وقفة مع الديمقراطية

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

دفعني إلى هذه الوقفة الصدمة التي صُدِمْتُها حين قرأت تقرير مؤسسة راند الذي يدور كله حول كيفية إِقامة إسلام حضاريّ ديمقراطي يلائم قيم الحضارة الغربية ، بالتخلّي عن نصوص  القرآن الكريم وعن نصوص السنّة النبوية ، وعن أسس الإيمان والتوحيد ، أي بالتخلّي عن الإسلام الربّاني وباختراع إسلام بشريٍّ جديد . ثمّ يضع ملامح خطة عملية لتحقيق ذلك بتقسيم المسلمين أو المنتسبين إلى الإسلام إلى فئات متعدّدة : الأصوليون الذين يجب محاربتهم بلا هوادة ، الرجعيون الذين يمكن استغلالهم بإثارة العداء بينهم وبين الأصوليين ، التقدّميون المجددون الذين يمكن تشجيعهم ودعمهم بالإعلام والمال ، وكذلك المعتدلون والعلمانيون الذين يُدعمون بكل الوسائـل لإبراز فكرهم الجديـد ومؤلفاتهم ونشاطهم ... الخ .

لقد كانت الظاهرة البارزة في هذا التقرير هي الجرأة في محاربة الإسلام وإعلان الحرب عليه ، كل ذلك تحت شعار الديمقراطية التي يدعون إليها ، والتي خدعت الكثيرين من دعاة الإسلام وعلمائه ، حتى أصبح هؤلاء المخدوعون هم الدعاة إلى ديمقراطية الغرب المجرمة نيابة عن أجهزة الغرب أو تابعين لها .

لقد كانت وقفتي الأولى مع الديمقراطية وإجرامها في كتابي : " الشورى لا الديمقراطية " قبل أكثر من ستٍّ وعشرين سنة في طبعته الأولى ، وقبل أكثر من عشر سنين في طبعته الخامسة . ولكن مدى صوتي شيء ومدى صوت مؤسسة راند وأعوانها شيء آخر .

لقد انتشرت دعاوى الغرب في العالم الإسلامي انتشاراً كبيراً بسبب الجهود الضخمة ، والجهود المنظّمة والتخطيط الشيطاني الذي يبذله الغرب في معركته التي أصبحت مكشوفة ضد الإسلام ، والمسلمون ممزّقون غافلون !

وكانت كلمتي الثانية أو وقفتي الثانية في كتابي : إسلام ربّاني لا إسلام ديمقراطي ، لتكون ردّاً مباشراً على تقرير مؤسسة راند .

ولا تزال كلمات برنادرشو عن الديمقراطية تمثل رأيَ من رأى الديمقراطية في الواقع ورأى ما فيها من خلل واضطراب وإفساد . وهذه هي كلماته :

" الديمقراطية هي السماح لكل المسافرين بقيادة القطار لتكون النتيجة المحتومة الاصطدام والكارثة " ([1])

لقد بذلتْ أمريكا جهوداً ضخمة من أجل الدعوة إلى " الديمقراطية " ، جهوداً سياسيّة وإعلامية ومؤسساتية وعسكرية . ولقد حقَّقت اختراقات واضحة في صفوف المسلمين ، وكوّنت لها أتباعاً منهم يردِّدون نعيقها . ولكن مع كل هذا النشاط والنجاح النسبي الذي حققوه ، فإن الديمقراطية التي وعدوا بها لم يظهر لها وجود إلا في المجازر التي أقاموها ، والتدمير المروّع ، والإبادة الجماعية ، كل ذلك في العالم الإسلامي . فإن كانت هذه هي الديمقراطية التي يدعون لها فليطبّقوها في ديارهم أولاً لنرى الأشلاء والتدمير والإبادة هناك عندهم .

إن كل وسائل الغرب في العالم الإسلامي تحاول إخفاء حقيقة المعركة التي يريدونها ويديرونها في أرض الإسلام . إن النية معقودة لديهم على تدمير العالم الإسلامي ، مهما طال الزمن بهم ، ذلك لأنهم وجدوا أن الإسلام الذي جاء به محمد r لا يمكن أن يسمح لهم بنهب الثروات وإفشاء الظلم في الأرض ، فلم يَبْق أمامهم بعد تاريخ طويل وتجارب طويلة إلا أن يزيحوا هذا الإسلام من أمامهم ، ليمضوا في نهب ثروات الشعوب وسحقها والسيطرة عليها هنا وهناك .

مهما اختلفت قوى الغرب فيما بينها ، فإنها متحدة صفّاً واحداً في حربهم ضد الإسلام . ولا أدل على ذلك من أن مخططاتهم مجتمعة أدت إلى إسقاط الخلافة الإِسلامية ، بعد أن أوهنوا العالم الإسلامي بالفتن والفساد ، والتمزيق ، ونشر الخمور ، والمخدرات ، ونشر الفاحشة ، حتى أوهنوا القوى واخترقوا الصفوف ، وأوجدوا لهم أتباعاً يدينون بدينهم من المسلمين .

وهـؤلاء الأَتْباع الذين سقطوا في شرك الديمقراطية وما تبعها من فتن وفساد ، قـد بُحّتْ أَصواتهم بالصراخ بالديمقراطية والدعوة إليها نيابة عن أسيادهم ، وكَثُرتْ أقلامهم ومقالاتهم بالدفاع عنها والدعوة إليها ، تاركين الدعوة إلى الله ورسوله ، إلى الإسلام لتكون خطـوة جانبية للدعاية فحسب ، ولكسب الدنيا . إلى هؤلاء وهؤلاء أوجه هذا السؤال : أبعد طول المدّة بالدعوة إلى الديمقراطية بكل وسائلهم وتبعيتهم ، ودعم أمريكا لهم كما جاء في تقرير مؤسسة راند ، وكما جاء في كتاب نيكسون : " الفرصة الأخيرة " ، بعد هذا كله ماذا حقّقوا للمسلمين من خير أو نصر أو تقدم : هل حرّروا وأعادوا فلسطين ، هل نصروا أفغانستان ومنعوا تدميرها ، هل بنوا للأمة قوة وأعدوا نهجاً وعدة تعز الأمة وتحمي حياضها ، هل منعوا تدمير العراق وتقسيمه شيعاً وأحزاباً متناحرة ، هل نصروا الصومال ، هل ... هل ... ؟! مازالت المآسي والفواجع تتزايد وتتوالى !

أساس الديمقراطية ومحورها عزل الدنيا عن الآخرة ، والانصراف كلية إلى الدنيا ، كأن الـدار الآخرة هي مسؤولية الفرد وحده ليست مسؤولية الأمة كلها ، والإنسانية كلها . وأساس الإسلام هو الدار الآخرة وإيثارها على الدنيا ، لتكون هذه القضية هي القضية الرئيسة في حياة البشرية ، ولتكون قضية الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو هي الحقيقة الكبرى في الكون كله والحياة كلها ، وفي حياة الإنسان والبشرية كلها ، وهي مسؤولية الأمة كلها لتصوغ نظامها ومواقفها من الإسلام !

إنه فرق كبير واسع بين الإسلام والديمقراطية ، فرق يجب أن لا يخفى على من يتلو كتاب الله ويدرس سنة محمد r ، ولا يجوز أن يغيب عن بال العلماء المسلمين والدعاة المسلمين !

إن الخسارة التي يُبتلى بها المسلمون بالدعوة إلى خدعة الديمقراطية هي خسارة الدنيا والآخرة . خسارة الدنيا لأَن هذه الدعوة لم تحقّقْ أيّ عزّة أو كرامة أو تقدم أو نصر للمسلمين ، وخسارة الآخرة لأنها تنبذ الدار الآخرة التي هي الحقيقة الكبرى في الكون والحياة .

نادوا بالديمقراطية لإنقاذ فلسطين وجعلوا لها عُرْساً ، فضاعت فلسطين وضاعت كل جهود لإنقاذها ، وأصبحت الجهود شعارات تدوّي لا نهج فيها ولا خطة ، إلا الانقسامات والصراع على الدنيا ! ضاعت الأعراس وحلّت المآسي والأحزان ، نادوا بالديمقراطية لإصلاح العراق ، فدُمرت العراق وقُسّمت وتمزّقت شيعاً وأحزاباً ، وفتناً وصراعاً ! وقِسْ على ذلك سائر بقاع المسلمين كالصومال والسودان وغيرهما !

ومع كلّ هذه المآسي الممتدة ، والمصائب المتتالية ، والأخطار المتلاحقة فلا زالت " الديمقراطية " موضوع حديث قطاع واسع من الإعلام ، من الصحف والمجلات والندوات . وعلى الرغم من وضوح الفرق الواسع بين الديمقراطية بجميع معانيها والإسلام ، فمازالت هنالك من يحاول أن يزيد الخدعة ويموّه الحقائق بربط الديمقراطية بالشورى ، علماً أن الفرق بينهما أوسع من أن يُخفى كما بيّنّا في كتابنا : " الشورى لا الديمقراطية "

ولكني أخشى أن يكون أهم عامل في تبعيّة بعض المسلمين للديمقراطية وللغرب بعامة ، هو عامل نفسيّ أكثر منه عامل علميٌّ وبحث وتدقيق . إنه الشعور العميق في النفوس بالتبعية للغرب ، وبالإحباط الشديد من واقع المسلمين الذي يزداد سوءاً ، حتى ظنّ بعضهم في وهمه أن الديمقراطية قد تُصلح واقع المسلمين ، فإذا هي تزيد المآسي والفتن والهوان والإذلال الساحق .

ولم يكن شعار الديمقراطية هو الشعار الوحيد الذي اخترق واقع المسلمين ، ولكن كان معه شعارات أُخرى كثيرة طغت في الساحة الإسلامية حتى تضاعف خطر كل واحد من هذه الشعارات : فشعار الاشتراكية ، والشيوعية ، والمادية التاريخية ، والمادية الجدلية ، والقومية ، والعروبة ، والبعث العربي ، والوطنية والمواطنة ، والإقليمية ، والعائلية ، والحزبيّة بشعاراتها المختلفة ، والحداثة ، والبنيوية ، والتفكيكية ، والأسلوبية ، كلها تموج مع أنواع الفتن من خمور ومخدرات وزنا وفاحشة ، كل ذلك يتسلَّل في واقع المسلمين شيئاً فشَيْئاً حتى يطغى ويعم في بلاء واسع . وشعار الديمقراطية يغطّي ذلك كله ، وينطلق شعار حرّية الرأي دون أيّ ضوابط ، ليوفر المسوّغ لهذا الحشد الهائل من الشعارات المتزاحمة .

أصبحت الساحة الإسلامية تموج بالآراء المتفلّتة ، والمبادئ المتصارعة في أجواء من الجهل والعصبيات الجاهلية ، وأصبحت تمس صميم المجتمع الإسلامي بانتشار الفتاوى المتفلّتة غير المنضبطة !

بحثت طويلاً عن إِيجابيات الديمقراطية ، بحثت منذ شبابي وشيخوختي فما وجدت لها إلا شعارات لا نهج لها ولا خطة ، سواء في العالم الإسلامي أم العالم الغربي نفسه .

ولكن رأيت أن لها صورتين عمليّتين : صورة في واقعنا الإسلامي تكشف عن جرائـم العدوان والتدمير والإبادة في وحشيّة فاقت وحشية الحروب السابقة كلها ، وصورة في العالم الغربي نفسه تكشف عن عملية التخدير الواسعة التي تقوم بها الديمقراطية حيث تقدّم من خلال الإدارة والتنظيم فُتَاتَ الحقوق للناس تخدرهم بها ، الأموال والثروات للأغنياء الرأسماليين الذين يعيشون بأجواء لا تسمح لهم بأن يشعروا بأنات الفقراء المسحوقين .

بحثتُ عن الديمقراطية فما وجدت شعاراتها إلا شعارات تدوي وتخدع ، شعارات العدالة والحرّية والمساواة والأمن ، حيث تظل شعارات لا رصيد لها في واقع الإنسان وفي جوهره ، إلا من حيث الزخارف والفتن ، التي تغطي حقيقة السياسة التي تسعى لها الديمقراطية الغربية ودعاتها الكبار ، السياسة التي تهدف إلى نهب الشعوب وإذلالها في تاريخ طويل جداً شهد المآسي بأقبح صورها ، ولا من حيث ما تقدّمه للناس من مذاهب ونظم!

كأنّ الناس قد نسوا التاريخ . فلنأخذ الحاضر والعهد القريب . ولنسأل أسئلة بسيطة : أين الديمقراطية التي جاء " بوش " بها إلى العراق لينشرها ؟ فما وجدناها إلا مليون قتيل عراقي ، وتفتَّت العراق قطعاً ، وأحزاباً وصراعاً هائلاً لا يتوقف . أين الديمقراطية في العراق ؟!

أين الديمقراطية في أفغانستان ؟! تدمير ومئات آلاف الضحايا ، وشراء ضمائر الناس بالدولارات ؟! أين هي أفغانستان ؟! بقايا منها تكاد تبدو ! كأنها دمّرت تدميراً كاملاً !

أين الديمقراطية في أكبر عملية سرقة يشهدها التاريخ ، سرقة فلسطين من أهلها المسلمين وإعطائها لليهود ، وطرد شعبها منها ليُشتّت في الأرض !

لو تابعنا الأسئلة لوجدنا أن الديمقراطية ودعاتها لم تخرج عن كونها فساداً وظلماً في الأرض ، وحروباً لا تكاد تقف حتى تقوم حروب أخرى أهلكت الناس !

أين الديمقراطية ؟ أفي الفساد الذي نشرته وغرسته في النفوس ، أفي شراء الضمائر بالدولارات ، وشراء الأتباع والعملاء الذين ماتت ضمائرهم ونفوسهم ، فأصبحوا كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاًَ !

إنها محنة شديدة ، وابتلاء من الله سبحانه وتعالى يُمَحِّصُ الله بها عباده حتى تقوم الحجة يوم القيامة لهم أو عليهم .

إن جميع الشعارات التي يتغنّى بها عملاء الديمقراطية من حرية وعدالة ومساواة وغيرها ، هي في الديمقراطية شعارات فحسب . وأما في الإسلام فإنها قواعد ربانية ونهج رباني ، فما بال بعض المسلمين وبعض الدعاة تخلّوا عن حقائق الإسلام وعدالته وربّانيّته ، وتحولوا إلى شعارات جوفاء للديمقراطية .

إذا كان في بعض بلاد المسلمين ظلم وعدم حرية وعدم أمن وعدم مساواة ، فإنها ظلم الإنسان لا علاقة للإسلام بذلك . ولكن المسلمين بدلاً من أن يجاهدوا لتطبيق الإسلام كله بعدالته الشاملة وحرّيته المنضبطة ، ومساواته الحقيقية ، ذهبوا إلى زيف الديمقراطية وخداعها ، الديمقراطية التي لم تفلح حتى الآن أن تحمي الحق والعدل والمساواة ، ولا أن تقيمها في الأرض ، بدلاً من صراع المصالح والأهواء الطاغي والسياسة الميكيافيلية !

فُتن الكثيرون في العالم بما تسير عليه الديمقراطية من " انتخابات " ! وأخذوا يقلّدونها شبراً بشبر وذراعاً بذراع . الانتخابات من حيث المبدأ عمل سليم إِذا خضعت لنظام حق . أما ما يطبّق في الديمقراطية فإنه يجعل الانتخابات صراعاً بين أحزاب تتنافس الدنيا ، وتقودها وتسيرها الشركات الكبرى بأموالها الواسعة لتغطي نفقات الدعاية لهذا أو ذاك مِمَّن تختاره الشركة . فلا يمكن أن يدخل ميدان الانتخابات إلا مَن توافر له هذا الدعم المخفي أو المعلن ! إنه النظام الرأسمالي الذي يجعل الأمور كلها خاضعة للرأسماليين ، وتأتي الديمقراطية لتُغطّي هذا الخضوع وتحاول إخفاءه ، ولتقدّم الخدر للشعوب ، يصفّقون ويهتفون لما يرضعونه من دعاوة الرأسمالية والديمقراطية بأساليب ماكرة نافذة . وفي عالمنا العربي والإسلامي لا تـدور انتخابات إلا يعقبها اتهامات وخلافات وصراع . وهذه العراق اليوم مثل واضح .

وانتشر مبدأ الانتخابات على النسق الغربي بكل آفاته وأمراضه ، ولم يحدث أن أحداً من الشعوب أو الناس أقام انتخابات على أسس غير أسس الرأسمالية والديمقراطية .

ولكننا نعتب على أنفسنا نحن المسلمين ، حيث لم نقدّم للعالم صورة جديدة مشرقة للانتخابات ، صورة نابعة من منهاج الله ، من الكتاب والسنة ، تدفعها القلوب المؤمنة المليئة بالعلم من منهاج الله ، تدفعها المواهب القوية ، لتبيّن للعالم أن منهاج الله صالح لكل زمان ومكان ، وأنه يظل يقدّم للناس الحلول والنظم والمشاريع المتجددة مع الأحداث وتطورها ! ومن المضحك المبكي انتشار قول أحد المفتونين بالغرب : " إننا تجد في الغرب إسلاماً ولكن لا نجد مسلمين .. " ! غفر الله لهم ! أين هو الإسلام الذي يجدونه في الغرب ؟! أفي الظلم الذي ينشرونه في الأرض ، أم في الفاحشة ، أم في الخمور ، أم في انحلال الأسرة وتفكك روابطها :

( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ) [ محمد :22]

إن واقع المسلمين اليوم يكشف عن صورة مؤلمة حيث جَفّت المواهب ، وماتت القدرات ، حتى أصبح بعض المسلمين تبعاً يقلّد كلّ ناعق ! وأصبح معنى التجديد والتطور هو مفارقة الإسلام ، وعدم تطبيق شرع الله ، وأصبح هذا شعاراً يدوّي بين المسلمين حين عجزوا عن أن يقدّموا الصورة الربانيّة للتجديد والنمو والتطور . وأنى لهم أن يفعلوا هذا وقد ماتت القدرات والمواهب في صراعات حزبيّة تتنافس الدنيا ، وتكاد تنسى الآخرة .

إن الإسلام لا يقف عند حدود الأركان الخمسة : الشهادتان والشعائر من صلاة وصيام وحج وزكاة . فالأركان الخمسة هي الأساس المتين الذي تقوم عليه التكاليف الربانيّة ، ليصبح الإسلام بناءً متيناً يؤخذ كله معاً ، ولا يؤخذ بعضه ويترك بعضه . ففي حديث رسول الله r يرويه عنه ابن عمر رضي الله عنه :

" بُني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان "

 [ أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وابن ماجه ] ([2])

فالحديث الشريف يبيّن لنا في نصّه : " بُني الإسلام ... " ! فالإسلام بناء متين يتألف من أساس يقوم عليه باقي البناء . ولقد اكتفى كثير من المسلمين اليوم بالأساس أو ببعضه ، بالشعائر كلها أو بعضها ، ولا علاقة لهم بعد ذلك بسائر التكاليف الربانيَّة التي سيحاسَبون عليها بين يدي الله يوم القيامة ، ولقد بيّنا رأينا بمعنى التجديد في الإسلام في كتابنا :

" التجديد في الفكر الإسلامي مفهومه وضوابطه وغايته "

وذلك من خلال الكتاب والسنّة ، وقدمنا نماذج من التجديد في الفكر الإسلامي : في الدعوة الإسلامية ونهجها وأسسها ووسائلها وأهدافها ، وفي الأدب الملتزم بالإسلام ، في التربية والبناء ، والسياسة ، والواقع و.. ، وغير ذلك ، من خلال ما أسميناه : " نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن " ، الذي يقوم كله على أربعة مصادر : أسس الإيمان والتوحيد ، المنهاج الرباني ، مدرسة النبوة الخاتمة ، وعي الواقع من خلال منهاج الله .

ومن أهم التكاليف الربانية التي تقوم على الأركان الخمسة هي تبليغ رسالة الله كما أنزلت على محمد r إلى الناس كافّة تبليغاً منهجياً ، وتعهدهم عليها تعهداً منهجياً حتى تكون كلمة الله هي العليا . وهذه من أهم المفارقات بين الإسلام الرباني وبين الديمقراطية والعلمانية وغيرهما .

تبليغ الدعوة كما أنزلت على محمد r تكليف رباني بالآيات والأحاديث :

( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ ۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [ الأحزاب :39]

( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )

 [ فصلت :33]

هذا هو أمر الله الذي يتأكد بالآيات والأحاديث حتى لا يغفل عنها مسلم فيحاسَب على ذلك يوم القيامة . هذا هو أمر الله : " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ... " وليس ممن دعا إلى العلمانية والديمقراطية والحداثة وأمثالها . وكذلك : " .. وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ " تأكيد وإصرار على الموقف الحق .

شتان بين ما تدعو إليه الديمقراطية وما يدعو إليه الإسلام ، فعجباً لأمر بعض الدعاة كأنهم لا يقرأون هذه الآيات ولا يسمعونها ولا يتدبرونها .

ومن الأسس التي يجب أن نشير إليها هنا لبيان المفارقة الكبيرة بين الإسلام والديمقراطية ، ما نوجزه هنا بنقاط :

1.     القضية الأولى والرئيسة في الإسلام هي صدق الإيمان بالله الواحد الأحد وصفاء التوحيد .

2.     إن للمسلم ، والمسلمين بعامة ، مسؤولية خطيرة ورئيسة ورسالة في الحياة جعلها الله عهداً وميثاقاً وأمانة وخلافة وعبادة ، وهي تبليغ رسالة الله كما أنزلت على محمد r للناس كافة وتعهدهم عليها .

3.     أن يرتبط المسلمون جميعاً برباط أخوة الإيمان التي أمر الله بها ليكونوا كلهم أمة مسلمة واحدة ، تعبد رباً واحداً ، ولها دين واحد هو الإسلام .

4.     الإسلام يفرض أن يؤثر المسلم الدار الآخرة على الدنيا ، ولا يشغله عن ذلك شاغل ، ليوفي بالعهد والأمانة والعبادة والخلافة حتى تكون كلمة الله هي العليا .

مفارقة واضحة ، نُذَكِّر بها أنفسنا وإخواننا والمؤمنين جميعاً ، فإن الحساب يوم القيامة شديد !

               

(1)  كتاب : الشورى لا الديمقراطية ـ للكاتب ـ  (ص:9) ، عن جريدة الشرق الأوسط العدد 4413 ، تاريخ 11/6/1411هـ الموافق 28/12/1990م .

(1)  صحيح الجامع الصغير وزيادته : (2840) .