حوار مع التعليقات على الرؤية الشرعية للانتخابات (1)

أ.د. عبد الرحمن البر

حوار مع التعليقات

على الرؤية الشرعية للانتخابات (1)

أ.د. عبد الرحمن البر

أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر

وعضو مكتب الإرشاد

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، واهتدى بهداه.

وبعد؛ فيعلم الله أنني جد سعيد بالتفاعل الواسع مع ما كتبتُه تحت عنوان «الانتخابات رؤية شرعية» وتابعته على كثيرمن المواقع والمنتديات التي اهتمت به، مع أن عددا كبيرا من المشاركات كان معاكساً للرأي الذي أبديتُه، لكن سرَّ سعادتي هي هذه الحيوية التي أراها تزداد يوما بعد يوم بين شباب الأمة عموما، وبين شباب الإخوان خصوصا، ولذلك أسجل في البداية اعتزازي بهذا الشباب، سواء منهم من وافقني الرأي والرؤية أو من خالفني، وأرجو أن يستمر هذا التفاعل ويتطور وينمو ويفرز بإذن الله قادة فكريين نابهين متميزين، تُحصِّنهم التجارب وتُنْضِجُهم المعارك وتُقَوِّم أعوادهم الحوارات الجادة، وليسمح لي إخواني أن يطول حواري مع التعليقات نوعا ما، وأبدأ بهذه الحلقة الأولى، وأرجو ألا يعجل الإخوة الكرام بالرد والمناقشة قبل الانتهاء من هذا الحوار إن شاء الله:

*نظرة عامة للتعليقات:

كانت بعض هذه التعليقات مجرد استهزاء بالفكرة و(تريقة) لا أكثر، وأنا لا يشغلني كثيرا مثل هذه الأمور، لأنني أراها هزْلا في موطن الجد، لا يجب الاشتغال به، وأرى أن مُطْلِقيها ربما أعجزهم أن يجدوا شيئا مفيدا يكتبونه، وفي نفس الوقت أَبَوْا إلا أن يسجلوا حضورا ببعض الكلمات التي لا فائدة منها، فشكر الله لهم مرورهم، وسامحنا الله وإياهم، ووفقنا وإياهم إلى الجد في مواطن الجد إن شاء الله.

أما أكثر التعليقات فكانت تعليقات جادة ومحترمة، سواء ما أقبله منها، وما أرفضه، وأنا أشكر للجميع اهتماهم ومشاركتهم.

متى كتبت هذه الرؤية؟:

أحب أن أقدم بين يدي هذه التعليقات أمرا مهما، وهو أن هذه الرؤية لم أكتبها في هذه الأيام، إنما كتبتُها منذ ما يقارب الست سنوات، وكانت في الأصل محاضرة صوتية، وكتبتُها كما ألقيتُها، ونُشرت على مواقع كثيرة صوتا وكتابة منذ ذلك الحين، وجرى التعليق عليها لكن بحدَّة أقل من التعليقات هذه المرة، وما يجري اليوم هو مجرد إعادة لنشرها دون أي تغيير، بعد أن تطوعت بعض الصحف بنقل مقتطفات منها إبان انتخابات الشورى، ثم قبل انتخابات الشعب، بل إن بعض الصحف كالعادة راحت تستطلع آراء بعض السياسيين وبعض علماء الشريعة فيما نَقَلَتْ من مقتطفات، دون أن تعرض لهم الرؤية كاملة.

وكذلك لا حظتُ أن عددا كبيرا ممن علق على المقتطفات الصحفية كان يعلق على العنوان الذي كتبته الجريدة، دون أن يقرأ التفاصيل.

لماذا أعيد نشرها في هذه الأيام:

 لكل هذا رأيت أن أطلع الإخوة الكرام على حقيقة ما كتبتُه كاملا غير منقوص، ودون أدنى تغيير؛ ليعلم الجميع أنني كتبتُ هذه الرؤية قبل أن أكون عضوا بمكتب الإرشاد، بل لم يخطر ببالي قط يومها أن أكون عضوا بالمكتب، وكان اختيار إخواني لي مفاجأة حقيقية، أسأل الله الإعانة والتوفيق والقبول.

ولعل هذا التوضيح يريح قلوب وصدور بعض الإخوان الذين ساء ظنهم بأخيهم الضعيف، فظنوا أنني أكتب هذه الرؤية الآن لتأييد الموقف المحتمل للإخوان بالمشاركة في انتخابات 2010، وتطوعوا – سامحهم الله- بالربط بين ما كتبتُه، وبين ما يكتبه شيوخ السلطان أحيانا، لتأييد ما يفكر فيه السلطان قبل أن يجري به قلمُه أو تتحرك به شفتاه.

ويعلم الله والراسخون في معرفتي أنني لا أرضى أن أبيع ديني بالدنيا وما عليها، وأسأل الله أن يثبتني على الحق حتى ألقاه وهو عني راض، ولم يسبق لي -وأسأل الله ألا يقدر لي- أن أميل عن الحق لأي غرض، وألا يستعملني إلا لخدمة دينه، ونصرة الحق الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يغفر لي ما كان وما يكون من خطإ أو زلل.

عذر ولوم وتوضيح:

وإذا كنت أعذر من لا يعرفني شخصيا من الشباب في ظنونه، فماذا أقول للأخ بلال علاء، الذي أعتبره من أبنائي، وأفتح له قلبي وعقلي، وأناقشه فيما شاء من مسائل إذا قال بالنص: «دي عينة مما كان من المفترض أن تقوم به لجنة الفقهاء بإصدار فتوى لكل قرار سياسي فتصبح معارضة الحكومة معارضة للدين»!

أقول: سامحك الله يا بني، وأخلف سوء ظنك فيَّ إن شاء الله، وأؤكد لك ولكل من يقرأ: إن معارضة الحكومة (ولو كانت إسلامية مائة في المائة) ليس معارضة للدين، بل إن معارضة علماء الدين مهما بلغوا من العلم والمكانة ليس معارضة للدين، شخص واحد فقط في هذه الحياة الدنيا كانت معارضته فيما يقرره ويوجبه معارضة للدين، وهو النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم، وبانتقاله إلى الرفيق الأعلى لم يعد في هذه الدنيا أحد معصوم مهما كانت مكانته وموقعه، وتاريخنا الإسلامي بعامة والفقهي بخاصة يشهد على ما أقول، فقد اختلف العلماء والفقهاء في مسائل كثيرة في أصول الدين وفروعه، فلم يعتبر أحد ممن يعتد به من الأئمة أن مخالفة الآخرين له تعد معارضة للدين.

فليهدأ أخي –وابني إن قَبِل- بلال وإخوانه نفسا ولتطمئن قلوبهم أن هذا الذي يتخوفون له لا وجود له في عقلي أولا، ثم لا أعلم له وجودا في أذهان من أعرف من إخواني العلماء، ولا وجود في الحقيقة (والعلم عند الله) إلا في أذهان من يريدون تخويف الناس من المشروع الإسلامي. ولعل في هذا التوضيح كفاية.  

شكر وتقدير:

وفي المقابل فقد دلني أحد الإخوان على محاضرة صوتية لأحد الإخوة العلماء على موقع (أنا سلفي) وهو الأخ الشيخ عبد المنعم الشحات، الذي قام بمناقشة ما قدمتُه في هذه الرؤية مناقشة علمية، اختلف معي في أكثر ما قلته، لكنه كان في غاية الأدب والاحترام في المناقشة، وأنا أسجل شكري له على هدوئه وحسن مناقشته، وإن اختلفنا في التقدير والتكييف الشرعي لكثير من المسائل، لكن الشكر واجب، وهذا نموذج مما أحب أن يكون عليه الشباب عامة والإخوان المسلمون خاصة في مناقشة أية قضية شرعية: أن نناقشها نقاشا علميا راقيا، سواء توافقنا أو اختلفنا، فإن أكثر ما يضيع الحق هو (التريقة) والصراخ والصوت العالي والنفس الحاد في المناقشة.

كما أسجل شكري للأخ الكريم الشيخ عصام تليمة الذي أرسل لي قبل يومين رسالة بعنوان (إلى الدكتور البر: ما هكذا تورد الإبل) نصح فيها بشكل جاد، واختلف معي اختلافا لا يسعني إلا احترامه، مع أن مقاله لم يغير شيئا لدي، وسيأتي التوضيح لما ذكره في أثناء هذا الحوار إن شاء الله، لكن الإنصاف يقتضي شكره على أدبه العالي في الخطاب.

وكذلك أشكر إخواني الكرام الدكتور محمد نور (نور دنت) والأخ (مجدد الدين) وغيرهم كثير ممن قدم رأيه الذي رآه من وجهة نظره، وإن خالفتهم في بعض ما ذهبوا إليه، وسيتضح ذلك في الحوار إن شاء الله.

هل تغيرت قناعاتي:

لكن هل معنى أن هذه الرؤية كانت قبل ست سنوات أنني غيرت شيئا من قناعاتي ورؤيتي التي مضى عليها كل هذا الوقت؟

الحقيقة: أنه لم يتغير لدي شيء قط، ولهذا نشرتها كما كتبتها قبل ست سنوات تقريبا.

الجديد: هو أنها تنشر في هذه الأيام وصاحبها قد صار عضوا بمكتب الإرشاد، وهذا بلا شك، جعل لها حيثية جديدة تجعل الاهتمام بها غير ما سبق.

وأرجو مرة أخرى ألا يتسرع الإخوة باللوم والرد قبل أن يقرأوا توضيحاتي التي سترد في أثناء هذا الحوار إن شاء الله.

وقد كشفت التعليقات لي عن كثير من الحقائق، من أهمها: أنك قد تتكلم أو تكتب فتظن أنك قد أوضحت غاية الإيضاح وأَبَنْتَ منتهى الإبانة، ثم يتضح لك أن الآخرين لم يفهموا كلامك على النحو الذي تريده، أو حمَّلوه من المعاني ما لا يحتمل وما لا تقصد، أو تركوا الفكرة الأساسية التي يدور حولها الكلام، وانشغلوا بعبارة محتملة هنا أو هناك، وأننا بحاجة – كما قال الأخ محمد الشيخ – إلى الاقتراب أكثر من النخبة – بل من الجميع- ليعرفوا حقيقة أهدافنا وأفكارنا.

وأنا هنا أتكلم عن غالبية المعلِّقين، دعك من المتربصين الذين يبحثون في ثنايا الكلام عن خطإ غير مقصود أو عما يمكن اعتباره خطأ، فهؤلاء لا يجدي معهم حوار، ولا يمكن أن يحصل معهم غير المراء المذموم الذي نُهينا عنه. وأتوجه مع أخي د. مصطفي شلبي: إلى الذين يحرصون على التشكيك فى نوايا الإخوان وتسفيه آرائهم بالمشاركه فى الانتخابات: أنتم أحرار فيما تدلون به من آراء، ولكن لماذا تصادرون الرأى فى أن يكون للإخوان رؤيتهم وقرارهم، وهم أكبر فصيل معارض فى الساحة المصرية؟.

الفصل بين الدين والسياسة:

أما أهم ما يمكن أن أكون قد تفاجأت به: فهو ما لمسته من بعض الكتابات التي يبدو على أصحابها أنهم من شباب الإخوان، يرون أن الرؤية (أو ما سموه الفتوى! وسأعود لهذا فيما بعد) هي ثمرة من ثمار خلط السياسة بالدين!! كما ذكر الأخ (مجدد الدين) وغيره.

فهل هذا هو التجديد يا أخي الكريم؟ مَنْ ذلك الذي فصل السياسة عن الدين وجعلهما نقيضين لا يجتمعان؟ وفي أي مدرسة فكرية إسلامية تعلمتَ أن السياسة ليست من الدين؟ وماذا نصنع بآيات الحكم والقضاء، وآيات البيع والشراء، وآيات الصلح والمعاملات،...إلخ.

إننا – أخي الكريم – نفهم الإسلام دينا شاملا، والسياسة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، وندعو إلى ذلك، وما دفعك – فيما أظن- إلى هذه الجملة العجيبة إلا ظنك بي أنني أبحث عن مبرر ديني لموقف سياسي تتخذه الجماعة، وليس له أصل شرعي، فإن كان الأمر كذلك فسامحك الله على سوء الظن، وإن كان الأمر أنك ترى بالفعل أنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين، وأن ما يسمى (الخلط) بين الدين والسياسة قد أفسد الدين وأفسد السياسة، كما يزعم البعض، فهذا من وجهة نظري (خلط) في الفهم لحقيقة الدين.

والحقيقة أنه ما أفسد الدين والسياسة إلا أمران: الاستبداد السياسي من القادة، والنفاق العملي (وليس الاعتقادي حتى لا يساء تفسير الكلام) وسوء العرض من بعض الشيوخ، وفي ذلك قيل: «صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء والعلماء».

وقد أثَّرت تصرفات كثير من أهل الحكم وكثير من أهل العلم في تشكيل صورة غير صحيحة عن حقيقة الدين، فخرج منها هذا (الخلط) الذي يفصل بين الدين والسياسة.

ودعني أقول في المقابل (وهذا رأيي الذي أعتقده بحق): ما أفسد حياة الأمة إلا إقصاؤها لحقيقة الدين عن كثير من المجالات وأهمها السياسية، وإقصاؤها لكثير من العلماء المخلصين عن التواصل الفعال والمؤثر في المجتمع.

وهذا الكلام ذاته أوجهه للأخ (سامر محمد كامل) الذي كتب في نافذة مصر تعليقا جميلا، لكنه يحتاج إلى (تفنيط) ومراجعة، وعدم الخلط بين ممارسات بعض علماء الدين وبين الدين نفسه، وأذكِّر الجميع بأن المصالح المرسلة هي أحد مصادر الحكم الشرعي، وهي المصالح التي لم يقم دليل على اعتبارها ولا دليل على إلغائها، فالعبرة فيها بكونها مصلحة، والشريعة تعتبرها مصدرا من مصادر الحكم الشرعي، وغن كانت في رتبة متأخرة عن المصادر والأدلة الأخرى، ولا يعني هذا خلطا بين الدين وبين المجال الذي ظهرت لنا فيه المصلحة؛ لأن الأصل أن المسلم يبحث عن الصواب المتفق مع الشريعة أو غير المعارض لها في كل تصرفاته.

وإلى اللقاء في الحلقة التالية بإذن الله.

على الهامش:

الأخت الكريمة د. هبة رؤوف عزت: كتبت في موقع الفيس بوك تعليقا على مقالتي (عفوا أستاذ فهمي مصلحة الجماعة هي مصلحة الوطن) تقول: إن قولي: إن مصلحة الجماعة هي مصلحة الوطن «يحتاج لتأمل طويل وبعض التذكير بفضيلة التواضع» وتقول: «لو أنه (تعنيني) قال: هذا تقديرنا وقد نصيب وقد نخطئ لكان أفضل»

وأنا أقول يا سيدتي الكريمة: هذا تقديري وقد أصيب وقد أخطئ، وجزاك الله خيرا على التذكرة، وسلامتك من كل ما ينغص عليك، فالأمة –وهذا تقديري وقد أصيب فيه وقد أخطئ- بحاجة إلى العقول الراشدة الواعية من أمثالك لتوضيح المفاهيم وتصحيح المسيرة، وتقبلي أسفي إذا كان كلامي (من غير قصد مني طبعا) قد سبب لك شيئا من النكد بعد يوم عمل شاق أسأل الله أن يكون في ميزان حسناتك، وأرجو ألا يؤثر الاختلاف في الرأي على سلامة الصدور. دمت بخير.

لكن ما أردتُه يا سيدتي الكريمة من التعليق على مقال الأستاذ فهمي: أن كل أهداف الإخوان (كجماعة) في خوض الانتخابات أو في مقاطعتها تصب في النهاية في مصلحة الوطن، فتأكيد حضور الجماعة الفاعل واكتساب المشروعية القانونية والحكومية وغير ذلك هو في النهاية لمصلحة الوطن، ولا يخفى على سيادتك أن أستاذنا الأستاذ فهمي حين يستخدم (أم) المعادلة في المقال (مصلحة الجماعة أم مصلحة الوطن) فإن ما سيقع في الذهن أن للإخوان أهدافا تناقض مصلحة الوطن، أو على الأقل يمكن المقايضة عليها بمصلحة الوطن، وهذا ما أردتُ أن أنفيه عن الإخوان (كجماعة).

أما أن يكون بين الإخوان من الأفراد من يبحث عن مصالح خاصة؛ فهذا ما لا أملك ولا يملك غيري إثباته أو نفيه عن شخص بعينه؛ لأن العلم عند الله، والآية التي ذكرتيها (منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة) ذكر ابن مسعود رضي الله عنه أنهم لم يكونوا يعلمون أن فيهم من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.

وأنا أقول: قد يوجد هذا وذاك، لكني أتحدث عن الأهداف التي تتوخاها (الجماعة)، ولا أظن في ذلك شيئا من الكِبْر ولا من التعالي ولا من الترفع عن المراجعة والمحاسبة، فلا معصوم بعد الأنبياء والرسل ولا أحد أكبر من الخطإ، ولا أحد أقل من الصواب. وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا.