الانتخابات رؤية شرعية (1)
الانتخابات رؤية شرعية (1)
د. عبد الرحمن البر
أستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
ونصلي ونسلم على سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم المبعوث رحمة للعالمين، المبلغ للرسالة، المؤدي للأمانة، والمبين للناس طريق الحق من طريق الغواية... وبعد،
تمثل الانتخابات بشكلها المعاصر، إحدى القضايا التي تُفرز أسئلة وإشكاليات فقهية عديدة، بدءًا من شرعية هذه العملية، والاختلاف الفقهي حولها؛ إذ يرى بعض المعاصرين أنها ليست مشروعة باعتبارها صنيعة من صنائع غير المسلمين ليس لها مثيل في العصور الأولى في الإسلام؛ ومن ثم ينظرون إليها أنها بدعة منكرة، بينما يرى السواد الأعظم من العلماء غير ذلك.
كذلك علاقة الانتخابات بالشهادة، وحكم الإدلاء بالصوت، ولمن يكون، وحكم المقاطعة لهذه الانتخابات إن كان البعض يرون أنها لعبة سياسية لا جدوى منها، وكذلك مسألة تغليب العصبية للقريب أو ابن البلد أو غيره على المصلحة العامة، وكذلك مسألة شراء الأصوات لضمان النجاح، وما الذي يفعله المرشح النزيه إن وجد خصما يلجأ إلى تلك الحيلة، وهل يحل له أو يحق له عندئذ أن يفعل ما يفعل خصومه حتى يدرأ المفسدة عن الأمة والشعب، وما علاقة ذلك كله بفقه الرشوة المحرم، وكذلك مسألة المرأة وعملية الانتخاب، هل لها أن تدلي بصوتها؟ أو أن تتقدم بالترشيح نيابة عن الأمة، باعتبارها فردًا من أفراد الشعب، أو ذلك مما يضر بها، ويجعل الأمر غير جائز من الناحية الشرعية؟.
وأيضا في مجال الدعاية الانتخابية، تبرز أسألة متعددة في آداب هذه الدعاية، وحكم استغلال الدين كأحد العوامل التي تسهم في كسب الرأي العام، باعتبار أن الدين له مكانة عظيمة في نفوس الناس في دولنا العربية والإسلامية، وكذلك الذين يتخذون هذا الدين ونصوص الشريعة تكأة يضمنون بها أصوات الناخبين، ويكثرون من الاستشهاد بالقرآن مع أن لا علاقة لهم بالمصحف ولا بالقرآن، وكذلك أموال هذه الدعاية، وكون ذلك من باب التبرعات، أو تتبنى بعض الهيئات الحكومية أو الأهلية تأييد مرشح معين، وغير ذلك من الإشكاليات الفقهية الكثيرة، التي تعترض العملية الانتخابية، والتي يسأل الناس فيها كثيرا؛ مما يقتضي أن تُقدم لها معالجة فقهية صحيحة إن شاء الله.
مشروعية الانتخابات
إن المسلم بطبيعته يجب أن يعرف الحكم الشرعي لكل عمل يقدم عليه، ولما كانت الانتخابات من الأمور المعاصرة التي تواجه الإنسان المسلم، فإن رجوعه واستفتائه في مسألة الانتخابات، يجب أن يكون إلى المرجعية الشرعية التي يثق بدينها، ويلتزم بفتواها، وله أن يسأل عن الدليل على الحكم الذي يقوله له هذا العالم أو ذاك، وله أن ينظر في الدليل الشرعي، إن كان من أهل النظر في الأدلة، وله أن يراجع العلماء، ويستفتي حتى يطمئن إلى الأمر الذي يقدم عليه.
على أي حال، فإن المسلم مطالب بأن يعمل تفكيره، ويعود إلى نفسه، ويراجع أهل العلم والبصيرة، ليصل إلى ما يراه الأقرب للصواب، والله تعالى يقول: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [النحل:43].
ولما كانت الانتخابات من الأمور التي جدت في حياة المسلمين؛ اقتضى الأمر بيان الحكم الشرعي فيها، وبيان وجه الحق فيها.
المعلوم أن المسلم دائما تنبثق رؤياه من كونه يعيش في مجتمع، ويلتزم بعقيدة، ويلتزم بدين، والمسلم بطبيعة الحال من واجباته الأساسية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله، يقول الله عز وجل: [وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ] [آل عمران:104]، ويقول سبحانه: [كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ] [آل عمران:110].
فمن واجب المسلم الذي يعيش في أي مجتمع أن يساهم إيجابيا في حل قضايا هذا المجتمع، بحسب وجهة نظره الإسلامية، وبالتالي فإذا أتيح له أن يشارك في انتخاب النواب الذين ينوبون عن الأمة في المسائل التشريعية أو في اختيار الحكومة، وفي إعطاء الثقة لها، أو نزعها منها، وفي درء المفاسد عن الأمة، وغير هذا من المصالح المترتبة على دخول النواب في مجلس الشعب؛ فإذا أتيح للمسلم أن يشارك في انتخاب هؤلاء النواب؛ فإن وجهة النظر الشرعية أنها فرصة لا يجوز للمسلم أن يضيعها، إذ لا بد أن يكون لها دور في إزالة بعض المنكرات، أو إشاعة بعض أنواع المعروف، أو رفع الظلم عموما عن الناس ومنهم المسلمين، أو في إبعاد الفساد عن الدولة، ذلك الفساد بجميع أشكاله الذي يضر الناس جميعا، ومنهم بالطبع المسلمون.
وإذا تخلف المسلم عن المشاركة في مثل هذا الأمر؛ فقد قصر في القيام بواجبه الشرعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي أوجبه النبي ج بقوله: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ».
وإن من أهم وسائل إنكار المنكر، أن ينكره النائب عن الأمة، الذي يتلقى الناس عادة، وتتلقى الحكومات ويتلقى ذوي الرأي كلامه بالقبول، وتنشره وسائل الإعلام على كل صعيد، ومن ثَمَّ كانت المشاركة في الانتخابات ترشيحا، وإدلاءً بالصوت، نوعا من الجهاد الأكبر؛ لأن فيها جهدًا كبيرًا يبذل لخدمة الإسلام والوطن والمسلمين، وسائر الناس أجمعين، وفيها كذلك رفع لبعض الضرر عن الأمة، وكذلك إزالة لبعض المنكرات من حياتها ضمن الحدود التي يستطيعها النائب الذي يتقدم إلى ذلك المجلس التشريعي..
نعم هي جهاد أكبر لأنها فريضة الوقت، فقضية الإسلام اليوم هي انحراف كثير من الحكومات عن دين الله تبارك وتعالى وعن شريعة الحق وشيوع الفساد في كثير من الجوانب ومناحي الحياة على أيدي رجالات الدولة، والجهاد الأكبر هو في إصلاحهم أو استبدالهم.
ولا شك أن المشاركة في الانتخابات هي الوسيلة المعاصرة الآمنة لذلك، وهي التي تدخل في حدود الاستطاعة.
أما الذي لا يشارك في عمليات الانتخابات، فإنه يفوته القيام بهذا الواجب، وإن كان يقوم بواجبات أخرى، لكنها ليست بديلا فيما نرى عن المشاركة في الانتخابات، وأي أنشطة أخرى لا تزيل عن المتخلف إثم التخلف عن هذه المشاركة.
فالقائم بهذا الأمر له أجره، والمتخلف عن هذا الواجب عليه إثمه، والله تعالى يقول: ]وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ[ [الأنبياء:47].
وبناء على ذلك نقول:
أولا: العمل النيابي عن الأمة هو أسلوب من أساليب الحسبة، والمجالس التشريعية (مجلس الشعب وغيره)، هي منابر من منابر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبخاصة إذا كان الاعتماد في الحسبة هو التغيير باللسان وليس بالقوة التي لا تؤمن عواقبها، ولا شك أن الحسبة واجب شرعي عيني يمكن أن يكون باليد بشروط، كما يمكن أن يكون باللسان بشروط، كما يمكن أن يكون بالقلب وهو الحد الذي لا يعذر المسلم بتركه.
ثانيا: أُطمئن الذين يترددون عن المشاركة بزعم أن المشارك في مجالس لا تلتزم أحكام الإسلام يُضطر إلى أن يقبل بأحكام تخالف شريعة الله؛ أقول أبدا، إن المشاركة في المجالس النيابية لا تُلزم بقبول أي موقف تشريعي أو سياسي يُخالف الشريعة، بل للنائب أن يُعارض، وله أن يقدم البديل، وله أن ينتقد، وله أن يقاطع، وله أن ينسحب، وله أن يقدم المشروعات التي تتوافق وروح الشريعة السمحاء، فإذا كانت المشاركة للنائب لا تُلزمه بقبول موقف غير شرعي، فهذا دليل على إباحتها وجوازها، وعدم الجواز إنما يتعلق بالذين يمارسون النيابة عن الأمة بصورة غير شرعية، والذين يسكتون عن القوانين الباطلة، ولا يعارضونها، ولا يعملون على إصلاح النظام بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية، بل أقول أن عدم الدخول في المجالس النيابية وعدم المشاركة فيها، وعدم القيام بهذا الأمر مع القدرة والاستطاعة، أشبه بالهروب من المسؤولية والتولي يوم الزحف؛ لأن ترك هذه المواقع لمن يسخرونها لمحاربة الإسلام، ومخالفة الشريعة واستلاب حقوق الضعفاء والمحرومين من أي ملة كانوا ينافي مقاصد الشرع الحنيف، الذي جاء للعمل على تحقيق العدالة والمساواة، ورفع الظلم والقهر والتسلط عن عباد الله في حدود المستطاع.
ثالثا: المشاركة في المجلس النيابي أو التشريعي هي باب من أبواب الدعوة إلى الإسلام، وعرض أفكار الإسلام ومبادئه، من خلال المناقشة والحوار والاحتكاك بالآخرين، بل المجلس النيابي منبر من أخطر المنابر الدعوية وأعمها وأشملها وأفعلها، في إيصال الصوت الإسلامي إلى كل الناس، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم ومواقعهم السياسية والنقابية والعلمية والاقتصادية.
حقيقة إن المشاركة فرصة لعرض المشروع الإسلامي من جميع جوانبه، وبجميع مفرداته، حتى لا يبقى للناس على الله حجة.
وأخيرا إن المشاركة في المجالس النيابية والتشريعية من شأنها أن توفر الكثير من الفرص لتحقيق مصالح الناس، ودرء المفاسد عنهم، وتقديم المشروعات التي تساعد على تحقيق الإنماء المتوازن والإعمار المتوازن، والدعوة إلى تكافؤ الفرص أمام جميع أبناء الأمة.
وعلى هذا فإن مشاركة الإسلاميين في المجالس التشريعية في كل الأحوال، باتت ضرورة ملحة، تفرضها اعتبارات كثيرة:
منها، الانتقال بالطرح الإسلامي من المستوى النظري التجريدي الوعظي الخطابي إلى المستوى العملي التجريبي.
ومنها، تعريف الغير بالمشروع الإسلامي وأصالته ونقائه وخصائصه المختلفة، وخصوصا بعد أن أصابه تشويه مفتعل متعمد من أولئك الذين تكلموا باسمه أو مارسوا تحت عنوانه ممارسات شاذة غير صائبة وغير حكيمة.
ومنها، إننا حين نترك مشروعنا الإسلامي ليتحدث عنه الغالون، أو يتحدث عنه الجافون فإننا نظلم مشروعنا الإسلامي، وإن من واجبنا أن نعرف الغير بحقيقة هذا المشروع بأصالته وجزالته ونقائه ومرونته.
ومنها، الانتقال بالحركة الإسلامية من إطار الشريحة التنظيمية إلى إطار الحالة الجماهيرية، وبالتالي تطوير الطرح والخطاب والممارسة تطويرا نوعيا كميا من شأنه أن ينتقل بالحركة من قيادة النخبة إلى قيادة الأمة.
ومنها، أن من واجبنا تعبئة الفراغ الذي خلفه سقوط التيارات العلمانية والقومية المختلفة، التي كانت وإلى فترة غير بعيدة مصادرة للقرار السياسي باسم المسلمين، هذه التيارات التي سقطت، وبان عوارها، وانكشفت سوءاتها، يحتاج الأمر إلى مليء الفراغ الذي خلفه سقوطها، ولا يملأ هذا الفراغ إلا حملة دعوة الإسلام، ورسالة الإسلام الذين يجبوا أن يفقهوا هذا الأمر، وأن يشاركوا في هذه العملية.
ومنها، تحقيق حالة الانسجام مع المد الإسلامي الدعوي والمقاوم، المتنامي في كل أرجاء الدنيا، والذي يتهيأ لأخذ دوره على كل صعيد، لنقوم بطرح الإسلام كبديل حضاري وتشريعي وحيد، ليس للمسلمين فقط، بل للبشرية برمتها.
إنه لم يعد مقبولا أن تبقى الساحة الإسلامية بعيدة عما يجري، وغير عابئة ولا مشاركة ولا صانعة لما يجب أن يجري، أو لما يمكن أن يجري.
إن على كل فصائل الحركة الإسلامية أن تتقدم للمشاركة في هذه العملية الانتخابية تحت سقف مشروع إسلامي وطني واحد لمواجهة العربدة والمشاريع الأمريكية الصهيونية التي تريد أن تجتاح الأمة على كل صعيد.
وللحديث بقية بإذن الله تعالي