الواقع بعيون "جريئة"

الواقع بعيون "جريئة"

رغداء زيدان/سوريا

[email protected]

عرضت إحدى المحطات التلفزيونية لقاءً مع أحد الممثلين حيث قال إن الفن هو الطب الوقائي للمجتمع, وبالتالي فإن عرض ما سمّته مقدمة اللقاء "جرأة" في طرح قضايا "مسكوت عنها" في الدراما السورية هو أمر مهم ويجب تشجيعه, وقد أردف الممثل بأن من ينتقد تقديم مثل هذه الأعمال التي تتحدث عن مواضيع "شائكة" عليه أن يرجع لصفحة الحوادث في الجرائد أو يعود للمحاكم ليرى بنفسه مدى كثرة هذه الأشياء التي "نهرب" من الحديث عنها بحجة المحافظة على القيم! طبعاً كان الحديث حول عرض واقع مملوء بالغش والخداع والنفاق والبعد عن الأخلاق والتطرق لمواضيع النقاب والحجاب (الذي هو علامة قهر في مسلسلاتنا, ويدل على أن من ترتديه من طبقة اجتماعية دنيا جاهلة, وكأن النساء غير المحجبات في مجتمعنا مدللات ولسن مقهورات ومن طبقة اجتماعية عليا ليس فيها أي محجبة!), واقع معظم من فيه يعاني من الكبت الجنسي (الذي برعت في وصفه الكاتبات السوريات خصوصاً, فالكتابة عن الجنس صارت في عالم الأدب والفن علامة فارقة للكاتبات الجريئات المتحديات لمحظورات المجتمع!).

لقد صارت هذه الأعمال تعرض بيئات لمجتمع مفترض معظم من فيه غشاشون كذابون أشرار مكبوتون مقهورون يائسون....إلخ, حتى يظن المشاهد أنه يعيش في واقع لا يختلف عن واقع ملهى ليلي أو ماخور بغاء وقمار, مجتمع سكارى يبكون حالهم فقدوا الطموح والقدرة على العمل المفيد أو حتى مواجهة الذات بصدق, واقع ليس فيه قيم أو حدود أخلاقية أو موانع أو محرمات حامية.

حينما سمعت استشهاد الممثل بصفحة الحوادث وملفات المحاكم تذكرت مقالاً لجلال أمين يتحدث فيه عن إعلام الجماهير الغفيرة, حيث تحتل فيه مثل هذه الحوادث مركز الصدارة لجلب القراء فتقدم لهم مادة تثير مشاعرهم ولا تحتاج منهم لكثير تفكير أو تعليل وبالتالي لا يشترط فيها الصدق أو الواقعية بل يمكن أخذ حادثة ما, بتجرد بعيداً عن كل ما يحيط بها من ظروف أدت لحدوثها أو أثّرت في أحداثها, (هذا إن حدثت فعلاً ولم تكن أساساً ملفّقة!), والهدف ليس تثقيفياً أو توعوياً بل هو هدف تجاري يركز على نسبة التوزيع التي ستضمن نشر إعلانات تجارية تصيد المواطن وتسلبه إرادته الاستهلاكية.

وبرأيي فإن ما تقدمه هذه الأعمال هو تماماً مثل ما وصف جلال أمين, لا يهمه بالدرجة الأولى إلا شد المشاهد لتصريف العمل الذي سيكون أيضاً أداة لعرض إعلانات تجارية هدفها جيب المواطن وما فيه من مال لإقناعه بالسعي للحصول على منتجات ليس بحاجة لها غالباً.

وبصراحة شديدة إن مقولة الفن هو الطب الوقائي للمجتمع هو قول جميل ومعبر لكنه في الواقع أبعد ما يكون عن الواقع, لأن هذه "الجرأة" التي يتحدثون عنها هي جرأة غير سامية الهدف, لا يهمها المناقشة الحقيقة للمشكلة لأنها لا تعرضها أصلاً كما يجب, بل تعرضها بطريقة تجارية تراعي بالدرجة الأولى معايير المحطات التي ستعرض هذا العمل الذي سيشد المشاهد (ومن فترة ليست قريبة أدركت العقول التجارية أن اللعب على وتر الغرائز هو أنجع السبل للوصول إلى النتيجة المطلوبة والتي هي "التحكم" بقرارات المواطن الاستهلاكية) حيث تكمل المحطة إحكام شبكة صيدها حوله لتقديم إعلاناتها التجارية التي هي قوام هذه المحطات وسبب استمرارها.

نقطة أخرى أود طرحها هنا, وهي تلك النظرة المتعالية التي يتعامل بها هؤلاء الكتاب وهذه الأعمال مع المجتمع ككل, حيث تكون فئات المجتمع مقسّمة طبقياً بصورة مضحكة: فهناك تقسيم ريف ومدينة (حيث أهل الريف أقل تحضراً وثقافة ووعي من أهل المدينة), وتقسيم آخر يعتمد على الوظيفة الاجتماعية: "فالمثقفون" "الواعون" هم الذين يعيشون حياتهم "بحرية" بعيداً عن قيود المجتمع, التي هي بنظرهم مجرد خزعبلات تافهة منافقة....إلخ, وغالباً هم يشتغلون بالأعمال الأدبية والفنية والموسيقية والصحفية وفي أحسن الحالات هم من اختصاصات جامعية (اختصاصات جامعية محددة, فليس كل حامل شهادة جامعية يستحق الانتساب لتلك الطبقة "الواعية" في مسلسلاتنا), أما باقي أفراد الشعب كأصحاب الأعمال الحرة, والمشتغلين بالزراعة والصناعة والأعمال الحرفية الصغيرة والمشايخ ورجال الدين (الدجالون غالباً) (إلا في حال عرضهم لرجل دين مستكين هادئ هدوءً مصطنعاً, منعزلاً, لا يشارك في الحياة الاجتماعية إلا بصورة خجولة غير فاعلة) فهؤلاء طبقة أخرى متدنية جاهلة تنساق وراء قيود المجتمع, تنافق, تداهن, تلتزم بالمظاهر الاجتماعية وتحرص على تلك "القيود" المجتمعية وتحاسب الخارجين عليها رغم أنهم في الخفاء لا يلتزمون بها!.

صنّاع الدراما هؤلاء الذين يهاجمون أفراد المجتمع بحجة "تعرية الواقع" ومهاجمة "النفاق الاجتماعي" هم من يعتمدون على رؤوس أموال لمنتجين يعتبرونهم تجاراً, ويخضعون في عملهم لشروط هؤلاء "التجار" ولا يمكن أن يقدموا عملاً درامياً إلا بما يتوافق مع متطلبات رؤوس الأموال المنتجة. ومؤخراً كتب أحدهم مقالاً في جريدة الأخبار اللبنانية عن تلك الدراما التي "فضحت ترويضنا للعيش" حسب قوله, فقد اعتبر أن إنتاج مسلسل "جريء اجتماعياً" بتمويل من "رأسمال أصولي" أمر أصبح ممكناً ويمكن أن يمر لأنه, كما قال, لم يمر كما أراد صانعوه الأساسيون, ولأنه لا يخص مجتمع التمويل الأصولي. ( انظر: ورد كاسوحة, جريدة الأخبار اللبنانية, 10 أيلول, العدد 1215)

انظروا إلى هذه التبريرات التي يسوقها هؤلاء لاعتمادهم على تلك الأموال التي يشتمونها ويحتقرونها ويجهّلونها, رغم أنها هي من مولّت عملهم, الذي لم يخرج كما أرادوا!, فأي جرأة هنا؟ وأي بعد عن النفاق والغش والخداع الذي يحاولون إظهار أنفسهم به؟؟.

صناعة الدراما مهمة جداً, لكن هناك اليوم أعمالاً كثيرة لا تلعب دور "الطب الوقائي" بل صار دورها حقن المجتمع بالجراثيم الممرضة التي تزيد طينه بلة, والتي تركز على مواضيع استهلاكية تضع في حسبانها ترويج العمل قبل أي رسالة أخرى يدعيها هؤلاء. ومهما تشدّق العاملون بمثل هذه الأعمال "بالرسالة السامية" التي يحملونها فهم مجرد مرتزقة, يهدمون ولا يبنون, وينهبون ولا يعطون.