تأثير العمالة الوافدة على اللغة العربية في قطر
تأثير العمالة الوافدة
على اللغة العربية في قطر
د. نعيم محمد عبد الغني
شهدت دول الخليج بصفة عامة ودولة قطر بصفة خاصة إقداما كبيرا للعمالة من شتى بقاع الأرض، اختلفت ألوانهم وألسنتهم، وتوحدت غايتهم؛ فهم قد ولوا شطرهم نحو الخير الموجود في هذه البلاد لما تشهده من نهضة اقتصادية كبرى، عم خيرها الناس جميعا.
ولا شك أن في ذلك إيجابيات كما أن له سلبيات، فهي ظاهرة بشرية غير معصومة من الزلل على أية حال، ومن ثم يجب التعامل مع العمالة الوافدة على هذا الأساس فنزيد من إيجابياتها، ونحد من السلبيات قدر المستطاع.
ومن السلبيات الخطيرة التي تترتب عليها آثار اقتصادية واجتماعية وأخلاقية ازدواجية اللغة والصراع اللغوي بين هذه العمالة الوافدة، فبإمكانك في موقف واحد أن تسمع أكثر من لغة، وأن تشاهد أكثر من جنسية، وهذا له سلبياته التي تتمثل في عدم الفهم أو سوئه وضياع الوقت والمال ...إلخ.
معجم لغوي هجين يجب على الوافد الجديد أن يحفظه كي يستطيع أن يقوم بشؤونه في هذا البلد؛ (سيده: أي امش على طول – طرش له: – سمسم: أي مثل هذا مأخوذة من الإنجليزية (same)....إلخ) هذه الكلمات التي تدخل في جمل لا تفيد إلا بعد تعب، ولا تفهم إلا بعد نصب، ناهيك عن اعتباطية في تركيب الكلمات في بناء هذه الجمل، وفقدان الجمال والتمتع بسماع اللغة. وناهيك عن استخدام لهجات أكثر بين أبناء الوطن العربي الذين يكتسبون بعض الكلمات من اختلاف اللهجات بالاحتكاك المباشر، لتكون اللهجة المصرية أكثر اللهجات انتشارا بين العرب؛ لتأثير الإعلام المصري من مسلسلات وأفلام وبرامج انتشرت في النصف الثاني من القرن العشرين وتربى عليها كثير من أبناء الوطن العربي.
أما اللهجات الأخرى التي أتت نتيجة ثقافة محلية أو تأثيرات أجنبية فإنها تحتاج إلى معجم خاص، فمثلا (ستيلو) تعني القلم في المغرب وهي كلمة فرنسية (stylo) ناهيك عن (مزيان أي جمبل وبزّاف يعني كثير، علاش يعني لماذا؟ وواخة يعني حاضر وكوزينا يعني مطبخ...إلخ هذه الكلمات التي تحتاج إلى كثرة سماع ليفهمها أرب اللغة الواحدة.
لقد كانت مدام دي ستال الفرنسية تعتز بلغتها، فتجعل حروف الفرنسية قيثارة تعزف أجمل الأحان، فتطرب لها الأذن وتستريح بها النفس، أما هذا الواقع اللغوي المتأزم فقد جعل من اختلاط اللغات ضوضاء تتأذى منها المسامع، وتذرف لها المدامع لما آل إليه الوضع الراهن ليصبح الفتى العربي غريب الوجه واليد واللسان.
سوء في الفهم ترتبت عليه مواقف محرجة، فليس مستغربا أن تجد أهل بلد يتكلمون بلغة غير لغة واحد يسمع حديثهم، فيظن أنهم يتكلمون عليه أو يسخرون منه إذا ضحكوا مثلا في كلامهم، ولعمري فقد كان حديث النبي –صلى الله عليه وسلم- القائل: (لا يتناجى اثنان دون الآخر فإن ذلك يحزنه) وقاية من سوء الظن وسوء الفهم.
ويترتب على سوء الفهم خسارات اجتماعية وسياسية واقتصادية؛ مما دفع بكثير من الباحثين لعلاج هذه المشكلة مثل فلوريان كولماس في كتاب بعنوان اللغة والاقتصاد.الذي ترجمه للعربية الدكتور أحمد عوض. وصدر في سلسلة عالم المعرفة وحاول من خلاله بيان التأثير اللغوي في حركة النمو الاقتصادي سلبا وإيجاباً.
ولكن بعيدا عن هذا التنظير لنستمع إلى الناس لندرك ما يترتب عليه من أضرار في عدم التواصل اللغوي، وقد حرصنا على لقاء عينة من الناس يمثلون مهنا مختلفة فكانت لكل واحد حكاية، ولكل حدث حديث.
عثمان سائق يتحدث باللغة العربية الأم، يمكث في الدوحة خمسة عشر عاما، له قصص طريفة مع اللغة، فهو من خلال عمله رأى من يتكلم الهندية والأوردية، فتضايق من عدم الفهم وقرر أن يتعلم هاتين اللغتين وهو يتكلم بهما بطلاقة إضافة إلى عدد من كلمات اللغة الإنجليزية، وقد حكى موقفا طريفاً عن أحد الذين عمل معهم؛ حيث كانت طائفة من الهند تتكلم بلغتهم ويضحكون وينظرون إليه فظن أنهم يسخرون منه فقرر أن يثأر لكرامته على طريقته الخاصة؛ حيث جاءه أحدهم طالبا منه أن يعلمه اللغة العربية في مقابل أن يعلمه الهندية، فوافق عثمان على الفور، وكانت أول جملة يعلمها عثمان للهندي الذي كان يعمل في أحد المحلات (تفضل يا لوح) وهي تدل على السباب، وقال له عثمان كل من يأتي ليشتري شيئا فقل له فور مقابلتك له (تفضل يا لوح)...بعض الزبائن كانوا أجانب لم يفهموا دلالة الجملة، وبعضهم فهم الدلالة وأعرض عنه فلم يشتر منه، غير أن واحداً ضخم الجثة عظيم البنيان دخل فقال له الهندي هذه الكلمة فسبه وهم بضربه فأحس عثمان بخطئه وذهب لينقذ الهندي من أول درس أوقعه في التهلكة معترفا للرجل ببعض ما حدث.
أما محمد الذي يعمل نجارا فإنه قرر أن يحزم أمتعته ويرجع إلى بلده بعد أن أعياه التواصل مع عمال فيتنام الذين لا يفهمون العربية ولا الإنجليزية ولهم لغة لا يعرفها كثير من الناس، وقد أعيته لغة الإشارة، وأحس بالضيق فقرر الرحيل.
ويقول فوزي الطاهر الذي يعمل بالدوحة منذ أربعة عشر عاماً إنه يجد عنتا في التعامل مع الجنسيات الأخرى، وعندما يذهب لإنهاء عمل حكومي فإنه قد يجد الموظف يتكلم الإنجليزية ويجد أنه لا بد من أن يقرأ اللغة الإنجليزية وإذا لم يجد مترجما من "أولاد الحلال" ليترجم له بأمانة الحوار الذي قد يعرف المترجم منه على بعض الأسرار الشخصية كرقم الحساب في البنك مثلا فإنه يكون محظوظا، وأما إذا لم يجد فإنه قد يفعل شيئا ضد رغبته بسوء الفهم أو عدمه، وهذه مشكلة كبرى.
أما المحلات التجارية فحدث ولا حرج، فالقائمون عليها من الجنسيات المختلفة جعلوا اللغة الإنجليزية لغة رسمية للتواصل، وأصبحت اللغة العربية في المرتبة الثانية، وكثيرا ما يجد المشتري صعوبة في توصيل ما يحتاجه.
واللافتات والعلامات الإرشادية تكتب بالإنجليزية والعربية والفارسية والأوردية، وقد يكتبها غير العرب؛ مما جعل كثيرا من اللافتات وعلامات الإرشاد في الشوارع والمحلات وغيرها مليئة بالأخطاء.
هذه المشكلة الكبرى التي ليس لها نظير في دول العالم هل تحل كما تفعل بعض الدول كألمانيا مثلا في فرضها على الوافد بأن يتعلم لغة البلاد الأم (الألمانية) ولا يسمح لأحد أن يلقي بحثا في مؤتمر إلا بالألمانية مهما بلغت أهمية البحث والباحث؟
توجهنا بالمشكلة إلى الدكتور عبد السلام حامد الأستاذ المشارك بجامعة قطر، ليجيب على هذا السؤال فبين أن الخليج بصفة عامة به خليط عجيب معقد يختلف عن كل دول العالم، وما يحدث في ألمانيا لا يمكن تطبيقه في دول الخليج؛ نظرا لكثرة الوافدين وتنوعهم، غير أنه أشار أن قطر بها هيئات تقوم على نشر الدين الإسلامي الذي يستتبع بالضرورة تعليم اللغة العربية وهذه خطوة مهمة جدا في حل المشكلة، وبين أن بجامعة قطر مركزا لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، ولكن طلبته من الطبقة المثقفة، كما أن هناك الهيئات الخيرية في قطر وهي كثيرة كقطر الخيرية وعيد الخيرية وغيرها، فمثل هذه المؤسسات تحاول أن تحل جزءا من المشكلة.
ويؤكد على أهمية هذه المؤسسات وغيرها من وسائل الإعلام بترسيخ الوعي لدى الناس بأهمية نشر اللغة العربية بحيث يجد الوافد نفسه مضطرا لتعليم اللغة العربية كي يستطيع قضاء شؤونه فيقول: "كل لغة لها مجموعة من الوظائف تؤديها تتجاوز التعبير عما في النفس وتحقيق التواصل الاجتماعي هذه حقيقة لا جدال فيها، لكن عدم الوعي بها بسبب تدافع الآراء وبلبلة الفكر والانسياق وراء الهوى وضياع الحقيقة اللغوية بناء على هذا لأي كون الحديث عن العربية وقضاياها في زمن العولمة من قبيل القدوم من عالم آخر، أو التشتنج الفكري والتطرف أو الرجوع إلى الماضي وما وراء الطبيعة"
وهكذا نجد أن الاختلاط اللغوي ضرورة اجتماعية وضرورة اقتصادية لها سلبياتها التي قد يكون الإعلام بصوره المختلفة متحملا عبئا كبيرا في حل الازدواجية اللغوي والصراع اللغوي؛ فيسهم في نشر لغة فصحى سهلة يتعامل بها الناس رسمياً في حياتهم اليومية؛ فيتأثر بها الوافدون من غير اللسان العربي، وتكون تفاديا للهجات محلية قد يصعب فهمها بين أبناء الوطن العربي لتنتشر اللغة العربية وجماليتها في العالم كله، فهي لغة القرآن وهي لغة لها جمال وجلال، وتلك حقيقة عرفناها وتجربة عشناها ويقين تيقناه.