيرهما .
تبليغ الدعوة كما أنزلت على محمد r تكليف رباني بالآيات والأحاديث :
( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [ الأحزاب :39]
( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )
[ فصلت :33]
هذا هو أمر الله الذي يتأكد بالآيات والأحاديث حتى لا يغفل عنها مسلم فيحاسَب على ذلك يوم القيامة . هذا هو أمر الله : " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ... " وليس ممن دعا إلى العلمانية والديمقراطية والحداثة وأمثالها . وكذلك : " .. وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ " تأكيد وإصرار على الموقف الحق .
شتان بين ما تدعو إليه الديمقراطية وما يدعو إليه الإسلام ، فعجباً لأمر بعض الدعاة كأنهم لا يقرأون هذه الآيات ولا يسمعونها ولا يتدبرونها .
ومن الأسس التي يجب أن نشير إليها هنا لبيان المفارقة الكبيرة بين الإسلام والديمقراطية ، ما نوجزه هنا بنقاط :
1. القضية الأولى والرئيسة في الإسلام هي صدق الإيمان بالله الواحد الأحد وصفاء التوحيد .
2. إن للمسلم ، والمسلمين بعامة ، مسؤولية خطيرة ورئيسة ورسالة في الحياة جعلها الله عهداً وميثاقاً وأمانة وخلافة وعبادة ، وهي تبليغ رسالة الله كما أنزلت على محمد r للناس كافة وتعهدهم عليها .
3. أن يرتبط المسلمون جميعاً برباط أخوة الإيمان التي أمر الله بها ليكونوا كلهم أمة مسلمة واحدة ، تعبد رباً واحداً ، ولها دين واحد هو الإسلام .
4. الإسلام يفرض أن يؤثر المسلم الدار الآخرة على الدنيا ، ولا يشغله عن ذلك شاغل ، ليوفي بالعهد والأمانة والعبادة والخلافة حتى تكون كلمة الله هي العليا .
مفارقة واضحة ، نُذَكِّر بها أنفسنا وإخواننا والمؤمنين جميعاً ، فإن الحساب يوم القيامة شديد !
(1) كتاب : الشورى لا الديمقراطية ـ للكاتب ـ (ص:9) ، عن جريدة الشرق الأوسط العدد 4413 ، تاريخ 11/6/1411هـ الموافق 28/12/1990م .
(1) صحيح الجامع الصغير وزيادته : (2840) .