عن مقاومة الغزو العثماني

عن مقاومة الغزو العثماني!!

صلاح حميدة

[email protected]

لم يكن غريباً ولا مستهجناً ما ذكر مؤخراً عن تغيير المناهج في قطر عربي، ليتحدّث درس التاريخ عن غزو ورغبة عثمانية قديمة في احتلال وتوسيع ممتلكات السلطان العثماني على حساب قلب العالم العربي.  وفسّر هذا تلقائياً بأنّه محاولة متأخّرة - وربّما محاولة يائسة- من قبل من يحكمون هذا القطر العربي للتّصدي لما يصطلح عليه حالياً ( تأثير العثمانيين الجدد) على الشّارع العربي.

قديماً كان يطلق على المحاربيين ( غزاة) وقيل أحاديث نبوية شريفة عن تجهيز الغزاة : - " من جهّز غازياً فقد غزا"، ولكن بالرّغم من أنّ مصطلح (غزو) كان يطلق على النّوع الحميد من القتال والتّحرّك العسكري لغوياً ودينياً، إلّا أنّ ذلك لم يمنع المؤرّخين العرب والمسلمين من استخدام مصطلح (الفتح) والفاتحين على المقاتلين والعمل الذي قاموا به في تلك الحقبة الزّمنية، في محاولة واضحة منهم لخلق فارق بين صورتين من الغزو، واحدة حميدة وواحدة غير ذلك.

ولذلك كان يطلق على السّيطرة العثمانية ( الفتح العثماني) على ذلك القطر وغيره من الأقطار العربية والاسلامية والغير إسلامي منها أيضاً، فقد شكّلت سيطرة العثمانيين على  القطر المصري تأريخاً لنهاية الفترة المتأخّرة لحكم المماليك، والّذي كان عبارة عن فترة تراجع فيها أداؤهم في الحكم لدرجة ضجّ منهم النّاس وكرهوهم، وبالرغم من أنّ الفترات الأولى لحكم المماليك كانت زاخرة بالبطولات التي دافع فيها المماليك  بشجاعة عن أراضي المسلمين ومقدّساتهم، ودحروا المغول والفرنجة في نفس الوقت، إلا أنّ ما جرى بعد ذلك من تراجع في نهاية حقبة المماليك، جعل ما قام به العثمانيين القدماء فتحاً بنظر الكثير من العرب والمسلمين والمؤرّخين، ولم يشكل إدخال الأقطار العربية لحقبة جديدة عثمانية الطّراز عملاً مستهجناً، خاصّةً أنّ القضيّة العرقية لم تكن تلعب دوراً كبيراً في درجة المقبولية العربية والاسلامية لمن يحكمهم، إذا كان الحاكم الجديد يقوم بالدّفاع عنهم وتوفير حياة كريمة لعامّة النّاس، ويؤدّي الدّور المطلوب منه  دينياً، مع العلم أنّ المماليك أيضاً لم يكونوا عرباً، وكانوا عبارة عن خليط من الأعراق الغير عربية، فالقبول بحكمهم أو تمجيد التّخلّص منه - فيما بعد - لم يكن على أساس العرق بل على أساس أداء الدّور المطلوب دينياً وسياسياً.

بعد تفكك الدولة العثمانية وتمزّق العالم العربي إلى دويلات نشط عدد من القطريين العرب في تسليط الضّوء على مساوىء الحقبة الأخيرة للدولة العثمانية، وتم تعزيز تلك الصّورة المسيئة بالدراما والمؤلفات والخطاب السياسي أيضاً، إلا أنّ كل هذا الجهد لم ينجح في خلق رأي عام معادي لتلك الحقبة، وهذا يعود بشكل رئيس إلى أنّ الدّولة القطرية العربية لم تكن أفضل حالاً من تلك العثمانية المتأخّرة، بل يعتبر الكثير من العامّة والمؤرّخين أنّ أداء العثمانيين في تلك الحقبة الزّمنية في التّعاطي مع التّحدّيات التي كانت تواجه الأمّة أفضل بكثير من أداء النّظام القطري العربي، وخاصّةً فيما يخصّ الدّفاع عن فلسطين والوحدة الجغرافية والسياسية وحريّة الحركة بين الأقطار، والحفاظ على كرامة الأمّة في وجه الغزاة وغير ذلك.

عودة ( العثمانيين الجدد) للسّاحة الدّولية والاقليمية أعادت الجدل حول العثمانيين للواجهة من جديد، فبعد غياب طويل عاد العثمانيون الجدد ليلعبوا دوراً محورياً في صنع السياسة الاقليمية والدّولية، وبدا لكل متابع أنّهم أصبحوا طرفاً فاعلاً في الكثير من الملفّات، وخاصّةً الملفين الفلسطيني والسوري وملفّات أخرى إقتصادية واجتماعية وسياسية وفكرية ودبلوماسية واعلامية وغيرها.

هذه العودة القوية للعثمانيين الجدد أحيت مشاعر قديمة دافئة لدى شعوب المنطقة، وباتت تركيا العثمانيين الجدد القبلة المحببة لدى القطاعات الشعبية والاعلامية والنقابية وبعض الرسمية والاقتصادية العربية، وباتت الدراما التركية تصنّف بأنّها الأكثر مشاهدةً ومتابعةً في العالم العربي، كما زاد الاهتمام بالأخبار الواردة من هناك، إضافةً لتحول  تركيا لوجهة سياحية وتعليمية واستثمارية وعلاجية وفكرية للكثير من العرب والمسلمين، فشعوب المنطقة تعيش أسوأ أزماتها بوصول النّظام الرسمي القطري إلى حالة من العجز والتّفكك والفساد والتّبعية ربّما تكون أسوأ من تلك الحقبة التي كانت تعيشها مصر عشيّة الفتح العثماني.

لم يكن غريباً أن يقابل النّموذج العثماني الجديد بالعداء والصّدود من قبل ( المماليك الجدد) فالمنطقة العربية تعيش أزمات مستفحلة يكاد لا يوجد فيها بصيص من النّور يوحي بأنّ لها نهاية، فالقبضة البوليسية القمعية هي التي تعمل يدها في جسد الشعوب العربية،  وتعيش هذه الشعوب تحت تسلط وتراجع وفساد ودكتاتورية وردّة سياسية من الجمهوريات المنقلبة على الملكيات العربية، وخروجها بأنظمة مهشّمة مشوّهة أطلق عليها بعض المحللين لقب ( الجمهوريات الملكية) وفي الوقت الذي وصلت فيها أحوال البلاد والعباد لوضع بالغ السّوء، ودرجة ما قبل اليأس والاستسلام، ظهر  ( العثمانيون الجدد). ولذلك بدأ الصّدود والعداء لهم والّذي يسير بطريقة تصاعدية مع كل إنجاز يحقّقونه.

تعتبر الجذور الاسلامية الحضارية والتاريخية للعثمانيين الجدد من أوائل الأسباب التي وضعت أوّل الحواجز بينهم وبين المماليك الجدد، فالصّفة التي يحملونها جعلت ( المماليلك الجدد) يتوجّسون منهم خيفة، وباتت مهمة عرقلة جهودهم من أولى أولولياتهم، فالهوية الحضارية الجامعة هي معول الهدم الأول للمشروع القطري التفتيتي الذي ينتج تفتيتاً عرقياً وطائفياً ومناطقياً ودينياً  أسوأ كلما طال به الزّمن، والمشروع الحضاري الجامع ذو الخلفية التاريخية الحضارية والصورة والأداء الجاذب حالياً، يثير رعباً في نفوس هؤلاء.

أمّا فيما يتعلق بالتّعامل مع الملف الفلسطيني، فقد استمات العثمانيون القدماء في الدّفاع عن فلسطين، بينما أضاعها القطريون العرب بلمح من البصر، حتى عايرهم المؤرّخون بأنّه ( لو قاتل العرب قتال العثمانيين في الدفاع عن فلسطين، لما سقطت بيد اليهود) وبالتوازي مع قتال القدماء المستميت، يقف العثمانيون الجدد مواقف متقدّمة بالمقارنة مع مواقف القطريين العرب من القضية الفلسطينية وحصار غزة والعدوان على حقوق ومقدّرات الشّعب الفلسطيني، في الوقت الذي لا زالوا تحت وطأة قيود قرن من الزّمان.  و أصبحت دولتهم قبلةً لأحرار العالم  والرّاغبين بتغيير واقع الاحتلال لفلسطين، بل انزعج هؤلاء ( القطريون مماليك الاستعمار) من التحرّكات العملية التي قام بها العثمانيون الجدد لكسر الحصار عن قطاع غزة، و عملهم الجريء للفت النّظر إلى المعاناة التي يعانيها الفلسطينيون تحت الاحتلال وتقديمهم الدعم السياسي والخيري والمادّي للفلسطينيين و للرواية الفلسطينية في المحافل الدّولية، و ظهور قدرتهم على التّعاطي مع كافّة أطراف المعادلة الفلسطينية بإيجابية، وبالتالي ظهر العجز الرسمي العربي بقيادة المماليك الجدد عارياً في منتصف النّهار، واختار المماليك الجدد أن يعملوا على كسر المرآة التي أظهرت سوأتهم بدلاً من تغيير واقع عريّهم أمام النّاس وأمام  التاريخ، فبدأوا بعملية يائسة لعرقلة وتشويه الانجازات و الخطوات والسياسات الواثقة للعثمانيين الجدد.

أكثر ما يرعب المماليك الجدد من العثمانيين الجدد هو توفيرهم بارقة الأمل ونموذج التغيير والبديل الفاعل، والقدرة على استيعاب كافّة الاختلافات والتناقضات وتصفير الصراعات والتناقضات والأحقاد الداخلية والبينية، إضافةً لإظهارهم أنّ التعايش بين المتناقضات السياسية والتغيير السياسي في العالم الاسلامي ممكن بطرق سلمية وبلا مؤامرات ولا انقلابات ولا مجازر دموية، وأنّه بإمكان من يحملون فكراً حضارياً وينسب إليهم أنّهم ذووا جذور إسلامية وأصحاب هوية حضارية عابرة للحدود تمكّنهم من استيعاب المختلف معهم دينياً وفكرياً وسياسياً، و مكنتهم من تقديم نموذج فشل غلاة العلمانية في تقديمه للعامة والخاصة. كما أنّ هؤلاء أثبتوا للمواطن العادي في الأقطار العربية أنّهم يستطيعون تحقيق إنجازات إقتصادية  كبيرة تجلّت في نمو منقطع النّظير لفت أنظار العالم أجمع. كما أظهر هؤلاء قدرتهم على قول ( لا) للقوى الغربية عندما تكون الإرادة الشعبية في دولتهم تطلب منهم ذلك،  وظهر ذلك جالياً عند غزو العراق وما بعده، كما ظهرت متانة وديناميكية الجبهة الداخلية -على تنوّعها- في الوقفة الوطنية الجادة ضد اعتداآت الدّولة العبرية على قطاع غزة وأسطول الحريّة.

هذه الصورة التي رسمها العثمانيون الجدد لنموذج فريد  من النّظام السياسي المفقود في المنطقة العربية والاسلامية، وتمتّع هذا النّموذج بإرث تاريخي لا زال عالقاً في عقول العامة، وردة الفعل المرحّبة به من قطاعات واسعة ومتنوّعة من العرب والمسلمين، هذا كلّه كان ولا يزال كافياً لحالة الاستنفار التي يعيشها المماليك الجدد خوفاً من ملاقاة مصير أسلافهم المماليك القدماء، فالعثمانيون الجدد قدموا نموذجاً يحتذى قابل للتحقيق والنّجاح، ولم يعد المواطن العربي مخيّراً بين خيارين أ الرّئيس وولده) أو خيار الحزب الواحد، بل ظهر خيار ثالث ناجح بالتّجربة من الممكن تقديمه للحكومات وللمعارضة على حد سواء، وبإمكان هؤلاء جميعاً دراسته والإضافة عليه أيضاً.

أخيراً لا يسعني إلا أن أعتذر من المماليك القدماء، فمقارنة النّظام القطري العربي بهم يعدّ ظلماً تاريخياً فادحاً بحقّهم، فهم أهل بأس وجهاد، و أصحاب الفضل الكبير في الحفاظ على أرض المسلمين ومقدّساتهم والدّفاع عنها في وقت كانت الأمّة في أسوأ حالاتها، إضافةً إلى عطائهم وإنجازاتهم في قطاعات عمرانية وعلمية وطبّية كبيرة لا تخطئها العين، وعلى رأس ذلك اهتمامهم الكبير بالقدس وفلسطين وتطهيرهما من الغزاة الفرنجة، وما تمّ من عقد للمقارنة إنّما هو فقط لجرئية نهاية حقبتهم وإنهائها على يد العثمانيين القدماء فقط.

أمّا المماليك الجدد فلا خيار أمامهم إلا بالعمل على تقديم نموذج أفضل من نموذج العثمانيين الجدد حتى يقبلهم ويحبّهم النّاس، فمحاولات عرقلة  القدر لن تفيد أصحابها بشيء وسيطحنهم قطار التغيير، وسيصدق فيهم حينها القول :- ( الشّقيّ من اتّعظ بنفسه).