رؤية المشهد الفلسطيني من زاوية أخرى
رؤية المشهد الفلسطيني من زاوية أخرى
نصر شمالي
عندما انعقد المؤتمر الصهيوني اليهودي الأول عام 1897، وأقرّ مبدأ إقامة الدولة اليهودية، لم يكن اغتصاب فلسطين خياره الوحيد، بل خياره المفضّل. ولم يكن قراره مستقلاً بل أملي عليه. والوطن القومي اليهودي المزعوم لم يكن تلبية لاحتياجات محض يهودية، بل واحداً من الإجراءات الكثيرة التي اقتضتها عملية التحول التاريخية في بنية النظام الدولي، فالمؤتمر جاء في توقيته وتركيبته متفقاً مع بداية ظهور الكارتيلات الاحتكارية. أي أنّه ، باختصار، انعقد بالضبط في لحظة تحوّل الرأسمالية إلى إمبريالية.
إنّ الصهيونية اليهودية وجه من وجوه الإمبريالية، وأداة فعالة متميّزة من أدواتها، فهي ملازمة للاحتكار بل منصهرة فيه عضوياً، وما القاعدة الإسرائيلية إلاّ دولة حدود استيطانية، وخطّ تماسّ حربي، وذراع فتّاكة لذلك الجسم الكلّي الاحتكاري الذي صار قادته الحقيقيون، غير الرسميين، ينظمون كلّ عام اجتماعاً دولياً في دافوس! والحال أنّ اليهود الصهاينة ليسوا وحدهم من انصهر عضوياً في الجسم الاحتكاري العالمي. إنّ أوساطاً من مختلف القارات والأديان والقوميات بلا استثناء فعلت ذلك بطريقة أو بأخرى. غير أنّ اليهود، لأسباب مفهومة، جاؤوا في المقدّمة واحتلوا مواقع رفيعة مؤثّرة، ولنلاحظ أنّ هناك (من العرب أيضاً) من يغبط اليهود أو يحسدهم على مواقعهم، ويمنّي النفس بقبوله عضواً مندمجاً مثلهم، وإن بعدهم!
لقد تميّزت الأوساط اليهودية المتنفّذة، في جميع العصور، بولائها للنظام العالمي السائد، وبنشاطها المتميّز في خدمته، لا فرق عندها أن يكون العصر إغريقياً رومانياً وثنياً، أو عربياً إسلامياً، أو أوروبياً أميركياً، مسيحياً أو علمانياً، رأسمالياً أو اشتراكياً، ولا فرق عندها أن يكون عادلاً أم ظالماً، فوظيفتها الاقتصادية الرئيسة مالية غالباً ودائماً، ربوية عموماً، وهي عانت الويلات بسبب وظيفتها هذه في أزمنة كثيرة، لكنها حققت الازدهار الكبير بفضل هذه الوظيفة بالذات في أزمنة كثيرة أخرى!
في أوروبا، في القرون الوسطى الأوروبية المظلمة، كانت الأوساط اليهودية عموماً تمارس وظيفة الإقراض بالربا. وكانت تترتّب على تلك الوظيفة رهونات عقارية يتبعها الحجز على ممتلكات المقترض العاجز عن السداد، ونقل الملكية إلى المرابي. ولذلك كان الملاّك العقاريون المدينون يلجأون إلى تنظيم حملات العدوان ضدّ اليهود، ويحرّضون الرعاع ويعبّئونهم بوسائل مختلفة لهذا الغرض، كي يتخلّصوا من التزاماتهم المالية وينقذوا ممتلكاتهم المهدّدة بالمصادرة، مستفيدين من الفوضى ومن تعطّل العمل بالقانون.
كانت أوروبا الإقطاعية متخلّفة في جميع الميادين، حيث المجتمعات في غالبيتها من الأقنان، يحكمها ملاّك أجلاف، وتكاد تفتقر تماماً إلى المؤسسات الحرفية وإلى السلع المصنّعة الكافية لحدّ أدنى من التبادل السلعي الواسع. لذلك كانت لوظيفة الإقراض بالربا أهمية خاصة وموقعاً مرموقاً. لكنّ انعدام مجالات توظيف الأموال المتراكمة في مشاريع إنتاجية يجعل هذه الأموال مصدراً لشرور كثيرة عظيمة. وبالفعل كان المرابون يكنزون ويجمّدون كميات هائلة من الكتلة النقدية، الأمر الذي يدفع الحكومات إلى التدخّل خلافاً للقانون، فتشجّع بدورها حركات العداء والعنف ضدّ المرابين خصوصاً واليهود عموماً، كي تمتلك الظرف المناسب الذي يمكّنها من الاستيلاء على كميّات النقود المتراكمة في خزائنهم!
غير أنّ أوضاع اليهود في أوروبا الإقطاعية لم تكن سلبية دائماً، حيث كان الإقطاعيون والحكام يشملونهم برعايتهم الكاملة، ويشجعون قدومهم من خارج حدود الدولة، لتنشيط العملية الاقتصادية عموماً وللمساعدة في تنظيم الدورة المالية خصوصاً. لكنّ هذه العملية كانت محكومة بحدود إصلاحية سطحية وضيقة، وأثرها سرعان ما كان يتلاشى، فيتكرّر احتكار الكتلة النقدية من قبل اليهود، وتنشب الأزمة، وتتكرّر عمليات العدوان والاضطهاد ضدّهم، وتتوالى المصادرات لأموالهم وممتلكاتهم!
كان الاقتصاد الطبيعي الأوروبي، القائم على تلبية الحاجات البسيطة المباشرة، بحاجة دائمة إلى وظائف اليهود المالية، لأنّه كان محظوراً على المسيحيين القيام بها. ففي عام 1491 هدّد مجمّع بمبرغ بطرد كلّ مسيحي يمارس الربا مباشرة أو بواسطة اليهود. ولم تكن تلك سوى الصدامات المبكّرة بين النظام الإقطاعي والبورجوازية الوليدة. وعندما بدأت البورجوازية بالصعود إلى مواقع مؤثّرة وجدت في المرابين اليهود المتعاونين مع النظام القديم معوّقاً لصعودها وعامل إرباك لمشاريعها، فاضطهدتهم بدورها بضراوة أشدّ، كعقبة لا تطاق! لقد كانت البورجوازية تعمل على إقامة علاقات اقتصادية متقدمة، بالانتقال من الاقتصاد الطبيعي إلى الاقتصاد التبادلي، الأمر الذي يعني تغييراً في البنى الفوقية للمجتمع وأولها البنى السياسية، بينما اليهود بقروضهم وسياستهم يدعمون البنى القائمة، وعلى رأسها الملكية المطلقة، لأنهم كانوا يستفيدون إلى أبعد الحدود من النظام الاقتصادي المتخلف الذي يضمن تميّزهم وتفوقهم مالياً!
لقد مرّ زمن طويل قبل أن يقوى عود البورجوازية الأوروبية ويعترف لها بدور قيادي، ثمّ بدأت بتأسيس مصارفها، فأدّى ذلك إلى الحدّ كثيراً من نفوذ المرابين اليهود. وبعد أن تحقّق لها ذلك تحوّلت من الرفض المطلق للوظائف المالية اليهودية إلى حمايتها ورعايتها. فهذه الوظائف تقلصت إلى درجة أصبح معها استيعابها وتوظيفها ممكناً، بل ضرورياً، مثلما كان يفعل الملوك والنبلاء، إنّما على أسس جديدة حديثة ومعقّدة. وسرعان ما استوعبت الأوساط اليهودية المتنفّذة جوهر هذه الأسس، وبدأت تعمل انطلاقاً منها، وبخاصة في ميدان المصارف الحديثة التي تحمل الجوهر الربوي ذاته، بل هي أبدت براعة منقطعة النظير في هذا الميدان، الأمر الذي جعلها عضواً نشطاً فعالاً في الأجهزة القيادية للنظام الرأسمالي في تطوراته المتوالية حتى يومنا هذا، وهو ما لمسه العالم أجمع في الأزمة المالية الأخيرة أكثر من أيّ زمن مضى!
الخلاصة: لقد وقعت فلسطين في قبضة هذه الأجهزة الدولية الصهيونية الربوية، القديمة الحديثة، التي اضمحلت أخيراً وبدأت بالانحدار. ورؤية المشهد الفلسطيني من هذه الزاوية التاريخية ضرورية لفهم حقيقة الذين يديرون تمثيلية المفاوضات اليوم، على سبيل المثال. إنّ المديرين هم الإسرائيليون بالذات، مثلما أنّ الإسرائيليين هم المديرون بالذات! إنّ ميتشل وبلير هما نتانياهو وليبرمان والعكس صحيح! وإنّ الشجاعة في رؤية هذه الحقيقة ومواجهتها، على هولها، هي المدخل إلى خلاص العرب، بينما الخوف من رؤيتها ومن مواجهتها يعني ضلالهم وضياعهم.