أخطار إدراج
(المصادر) على ذهنية المتلقي
راسم المرواني
العراق / عاصمة العالم المحتلة
لا أعرف كيف يستسيغ البعض تسمية رسائل الماجستير والدكتوراه المتعلقة بالعلوم الدينية والإنسانية وغيرها بـ (الأطاريح) ، مادام أنها عبارة عن مجموعة نصوص مقتبسة عارية عن رأي الباحث ؟ وما دامت هوامش المصادر أكثر مساحة من الحشو الذي يدرجه الباحث في رسالته ، ولا أستطيع فهم إلحاح وتأكيد ومتابعة المشرفين على هذه الرسائل بتدقيق الهوامش والمصادر والاستقتال على إدراجها وتزويقها وتثبيتها ، بل لم يكتف البعض بذكر المصدر دون أن يدرج معه تأريخ المؤلَّف وسنة الطباعة واسم المطبعة ، وربما غداً أو بعد غد نجد من يطالب بإدراج عدد النسخ المطبوعة من المؤلَّف لإثبات مصداقية النقل .
إن ذكر المصادر بهذا الشكل هو نوع من أنواع تغييب الوعي ، واختزال قدرة الإنسان على المتابعة ، وغمط حقه في التفكير ، ووضعه في زاوية ضيقة لا يمكنه الخروج منها إلا بشق الأنفس ، وهي نوع من أنواع الجاهزية التي تؤدي إلى ضمور القابلية البحثية عند القارئ .
وإن من أكبر مشاكل التأليف هو انزياح الكاتب نحو طرح واحد متعلق بمتبنياته ، ولذ نجده يتعامل مع المصادر بشكل انتقائي ، محاولاً الترويج لفكرة واحدة دون إدراج نقائضها ، والمشكلة الأكبر هي أن يتعامل الكاتب مع القارئ معاملة الأب الروحي مع الابن أو معاملة الأستاذ مع تلميذه المطيع ، أو معاملة الملقي مع المتلقي المحدود .
وغالباً ما نجد الكاتب أو المؤلف يمارس دور المروّج للفكرة عبر انتقاء المصادر التي تثبت مصداق طرحه ، تاركاً وراءه كمـّاً من المصادر التي تناقض هذه الفكرة ، ومعولاً على عجز وكسل القارئ في البحث والتقصي ، وتوجيهه نحو نقطة واحدة في الفهم ، ودفعه نحو مساحة ضيقة ومحدودة ، وهو – أعني الكاتب – يستطيع حماية نفسه من دعاة (الموضوعية) والأسس الأكاديمية وقضاتها أثناء التأليف ، ويستطيع في نفس الوقت أن يسيطر على ذهنية المتلقي وكأنه يمارس معه آلية التنويم المغناطيسي ، وبالتالي فهو يتحول من آلية (التأليف) إلى آلية (التوليف) .
إن أغلب المؤلفين يعتمدون أسلوب حشو ذاكرة القارئ بما يناسبه ، فالأعم الأغلب منهم يعرف أن السوق الضامنة لترويج وتصريف بضاعته لا يخرج عن حدود (المنطقة) الفلانية أو (الفئة) الفلانية ، أو (الطبقة) الفلانية ، وهو يعتمد على أن هناك تخصصية في انتخاب القراء حسب عنوان الكتاب أو الفكرة المطروحة فيه ، ولست ألومه في ذلك ، فنحن غالباً ما ننتقي الكاتب الذي يتطابق مع تطلعاتنا ونزعاتنا ورغباتنا وأفكارنا وموروثاتنا ، وبالتالي فقد انحسرت الموسوعية ، وتضائلت رغبة القراء في قبول الرأي الآخر ، وانغلقت ذهنية القارئ عن التوسع ، وفقد الرغبة في عبور النهر ، وضاعت عليه فرصة سماع الرأي في الضفة الأخرى .
ولو إننا رأينا أحداً يلملم متاعه راحلاً إلى الضفة الأخرى فأغلب الضن أنه يقرأ كتب الآخر لكي يرد عليها أو يفندها أو ينقضها أو ليعرف كيف يفكر عدوّه كي يستحضر آليات الرد عليه ، وهذه بحد ذاتها مشكلة في القابلية الذهنية عند مروي الفكر الواحد .
إن أغلب المسلمين يقرأون – على سبيل المثال – كتب العهد القديم والجديد ، ليقتنصوا الهفوة ، أو ليجدوا منطلقاً أو فرصة للتجريح والتشريح بالمسيحيين واليهود ، وكذلك يفعل اليهود والمسيحيين حين يقرأون القرآن وكتب السيرة بحثاً عن هفوات أو سقطات أو آيات يمكن توظيفها في عمليات تقديم الطعون وتشويه الآخر .
وكذلك يفعل المؤمنون بالشيوعية مع الرأسماليين ، ويفعل الرأسماليون مع الإشتراكيين ، ويفعل المتدينون مع العلمانيين وبالعكس .
إن من غير المتوقع أن تجد كتاباً يمثل أطاريح الفكر الشيعي يمكن تداوله بشكل مسموح ومشاع في مكتبات المملكة العربية السعودية ، ونادراً ما تجد كتاباً ينظر للفكر الوهابي في مكتبات النجف الأشرف ، ومن المستعصي أن تجد كتاباً يروّج للرأسمالية في مكتبات موسكو، أو كتاباً يروَج للشيوعية في مكتبات واشنطن ، وخصوصاً المكتبات التابعة للسلطة ، وهذا نوع من أنواع الجاهزية الفكرية الممتنعة عن التلقي ، ونوع من أنواع ديكتاتورية الرأي .
إن أخطر ما يمكن أن يفعله القارئ هو أن يكون عبداً لكتاب صادر من مؤلف يتطابق معه في الرأي والأيديولوجيا ، والأخطر من ذلك هو أن يقرأ القارئ كتاباً من الرأي الآخر وهو يحمل في مخيلته فكرة منغلقة جاهزة مسبقة ، وربما يدخل إلى ساحة الرأي الآخر مدججاً بأسلحة الحماية من التأثر بالآخر ، وبذلك تنطلي عليه خدعة الكتاب المتمزمتين بمبدأ (ذكر المصادر) دون أن يكلف القارئ نفسه مسؤولية البحث ، ودون أن يحترم قدراته الذهنية على التقصي .
لقد استفاد الكثير من الكتاب من لعبة (المصادر) ، وأخذوا يقتنصون أجهزة التحكم بالإنسان ، ويوجهونه بالاتجاه الذي يريدون ، معتمدين على مبدأ العبودية التي يتسافل إليها بعض القراء ، ومنطلقين من خطورة (الذائقة الفكرية) عند القارئ الكسول ، فيدرجون له مزيداً من المصادر ، وبما يؤيد أفكارهم وما يحتاجون لترويجه ، دون أن يكلفوا أنفسهم مغبة التفكير بالمسؤولية التاريخية في إدراج المصادر المضادة أو المناقضة ، وهم بذلك يستعبدون الإنسان ويختزلون قابليته على الاختيار ، ونجدهم يذكرون له (النص) ، ويدرجون له اسم (المؤلف – بكسر اللام – والمؤلف – بفتح اللام) ورقم الجزء الصفحة والسطر ، وسنة طباعة الكتاب واسم المطبعة ، وهم بذلك أشبه بمن يحمل (ريموت كونترول) ليتحكم به بمفردات الشخوص الداخلة في اللعبة .
المفترض بالكاتب أن يستخدم الإشارات حين يحتاج إليها ، وأن يقول للقارئ – مثلاً – إن (هيجل) يقول بأننا (يمكن أن نلتقي بنفس الأشخاص مرتين خلال حياتنا ، ذلك لأن التاريخ يعيد نفسه) ثم يترك للقارئ مسؤولية البحث عن المقولة في مؤلفات (هيجل) ويمنحه فرصة الإطلاع على المزيد من مؤلفات وأفكار ورؤى هيجل ، وحين يقول له بأن السيد المسيح يقول في الكتاب المقدس ( الحق أقول لكم إني ما جئت لأنقض الناموس) فينبغي عليه أن يترك للقارئ فسحة ليراجع العهد الجديد ، ويسبر أغواره ، ولا بفوت عليه فرصة التعرف والاستطلاع بعيداً عن المحدودية والجاهزية .
وحري بنا التخلص من لعبة المصادر خصوصاً وإننا لفي زمن تعددت في المنقولات ، وكثرت فيه التناقضات ، وازدادت فيه آليات النسخ والتحريف والرواية المضادة وسوء النقل والتصرف ، وقد تنجح عملية إدراج مصدر لنص شعري أو نثري ، ولكن هذا – أيضاً ليس بمجدٍ في حالة النصوص المترجمة ، بسبب اختلاف التراجم .
يمكن أن نفهم بأن الكاتب الذي يملأ مؤلفه أو منجزه بالمصادر التي تتطابق مع متبنياته بأنه كاتب تجاري يروج لمشروع معين ، أما الكاتب الذي يستخدم الإشارات ، ويمنح القارئ حق التقدير والاختيار فإنه كاتب يحترم الآخر ، ويجيد لغة الحوار ,,,ويؤمن بالحوار .